د. عماد عبدالوهاب الضمور
ناقد وأكاديمي أردني
أحدث مخلد بركات تغييرًا في شكل القصة القصيرة، وذلك بإنتاج متوالية سرديّة بعيدًا عن النمط التقليدي في القص، وهذا عزَّز من أهميّة المتلقي المشارك في الإبداع، حيث تضم "رُباعيات الفردوس" أربع رباعيات، في كلّ رباعيّة أربع قصص تُشكّل متوالية قصصيّة تتمحور حول الإنسان ورؤية الوجود، جاءت في تركيب سردي مُتقَن وظّف فيه مخلد شخصيّات ملحمة جلجامش بوعي فكري ومقدرة فنيّة واضحة. ومن جانب آخر فإنَّ هذه المتوالية تكشف عن علاقة فن القصة بفن الرِّواية وفن السينما؛ وتطرح مسألة العلاقات التي يمكن إقامتها بين الفنون الإبداعيّة بفعل التطوُّر التقني الواضح والتقدُّم الحضاري.
جاءت المتوالية القصصية "رباعيّات الفردوس" للقاص الأردني مخلد بركات محمّلة بقيم فكريّة خصبة، وبناء فني ناضج، إذ يواجه بركات متلقّي قصصه بلغة مكثَّفة، ذات إيحاء كاشف لانزياحات اللغة، وعمق الأفكار، فضلًا عن البلاغة التعبيريّة التي تقوم بوظيفتها الاتّصاليّة؛ لتصبح في النهاية فعاليّة المتلقي نفسه.
إذْ يكشف البناء الفني لقصص بركات عن براعة أسلوبيّة، وهندسة لغويّة واضحة، أعانته في تشكيل لوحته الفنية ببراعة، كما في قصته الأولى (ملح) التي تغوص في أعماق التكوين المعرفي مستبيحًا إمكانيّات اللغة التعبيريّة، وطاقتها التصويرية: "في السفح شجرة طلح بازغة كالكذبة الموجعة، أغصانها فقيرة إلى حدّ الملاريا، اضطجع بعد أن أركن الصندوق تحت ساق الشجرة. انتبه إلى قميصه، بقعة كلون برتقالة، جهة القلب تمامًا"(1).
فالشكل التعبيري، والتقنيات الفنيّة والصور البلاغيّة لا تأتي من فراغ، بل ترتبط جميعها بفكر الكاتب، وموقفه من الواقع؛ لأنَّ وظيفة القاص ليست إبلاغيّة بقدر ما هي بلاغيّة أيضًا، ودلاليّة في مواضع كثيرة.
علائقيّة واضحة يُبرزها مخلد بركات في مجموعته القصصيّة تكشف عن علاقة فن القصة بفن الرواية، وفن السينما، وذلك في متوالية قصصيّة مدهشة تعدُّ من أساليب المثقافة التي أشغلت الكتّاب والنقاد في العصر الحديث.
تطرح "رباعيّات الفردوس" مسألة العلاقات التي يمكن إقامتها بين الفنون الإبداعيّة بفعل التطور التقني الواضح، والتقدم الحضاري، فثمة تأثير متبادل بين فن وآخر، وثمة علاقات داخل الجنس الأدبي نفسه.
يصوغ مخلد بركات متواليته القصصيّة متكئًا على ثقافة أسطوريّة جعلت من ملحمة جلجامش بشخوصها ورؤيتها الفكريّة وأبعادها الوجوديّة ضفافًا يرسو عليها الكاتب؛ ليُقيم جدليته الفكريّة بثنائية مختلفة: الموت والخلود، الانتصار والهزيمة، الحضور والغياب، ويُجيب عن أسئلة وجوده في الزمن والتاريخ والتراث.
إنَّ الأسطورة أرض القصة القصيرة، ومهادها الخصب، حرَثَها مخلد؛ لتُنبت زرعًا خصبًا عبر متوالية سرديّة ذات صلة بالواقع، راسخة الجذور، عميقة المعنى، انتظم فيها فعل السرد في تركيب سردي متقن، حيث يحتاج المتلقي لقراءة ملحمة جلجامش، وتحليل شخصياتها الأسطوريّة التي وظّفها مخلد بوعي فكري ومقدرة فنية واضحة، كما في قصة (قارب) التي جاء مفتتحها السرديّ بتناص أسطوري: "وما كنتَ قبل اليوم إلا بشرًا يا أوتنابشتيم!"(2).
ولا يخفى على المتلقي أنَّ الحمولة الفكريّة الخصبة لشخصية (أوتنابشتيم) عكست ثقافة أسطورية واسعة تمتع بها الكاتب، جعلته يجنح إلى الحديث عن استحالة الخلود، وحتميّة فعل الموت. وهذا جعله أحيانًا يحوّر النص الأسطوري؛ ليخلق منه فضاءً نصيًّا قابلًا للقص، ومقتربًا من الواقع باستمرارية الصراع البشري، وترسيخ فكرة الفناء الإنساني، كما في توظيفه لشخصية (أنكيدو) الأسطوريّة: "بعد طلوع الفجر وصل البحيرة، استراح قليلًا على ضفاف الماء، ثم سمع تخابطًا وصراعًا مريرًا في الأكمة القريبة، صرخ: ـأنكيدو، أنكيدو.. وانقضّ حاملًا خنجره إلى أعماق الأكمة؛ ليجده طريحًا والخنزير خلّف وراءه انكسار أعواد الحلفاء. سجَّاه بين الحشائش وغطّاه بالأعواد لعلمه أنّه سيتحلل خلال أيام، ولن تنال منه وحوش البراري"(3).
أحدث مخلد بركات تغييرًا في شكل القصة القصيرة، وذلك بإنتاج متوالية سرديّة بعيدًا عن النمط التقليدي في القص، وهذا عزز من أهمية المتلقي المشارك في الإبداع، حيث تضم رُباعيات الفردوس أربع رباعيات، في كلّ رباعيّة أربع قصص تُشكّل متوالية قصصيّة تتمحور حول موضوع واحد هو الإنسان، ورؤية الوجود؛ فالإنسان في حيرته، وأسئلته القلقة المقلقة، وسعيه إلى إيجاد إجابات شافية عنها أسَّس لموضوع أثير عند الفلاسفة والمفكرين، أصبح يُلامس الفنون السرديّة كما التصق بالشعر من قبل ذلك.
يعمد الكاتب في قصصه إلى التكثيف، وعدم الانسياق وراء أيّ ترهُّل لغوي أو فكري؛ لتأتي في نهاية الرباعية فكرته المجرَّدة، ووعيه العميق في الحياة. إذ قسّم رباعياته إلى مَشاهد، كما في رباعيّته الأولى (رباعيّة الفناء) التي يجعلها في رباعيّاته بعنوان (بقجة ملح في قارب)، حيث جاءت قصّته الأولى في الرباعية بعنوان (ملح)، وفي القصة الثانية بعنوان (قارب)، وفي القصة الثالثة التي جاءت بعنوان (بقجة)، وهكذا حضرت هذه المفردات مجتمعة في قصته الرابعة التي يستلهم من خلالها أحداثًا وشخصيات أسطورية.
إنّ نزعة التحديث داخل هذه القصص تتبدّى في إلحاح القاص على انتظام الرباعية دونما الإخلال بالبنيّة السرديّة أو عناصر القصة الفنية، فمن الواضح امتلاك مخلد بركات لثقافة أسطوريّة استطاع استحضارها في رباعياته، لتحويل مادته الخبريّة إلى سرد قصصي، إذ غالبًا ما يعتمد على التلميح في بناء المشهد القصصي، حيث ينشغل القاص بتفاصيل معيّنة تُساهم في تحوُّل الوصف إلى كثافة ذهنيّة، تشعُّ منها فيوضات الشعور الإنساني الذي يعوّل عليه القاص في متواليته القصصيّة.
يُلاحظ أنَّ مخلد بركات عمد في رباعياته إلى توصيف الأشياء، فتغدو الشخصية عنصرًا تظهر عليه مؤثرات التوصيف الأخرى، حيث الوصف الكثيف لنمو المشهديّة بحرارة داخليّة ترتسم منها مشهديّة الوصف، كما في قوله ساردًا ما قام به البهلوان: "قام البهلوان غير مصدق، أدار مقبض الباب ليجد حجرة في وسطها صندوق خشبي مرصّع بالمحار، ومغلق بإحكام، وأخذ يتفحّص المفردات الأخرى، خناجر معقوفة معلقة على الجدران، ومسمار طويل في الجهة الأخرى، وفي الركن أغصان حلفاء بلاستيكيّة مزروعة في جرّة بدت مثل دُبٍّ رمادي، وقريبًا من الشباك المحروس بقارورة ريحان شاهد رجلًا وسيمًا يتطلّع إليه، على قميصه من جهة القلب بقعة دم طازجة كلون برتقالة"(4).
وَفَّرَ القاص لمتوالياته القصصيّة تماسكًا نصيًّا يستند إلى بناء جماليّ يُتيح للمتلقي قراءة كلّ قصة بوصفها كيانًا جماليًّا موصول الدلالة، تنتمي إلى مكان واضح، وتخضع لسلطة الزمن، وتستند إلى بناء لغوي شديد التوتر وغني بالانزياحات التي تمنح النص معنى مضاعفًا.
حافظ بركات على التوازن القائم بين الوحدة والتعدُّد الناتج عن قراءة كلّ قصة منفصلة، وهي من ناحية إبداعيّة أتاحت للقاص ابتكار أساليب لغوية ذات فضاء خيالي، ووضوح دلاليّ.
لقد مارس القاص تجريبًا فنيًّا وبنائيًّا واضحًا في رباعياته، بعدما أضحت الحداثة عنوانًا للمرحلة، فكان تطوير الأدوات السرديّة من حيث التكثيف والاختزال، وتوظيف طاقة اللغة، واستثمار جماليات المشهد السينمائي، وما يبعثه في القصة من دهشة وإثارة.
تمتاز شخصيات "رباعيات الفردوس" بأبعادها الأسطورية التي تنتمي إلى موروث حضاري خصب، أبرز ثقافة القاص، واطّلاعه على المدوّنات المقدّسة، وأساطير الشعوب، محاولًا فهم الوجود بالاستناد إلى شخصيات خارقة تتوالد معها الأحداث في قالب قصصي مبدع.
ومن جانب آخر، فإنَّ قصص المجموعة تتيح للمتلقي الامتداد في فضاءات اللغة والمكان، والزمان دون أن يُفقد بركات قصصَه ترابطها الفكري، وحوافزها السرديّة التي توفرها له اللغة بانزياحاتها المدهشة، وتراكيبها الدالة.
لقد كشفت قصص الكاتب عن حقيقة مهمّة، وهي أنَّ الفن القصصي ميراث إنساني، لا يمكنه الانعتاق من أسر الماضي، وأسراره العميقة، يعبر عن تجربة إنسانية خالصة، يصور الحياة تصويرًا ينفذ إلى أغوارها، ويستجلي خباياها، وبشكل يجسّد التجربة الإنسانية في تجلياتها المختلفة.
وقد تجسّد هذا الجانب الفكري في معظم قصصه، كما في قصة (غار) حيث الانشغال بكنه الوجود الإنساني موظفًا شخصية (أنكيدو) الأسطورية، حيث يقول: "من فوّهة الكهف الدائرية انسلّ نحو الشمس، ولم ينتبه إلى الحيّة التي تدلّت من جحر فوق القبر تمامًا، وفي فمها عشبة داكنة الخضرة. وأنها تلوَّت مثل حبل رخو، لترسم العشبة فوق تراب القبر كلمات متعرجة: مات أنكيدو!!"(5).
لعليّ لا أكون مخطئًا إن زعمتُ أنَّ مخلد بركات في مجموعته القصصيّة "رباعيات الفردوس" قد فتح بابًا للتجديد في القصة القصيرة الأردنية من خلال إبداعه لمتواليات قصصيّة ببراعة فنيّة وخصوبة فكريّة موغلة في التراث الإنساني.
• الهوامش:
1 ـ مخلد بركات، رباعيات الفردوس، ط2، خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمّان، 2021، ص9.
2 ـ رباعيات الفردوس، ص14.
3 ـ رباعيات الفردوس، ص41.
4 ـ رباعيات الفردوس، ص21.
5 ـ رباعيات الفردوس، ص39.