د. مسلك ميمون
ناقد وأكاديمي مغربي
إنَّ القاص عمّار الجنيدي في مجموعته القصصية "مسكوت عنهم" لا يسرد الأحداث حسب، ولكن يجعل القارئ يستنطقها، ويغوص بحثًا وتأملًا، في أسبابها الموضوعية والذّاتية.. بل تتحول القراءة إلى انشغال فلسفي، واجتماعي، وسياسي.. أساسه صيغ أدبيّة قصصيّة، تُشعر بموهبة متميّزة في السّرد الأردني، تتطلّب البحث والدّراسة، وبخاصّة فيما يتعلق بالسميوتيقا النّصية، وأنظمة الدّلائل التي لا تستبعد الإيحاء ودواعي التّخييل والتأمُّل. ومن جانب آخر فإنَّ اللافت في اختيار وتحديد العنوان عند القاص عمّار الجنيدي، أنَّ العنوان يأتي بشحنة من الإيحاء متعدّدة الأبعاد والجوانب، تحمل على التساؤل والفضول المعرفي، فضلًا عن التأثير والتأويل.
منذ نشأته الأدبيّة كان وما زال هائمًا في آفاق الشّعر، وسراديب القصّة، محاولًا التّمرُّد على جنس لصالح جنس آخر نزولًا عند نصيحة والده الذي أشار عليه بأنْ يتمسّك بما يؤهله أن يكون متفرّدًا ومتميّزًا.. ولكنه أخفق في أن يتمرّد على أحد الجنسين. ربّما الأمر يعود كما قال: "لم أكن واعيًا لطبيعة التّجنيس الأدبي لما أكتب، وظللت أتجاهل هذه القضية لأنّني منذ البداية كان يهمّني أن أكتب ما بداخلي من هواجس مشروخة، وكان الوقت قد فات أن أختار بين الشّعر وبين القصّة لأنّهما كانا متداخلين عندي، إذ وجدتني منخرطًا فيهما"(1).
وعن شخصيّات سرديّاته وعن تمرُّده المستمر قال: "إنّه ممّا لا شك فيه أنَّ الأبطال الذين يذرعون مساحات قصصي هم أشخاص منتخبون، ذوو إمكانات أثيرة في نفسي، إلّا أنَّ ما يجمعني معهم: أنّنا جميعًا مهجوسون بمحاولة الخروج من الواقع الذي يكبّل ويحجّم من طموحنا واندفاعنا، لكنّنا مؤمنون في قرارات أنفسنا أنَّ المجتمع حشَرَنا في أتون العادي والمُملّ. الأهل والعشيرة والمجتمع تواطؤوا على رفضي كمتمرّد، وكصعلوك، وكعاشق، لذا فإنّني سأموت وأنا ناقم عليهم جميعًا، لكنَّهم جميعًا قبلوني كمبدع. (يا للغرابة!)"(2).
• البناء الفنّي لمجموعة "مسكوت عنهم"
• أولًا- الغلاف
الوجه الأمامي هيمن عليه البياض، في الأعلى بالأسود اسم القاص "عمّار الجنيدي"، أسفله بالأحمر عنوان المجموعة "مسكوت عنهم"، وفي الوسط، أسفل العنوان، ملامح وجه رجل من مادّة ما، يُعلن الصّمت برفع سبّابته إلى شفتيه. أمّا في ظَهر الغلاف، نجد صورة للوجه الأمامي للغلاف مصغَّرة، بجانبها اسم القاص بالأسود، وأسفله عنوان المجموعة بالأحمر، وأسفل ذلك فقرتان من نص "هرولة".
المجموعة أُدرجت تحت تصنيف: قصص قصيرة وقصيرة جدًا، أمّا الإهداء فكان كالتالي:
"إلى غيمَةٍ غَسَلَتْني بِتَمَرُّدِها، بعد أن تكالَبَ الحُقراءُ على قلمي". إهداء ينمّ عن اعتراف بالجميل، وفي الوقت ذاته يكشف عن معاناة، ومكابدات.. عرفها القاص ممَّن نعتهم بـِ"الحقراء".
• ثانيًا- عناوين المجموعة
المجموعة تتكوَّن من خمسة وثلاثين نصًا. عناوينها: منها أربعة عشر عنوانًا نكرة، كلّها أسماء، منها سبعة بصيغة المفرد. تليها عشرون عنوانًا معرَّفة كلّها أسماء، وهي معرّفة سواء بألـ أو بالإضافة. منها اثني عشر عنوانًا مفردًا، وبذلك يكون عدد العناوين المفردة في المجموعة تسعة عشر عنوانًا، يليها خمسة عشر عنوانًا مركّبًا، منها ما جاء في جملة اسميّة مثل "الحزام الأسود"، ومنها ما جاء في شبه جملة مثل "عندما يكون الخروج مستحيلًا"، ومنها ما جاء في جملة استفهاميّة مثل "لماذا يبكي المعلم؟".. وينفرد نص من دون عنوان، (...) أو عوّضته نقط حذف، وهي تقنية تدعو المتلقي ألا يكون مستهلكًا فقط، بل عليه أن يشارك في كتابة النّص، ذلك بوضع عنوان يراه مناسبًا لفكرة النّص. وفي ذلك دليل فهمه واستيعابه.
ــ إيحاء العناوين:
اختيار العنوان عند القاص عمّار الجنيدي لا يكون اعتباطيًّا، أو كما اتفق، فهو يدرك أهميته ودوره في العمل القصصي باعتبار أنّه: "مقطع لغوي، أقلّ من الجملة، يمثل نصًا أو عملا فنّيًا عبر ارتباطه باللّغة، فهو أولى الإشارات اللّغوية إلى مسارات النّص لتسمه وتحدّده، وتغري القارئ بقراءته"(3)، بل يخضع لمراقبة ذاتية فنّية، أو هكذا يشعر القارئ؛ فالقاص لا يهدف أن يلخص العنوان محتوى النّص، أو يكشف بعض أسراره وخباياه، بل العنوان عنده في علاقة رفيعة ووشائجيّة ومكمّلة للنّص، ولكن هو في حدّ ذاته نصٌّ موازٍ. حقًا أبعاده اللّغوية أو التّركيبية والدّلالية تساعد على فهم واستيعاب فكرة النّص، ولكن تبقى للعنوان -في موازاته بالنّص- خصوصيّة بنيويّة فضلًا عن الدّلالة المعجمية، ولكن الشّيء اللافت في اختيار وتحديد العنوان عند القاص عمّار الجنيدي، أنَّ العنوان يأتي بشحنة من الإيحاء متعدّدة الأبعاد والجوانب، تحمل على التساؤل والفضول المعرفي، فضلًا عن التأثير والتأويل.
لنتأمل عنوان المجموعة "مسكوت عنهم"، العنوان ليس عنوان نص في المجموعة، فلو كان كذلك، لأسعف بمقاربة دلالية، ولكن وهو بصيغته النكرة، يثير الحيرة، فتنثال الأسئلة:
مَن هؤلاء المسكوت عنهم؟ ولماذا لزم السّكوت عنهم؟ ألأنّهم أجرموا ولهم مَن ينافح عنهم؟ أم ترى هم مستضعفون لا يملكون جاهًا ولا سندًا؟
والمعروف أنَّ "المسكوت عنه" هو ما لا يتطرّق إليه المبدع مباشرة وبخاصّة ما يشكّل طابو في الجنس أو السّياسة أو الدّين.
• ثالثًا- تقنية الكتابة (Writng technique)
لا شكّ أنَّ لكلّ قاصٍّ أو كاتب طريقته، وأسلوبه، ونمط كتابته.. وفي ذلك يكون الإبداع، وفي ذلك يتنافس المتنافسون، لأنّ وحدة الكتابة تؤدي إلى النّمطية، وبالتالي أُفول نجم الإبداع. والقاص عمّار الجنيدي يكتب القصّة معتمدًا أسلوب الحكي، الذي لا يَحيدُ عنه. وهذه مسألة يغفل عنها الكثير من القصاصين الذين يقعون عن غير شعور منهم في ما يسمّى التقريرية، فالقصّة ليست تقريرًا إخباريًّا ولا ينبغي لها –فنيًّا- أن تكون كذلك.
- الحكي (diegesis):
"الحكي" لغةً سرد الحكايات. أمّا في الاصطلاح النقدي فهو أسلوب من أساليب الكتابة السّردية كالقصة أو الرّواية. والحكي لا يستقيم إلا بقصّة أو حكاية.. وبطريقة هي السّرد. وذلك ما يعتمده القاص عمّار الجنيدي، فهو إحساس قِرائي ينتابُ المتلقي من أوّل النّص إلى آخره. فمثلًا في نص "الشّاعر يدفع الثمن" يبتدئ النّص كالتالي: "صانع السّيوف الذي سلخ أربعين عامًا من حياته، أصابته الدّهشة بمسّ، يوم أخبرته العرّافة أنَّ ابنه "سوفوخليس" سيكون له شأن العظماء في مستقبله.
من عادة الرومان أن يعرفوا طوالع أبنائهم الذكور فيذهبون بهم إلى العرّافات ضمن طقوس معيّنة، ففي منتصف ليلة يومه السابع، يحمل الأب ابنه الذكر إلى العرّافة لتنظر له مستقبله بواسطة نجمه الذي يقول كلّ شيء عن برجه؛ ففي عُرف التنجيم أن كلّ كوكب مسؤول عن نجم يُقرأ بواسطته طالع الإنسان وخفايا مستقبله". وينتهي النّص كالتالي: "في تلك اللّحظات كان الكاهن يشقُّ طريقه صوب الإمبراطور ليُعلِمَهُ أنَّ الحاكم قد قَتَلَ الشّاعر "سوفوخليس" وزوجته، لأنّه ضبطهما معًا في دار الحاكمية". فالنّص فيض من الحكي، والتخييل والتناص، والرّمز.
- الوعي الزائف (False consciousness)
قليل من التعلم والثقافة، أو احتلال مناصب الأشراف والتسيير بطريقة أو أخرى، لا يعني ذلك وعيًا، بل ذلك لا يعنيه حتى لدى من أوتوا حظًا من الثقافة والعلم، لأنّ الوعي، وإن اختلف الفلاسفة في تحديد مفهومه(4)، فهو يعني فيما يعنيه الانفتاح على الذّات وعلى الآخر، ومحاولة إدراك مستجدّات العالم. وبالمقابل هناك الوعي الشّقي الزّائف؛ وهو المهيمن، والأكثر سطوة واستحواذًا.
ومن العجب أنَّ السّخرية تأتي نتيجة سوء الحال والمآل، وكأنَّ الإنسان يرفض الخنوع والاستسلام، كنوع من التمرُّد والاحتجاج على ما هو كائن، وأساسها التّناقضات والمفارقات الحياتية، فهي المضحك المبكي أو (الكوميديا السّوداء).. والقاص عمّار الجنيدي إنْ مالَ إلى السّخرية في جلّ كتاباته القصصية فذلك لأنّه إنسان عانى ويُعاني في صمت وجلد.. فوجد متنفسًا؛ أنْ يسخَرَ من وضع يطوِّقه ويمنعه من الانطلاق.. كما فعل أدباء من قبله(5).
فالقاص الجنيدي وظّف السّخرية في أكثر من نص، إيمانًا منه أنَّ للسّخرية دورًا تأثيريًّا أكثر من أيّ كلام جاد، وهو ما نلمسه في نص "أوغاد":
"كم أحبُّ مديرَ المدرسة، كم يؤثر فيّ إحساسه المرهف؛ لقد أشاح بوجهه عن المناظر المروّعة التي دأبت على بثّها شاشات التلفزة العربيّة منذ أكثر من أسبوعين.
صور ومشاهد مطوّلة تكاد لا تنتهي عن المذابح والمجازر؛ ترتكبها أميركا وإسرائيل بشكل مستمر بحق الشعوب العربية في العراق وفلسطين ولبنان.
لم تكن عنده القدرة على التّحديق بأكوام اللّحم المهروسة والدّماء التي تسيح في كلّ مكان مختلطة بتراب الأرصفة وبقايا المنازل المهدّمة فوق رؤوس أصحابها:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله.
شاهدتُهُ مرّة وهو يبكي الدموع الحارقة عندما وقّع العرب صكوك السَّلام مع إسرائيل، فأخذ يسبّ ويلعن رداءة الزمن الذي أجبر العرب على القبول بشروط الآخر".
أمام هذا التأثر والانفعال، لرؤية الدماء المسفوحة والجثث المهروسة، تنتهي القصة بما يخرق أفق انتظار القارئ، بسخرية لاذعة تكشف الوعي الزائف:
"دخل إلى غرفته. رفع سماعة الهاتف:
ـ مرحبًا يا أم جابر.
ـ أهلًا، صوتك حزين ومرتبك.
ـ نعم يا أم جابر، فالمناظر البشعة التي شاهدتها قبل قليل قد حرّكت في نفسي الاشمئزاز والقرف، لقد قرّرَت الإضراب عن أكل اللحم.
ـ وماذا تريد أن تأكل إذن.
ـ هل يوجد لدينا سمك!".
ـ التناص (Intertextuality)
التناص: ممارسة نصية عرفت في الدّرس اللّساني. عرّفته الناقدة "جوليا كريستيفا" بقولها: "إنه ترحال للنّصوص وتداخل نصيّ ففي فضاء نص معيَّن تتقاطع وتتنافي ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى"(6)، أو "هو ذلك التّقاطع داخل التعبير مأخوذ من نصوص أخرى"(7)، وقد كانت "جوليا كريستيفا" صاحبة السّبق العلمي في تحديده كمصطلح. أمّا كمفهوم، فهو قديم نجده في الّتّراث العربي بأسماء مختلفة: الاقتباس، التضمين، والسرقات الأدبية، والإشارة، والتلميح(8).
وقد وظّف القاص عمّار الجنيدي التناص في نص "الشّاعر يدفع الثمن"؛ قصة بطلها الشّاعر الإغريقي "سوفوخليس"(9)، حقًا أنَّ التناص لم يكن متطابقًا، وإنّما كان بتصرُّف أو جزئي، وبخاصّة في وفاة "سوفوخليس"، فالقصة ترسم حالة المثقف، وما يعانيه من وسطه الثقافي. فـ"سوفوخليس" كان شاعرًا من طبقة العوام، رومنسيًّا، كثير الوصف، ما جعل بنات الطبقة العليا يتنافسن لكي يحظين ببعض شعره في وصفهنّ والتغزُّل بهنّ.. وهو الشّيء الذي أثار غيرة شعراء آخرين من النّبلاء، وبخاصّة ما ناله من حظوة عند الإمبراطور.. فاستكثروا عليه الشّعر، الذي كان حَكرًا على طبقة الأشراف والنّبلاء، فرغم تميّزه وفنّية شعره ومكانته.. لحقه الأذى من منافسيه فدبّروا مؤامرة قتله.
ولقد استعان القاص بأسماء أشخاص وأمكنة ليحدّد معالم التناص، فالشخصيات: (سوفوخليس، الرومان، ليليانا، الإمبراطور الروماني هدريان)، أمّا الأماكن: (ديكابوليس، شارع الأعمدة، معبد أوتيليوس، عجلون، دير إليوس، عبلين، المسرح الشمالي).
ـ الوصف (DESCRIPTION)
الوصف، أو ما يعرف نقديًّا بالخطاب الإنشائي في القصّة القصيرة، وفي عملية الحكي عمومًا له أهمية بالغة في نسج الحدث وتركيبه وإظهاره وفهمه وإيصاله، واستيعابه في نسق فنّي يضفي على النّص واقعيّة من التخييل الممكن والممتع.
ــ وصف المظهر الخارجي للشّخصية (the prosography)
من نص "كذبة" نقرأ: "بقامته المديدة وجسمه النّحيل الخشن وشماغه الأحمر المتهرئ؛ وقف أمام القلعة كالطود الشامخ. أحسستُ بزهوه وهو يشمخ برأسه إلى الأعلى صوب البرج المتهدِّم من قمّته. تنهّد وزفر ما في صدره من هموم، وابتسامة خفيفة تشق طريقها إلى شفتيه الجافتين".
ومثال آخر على وصف المظهر الخارجي للشخصية نجده في قصة "الديك": "أتاح له وجودها معه في المصعد أن يتأمّلها على استحياء مشوب بالارتباك: ركبتان بيضاوان تنحسر عنهما تنورة زهرية اللون مشروخة على الجانب الأيمن، من نفس لون القميص المنفوخ من منطقة الصدر كحبتي رمان جرشيّتين. لَمح نظرات الوَلَهِ والإعجاب بشخصيّته حدّ التهوّر".
ــ وصف المكان (topography)
من نص " كذبة" نجد ما يلي: "لم أحضر إلى هنا منذ أربعين عامًا، كل شيء هنا قد تغيّر. كل شيء هنا يبدو مختلفًا، كأني بالقلعة حجمها يتناقص، كأني بها تغوص في الجبل". و"كان لهذه القلعة تاريخ عظيم. لقد عاش فيها عشرات الشعراء أيام حكم المماليك، وأبشع المذابح في التاريخ ارتُكبت هنا بين جدران هذه القلعة".
ـ الثنائيّة اللغويّة (L’inguistic duality)
أعتقد أنَّ الجمع بين لغتين في نص إبداعي سردي، حتّى وإن كانت اللّغة الثّانية مجرّد لهجة، (dialict) أو نطق دارج عامّي محلّي، يخلق مشاكل في الفهم والاستيعاب لدى المتلقي الآخر من خارج دائرة القطر الواحد، بل أحيانًا داخل القطر الواحد إذا كانت اللّهجة أو بعض مفرداتها محليّة جدًا، وغير رائجة.
وهذه مسألة أخذت مساحة كبيرة في الجدل النّقدي بين راغب ورافض، كما نالت حظًا وافرًا من النّقاش والدّراسة في علم الاجتماع اللّغوي، وكان دائمًا الإشكال هو الحوار في القصّة القصيرة والرّواية.. ولم ينته الجدل إلى حلّ، وتُرِك الأمرُ لمدى حِكمة المُبدع وذكائه، وتقنيته في الكتابة. ففي مجموعة (المسكوت عنهم) لعمّار الجنيدي، يأبى القاص إلا أن يوظِّف الثنائيّة اللغويّة في الحوار بخاصّة، فتارة يأتي الحوار بالعربية الفصحى وتارة بلهجة عامية، وتارة أخرى يزاوج بينهما.. ولكن تبقى النّصوص التي اعتمدت العربية الفصحى في الحوار مُهيمنة على باقي النّصوص في المجموعة: خمسة وعشرون نصًا. بينما النّصوص التي جاء حوارها باللّهجة العامية: خمسة. ومثلها النّصوص التي زاوج القاص الحوار بين الفصحى واللّهجة الأردنية.
ـ تعدُّد الصّيغ (Plimodality)
قصص المجموعة، أو أي مجموعة قصصية لا ينبغي أن تكتب نصوصها وفق نسق موحد، بل في الغالب ينبغي تعدُّد الصّيغ وأساليب الكتابة. يقول "جرار جنيت" فيما يخصّ الصّيغة، هي: "اسم يطلق على أشكال الفعل المختلفة التي تستعمل لتأكيد الأمر المقصود، وللتّعبير عن وجهات النّظر المختلفة التي ينظر منها إلى الوجود أو العمل"(10)، لأنّ الفكرة في حدّ ذاتها، تفرض طريقة أدائها وإيصالها.. وهذا ما نلمسه في نصوص مجموعة "مسكوت عنهم". فقد نوّع وعدّد القاص في صيغه القصصية:
1 ــ صيغة الخطاب المسرود: هو خطاب يرسله المتكلم إلى المتلقي سواء كـان مباشرًا أي (شخصيّة) أو إلى المروي له في الخطاب القصصي كالذي نجده في قصة "أوغاد" (كم أحبُّ مديرَ المدرسة، كم يؤثر فيّ إحساسه المرهف؛ لقد أشاح بوجهه عن المناظر المروّعة التي دأبت على بثّها شاشات التلفزة العربية منذ أكثر من أسبوعين...).
2 ــ صيغة المسرود الذاتي: ويتمثل في الخطاب الذي يتكلم عنه المتكلم عن ذاته، أو عن أشياء حصلت له في الماضي. كالذي نجده في قصة " الكذبة": (لم أحضر إلى هنا منذ أربعين عامًا، كلّ شيء هنا قد تغيّر. كلّ شيء هنا يبدو مختلفًا، كأنّي بالقلعة حجمها يتناقص، كأنّي بها تغوص في الجبل).
3 ــ صيغة المنقول المباشر: ويتمثل في نقل معروض مباشر، من طرف المتكلم، وهذا المتكلم ليس بالمتكلم الأصلي، وينقل الكلام كما هو دون تغيير كالذي نجده في قصة، "هرولة": (في ركن منزوٍ من القاعة الكبيرة، جلست بهدوء متحفز، جال بصرها في أرجاء القاعة، كأنّما لتتأكد أنّها الأنثى الوحيدة في هذا المكان. ولمّا تأكدت، خالجها شعور بالرّهبة وتسرّب إليها ضيق مقيت، خاصّة وهي ترى الحاضرين ينهبونها بنظراتهم).
4 ــ صيغة المنقول غير المباشر: وهو مثل الخطاب المنقول المباشر، لكن هناك فرق حيث إنَّ المتكلم الناقل للكلام لا يحتفظ بالكلام الأصلي، فيقوم بنقله على طريقته أي بشكل خطاب المسرود.. كالذي نجده في قصة "أبو عقيل يحرث الأرض": (تلعثم عقيل مدركًا أنَّ سنوات عمره التسعة لن تقنع أباه بما سيبرر تأخره في السهر إلى ما بعد منتصف الليل، وبتلقائية الأطفال عندما تحاصرهم الأسئلة المحرجة: التفّ على سؤال أبيه بجواب على سؤال آخر لم يكن بحسبان أبيه).
وهناك صيغ أخرى تمازجت فيها الصيغ الأربع، أو بعضها، بفنيّة تغري بالقراءة والتأمل.. وبخاصّة أنَّ أغلب النصوص اعتمدت الحوار طريقًا للأداء والإيصال.
إنَّ القاص عمّار الجنيدي في مجموعته القصصية "مسكوت عنهم" لا يسرد الأحداث حسب، ولكن يجعل القارئ يستنطقها، ويغوص بحثًا وتأملًا، في أسبابها الموضوعية والذّاتية.. بل تتحول القراءة إلى انشغال فلسفي، واجتماعي، وسياسي.. أساسه صيغ أدبيّة قصصيّة، تُشعر بموهبة متميّزة في السّرد الأردني، تتطلّب البحث والدّراسة، وبخاصّة فيما يتعلق بالسميوتيقا النّصية، وأنظمة الدّلائل التي لا تستبعد الإيحاء ودواعي التّخييل والتأمُّل.
• الهوامش:
(1) القبس (حوار أجراه مؤيد أبو صبيح مع القاص)
https://alqabas.com/article/246783
(2) من الحوار نفسه.
(3) علوش سعيد، معجم المصطلحات الأدبية، ط1، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1988، ص155.
(4) انظر: الوعي ــ https://ar.wikipedia.org/wiki
(5) الجاحظ في "البخلاء"، وأبوالعتاهية، والحطيئة، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، محمد الماغوط، وجلال عامر، ومحمود السعدني، وأحمد مطر، وأحمد فؤاد نجم، والأديب الفلسطيني إميل حبيبي، وأحمد رجب، وأحمد بهجت، وهاشم السبع، وفخري قعوار، ولطفي ملحس، ومحمد طملية وموليير وتشيكوف وبرنارد شو وغوغول...
(6) جوليا كريستيفا، علم النص، ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، المغرب، ط2، 1997، ص21.
(7) ربى عبدالقادر الرباعي، البلاغة العربية وقضايا النقد المعاصر، دار جرير للنشر التوزيع، الأردن، ط1، 2006، ص203.
(8) انظر: دراسة عبدالفتاح داود كاك سنة 2015: "التناص دراسة نقدية في التأصيل لنشأة المصطلح ومقاربته ببعض القضايا القديمة- دراسة وصفية تحليلية".
(9) سوفوكليس (Sophocle) ولد حوالي سنة 496 ق.م. في أثينا وتوفي سنة 405 ق.م. أحد أعظم ثلاثة كتاب التراجيديا الإغريقية.
(10) مصطفى منصوري، الصيغة السردية في النقد العربي الحديث من كتاب النقد العربي المعاصر المرجع والتلقي، ملتقى في المركز الجامعي خنشلة 22/23 مارس 2004، ص114.