قصة: رجاء عبدالحكيم الفولي
كاتبة مصرية
لاحَ هناك ظِلُّ إنسانٍ يسير في ضياء الشمس المحتضر، بدا وكأنه يمارس التسكُّع وهو يسير وراء الرَّكب العائد من الحقل، لا يهب ذلك الغروب أيّ مشاعر، كان "محمد حامد" في أحد الصباحات البعيدة فوق الترعة يبعثر الحياةَ والأحلام خائضًا في الماء برِجليه اللتين تشبهان فروع الصفصاف، كان ضفدعٌ لا يكفّ عن التطبيل، وصرصور الحقول يعزف، والقمري يزقزق، حاول أن يجاريهم فمَطّ شفتيه وشرعَ في الصَّفير، لكن توقَّف بعد أن شعر بجفاف حنجرتِه وتهتهتِه.
فكرةٌ شرعَ في تنفيذها، فحصَ عيدان الغاب التي ترعى شطّ الترعة كحرّاس، انتزع أحد تلك العيدان، تواثَب إلى سمعِه فيما يشبه أصوات أنين منبعثة من قصب الغاب. قال ملاطِفًا وهو يمازح أوراقها الطويلة الخضراء:
- سأهبكِ حياةً مختلفة.
البقبَقة التي أحدَثها صوت الماء وهو يسحب العود إلى الشطّ، أوحت له أنَّ الترعة غاضبة؛ لقد سقط الآن أحد حرّاسها، اعتكر الماء من الطين الليِّن الملتصق بالجذور، وانكمشت الحشائش الملتصقة بالترعة، والتي كانت ترقص مع التيّار الهادئ، وفرَّت الأسماك وغطست بعيدًا.
جلس على حرف الترعة وقد لاح الماء لعينِه رماديًّا، وبدأ يُسقِط منجلَه الصّلد على قصب الغاب، تراءَى له أنَّ لها قلبًا ليّنًا يتمدَّد في كل جسدها وقد استسلمت له تمامًا، قاومَ رعدة هاجمت جسده، واندهش أنها تملك ذلك القلب الهشّ الذي لا يجده عند الكثير من الناس، قَطعها قِطعًا صغيرة، كان يتحرَّق شوقًا لبثّ حياةٍ فارقةٍ فيها، قلّبَ القِطع في يده، واختار أكثرها مناسبة، داعَبها وقد تشمَّم رائحتها، بدت له مثل رائحة الصفصاف طازجة، وقد مَرّر شفتيه عليها ومسحها بقبلاتِه، كما لو كانت لجسد حبيبةٍ عثر عليها في هذا الخلاء، واصلَ العمل بها متجاهلًا قلبَه المتعاطف، وقد شَق على ظهرها ثلاثة ثقوبٍ. فرّغها تمامًا ومنحها أنفاسه القويّة، فصفّر فيها الهواء، ومَرّر أنفاسه على الثقوب الثلاثة متناوبًا مع أصابع يديه السمراء النحيفة، فانسابت أنغام حلوة راقت له، فابتسمَ وهو يردِّد:
- آه يا محمد..
وخرجت تنهيدات حارّة من أنفاسِه على أنغامه الشجيّة. خلّفت الشمسُ ابتسامةً عميقةً وهي تتدحرج وراء الجبل، والحشائش رقصت مع التيّار، والأسماك عادت تحلّق قرب الشط، وتصالحت الترعة معه، فقد رآها تبسط المياه الرائقة أمامَه. كان "محمد حامد" يسخر مِن القادمين مِن الزَّرع ومن خوفهم الشديد من الليل.. ضحِك:
- لِمَ يخيفهم الليل، ولا يخيفني؟ أنام على المصطبة الحجريّة طوال الليل خارج دارنا، في الحقيقة هربتُ من أجساد إخوتي، ينامون وعلى أرجلِهم وأيديهم، حتى وجوههم، طين الزَّرع، تخرج منهم روائح كريهة يخنقني ظراطهم وفساهم، لم أجد مهربًا منهم غير تلك المصطبة وذلك الليل، ألاقي على المصطبة أنفاسًا حلوة، وذلك النّدى الرائق، أنفخ طوال الليل في مزماري فتأتي الأشباح وترقص على أنغامي سعيدة، ويحدثونني بأنه لا يوجد عندهم شبح مثلي يجيد مثل هذا العزف الشجيّ! بينما تعنِّفني أمّي قائلة:
- بطّل زمّير يا واد، زمّيرك بيخلّي الحيّات بتنزل علينا ترقص من سباية البوص.
- آه لو تتحوَّل الدنيا كلها إلى ليل، وأرتاح من الزَّرع والشمس!
وهجم عليه الليل، وبدا كأنه يتخبَّط في بحر مظلِم، تملّكت جسدَه رعشة قويّة من فكرة الليل الدائم، فصرفَ عنها أفكاره وسقطت في وجدانه صورة الليل المظلم الذي يعاقره كل ليلةٍ على المصطبة الطينيّة، والأشياء التي تتحوَّل إلى أشباح.
- صعب أن أحيا هكذا دائمًا بين الأشباح، حتى لو كانت شخوصًا طيّبة، كما أني أخاف المؤامرات التي يعِدّها الليل.
ارتجف قلبه كمنْ فاجَأه مطبّ صناعي، سَرت قشعريرة في جسده؛ فقد هجمت على ذهنِه صورة جَدّتِه أمّ أبيه، كان هو وإخوته يلتفّون حولها على الفَرشة الأرضيّة؛ الحصير المصنوع من الحلْف، يغطى ببردة من الصوف الغليظ.. "يجزّ أبي شَعر نعجاتِه بنفسه كل سنة، يحمله في جوال ويذهب لا أعرف إلى أين! أتجنَّب الكلام معه، لهذا لم أسأله أين يذهب، نظرة عينه تؤكد أنني لا أروق له، ولكن بعد أسابيع يأتي لنا بغطاء مصنوع من الصوف، أستطيع أن أخمّن شَعر أيّ نعجةٍ من النعاج تلك؛ فقد كان يتوزَّع لون نعاجِنا بين أبيض، وأسود، وأحمر، نفرش مِن تلك الأردية ونتغطى، نتحلّق حول جَدّتي، تحكي لنا كل ليلة حكاية "نص نصيص"، و"العصفور الأخضر"، الولد الصغير الذي ذبحته امرأة أبيه، وجمعت أخته عظامَه ووضعتها تحت الزير، فنبتت هناك شجرة عليها عصفور أخضر. تذكَّرتُ أنها سَقطت بيننا وهي تحكي، فجأة سكن كل شيء فيها، تجمّد، هززتُها أنا وإخوتي قائلين:
ـ احكي يا جدّة، احكي.. لماذا سكَتِّ؟ أكملي الحكاية.. يا جدّة يا جدّة!
ولكنَّ أبي بعد ما رفع ذراعها عاليًا وتركها في الهواء، سَقطت منه، قال:
ـ ماتت.. جاء ملك الموت وأخذ روحها في الليل.
في مثل هذا الظلام، كل المؤامرات تتمّ، لماذا لم يأتِ لها ملك الموت في النهار؟ أخاف أن يأتي ملك الموت في ليلة ويأخذ أبي أو أمي أو واحدًا من إخوتي، ففي كل صباح أسمع مؤذِّن الجامع ينادي على واحد من القرية مات في الليل، لماذا يحمل الليل كل هذا الخوف؟!".
وصل إلى المصطبة، كان الظلام عفيًا، لقد أُذِّن للعشاء منذ وقتٍ كبير، وصمتَ العالم حوله، هذا الصمت المقلِق والمخيف. اعتلى المصطبة الطينيّة، لفّ نفسَه بغطائه؛ فقد سَرت حوله نسمات باردة، صيّرت رعشة أنعشت روحَه، تناولَ مزماره القابع بجواره كصديقٍ حميم، وأخذ يستمع بطربٍ للألحان المنبعثة منه، سَعد برهةً بألحانه، ومن ثَم تبدلت سعادته لآهةٍ موجعة؛ فقد تراءى له ألّا شيء يسعد في هذا الكون الغامض، ونظر إلى السماء ونجومِها البعيدة، وقال بصوتٍ مسموع:
ـ لماذا خلقتَنا يا رب؟!
"محمد حامد" هو الوحيد الذي لم يكن مرهقًا من العمل في الزرع، يرسله أبوه إلى القراريط الخمسة التي يمتلكها لزراعة الذرة، والاهتمام بنباتاتها الوليدة، بينما يعمل أبوه في رعي الغنم، وإخوته أُجَراء في أرض الآخرين، يلعن الشمسَ والحرارة الملتهبة، ويهرب من غيطِه الضئيل إلى عشقِه الكبير، إلى الترعة، يعطي ثوبَه عناية خاصة، يغسله ويعلّقه على أشجار الصفصاف، ذلك الجلباب الذي يأخذ موضع الرأس دائرة تأخذ الطريق إلى أسفل فتحة على شكل رقم سبعة، وذراعان مثل الشماسي المقفلة، يلقي بنفسِه في الماء، بسرواله الداخلي المصنوع من قماش الدمّور الباهت، والذي كان يباع على بطاقة التموين، وقد رفرف الجلباب على أشجار الصفصاف ملوّحًا يُحدِث ارتطامُه في الماء صوتًا مرتفعًا، بدا له موسيقيًا يكرره مراتٍ متعاقبةً وهو يضحك، وقد بدأ السباق مع الأسماك التي تبدو وكأنها قد ألِفته، قال لنفسه:
ـ ربما كنت سأُخلَق سمكة، ولكن دخل عليها تعديل مفاجئ، سأجرِّب قدرتي في الجلوس تحت الماء مثل الأسماك..
ضرب الماءَ بيديه ورأسِه، وقفز إلى سطح الماء.
ـ كنتُ سأختنق.. أنتِ يا ترعة يا كبيرة، سأدخل اليوم سباقًا في عبورك متحديًا الأسماك، وسأنتهي منك قبل المساء.
توقفت الألحان فجأة، وارتفعت أصوات أنفاسِه المتلاحقة، لقد هزمه النوم وأخذه عنوةً إلى عوالمِه الغامضة.
بدا فارغًا، مشاعره تبدو حياديةً نحو نفسِه والوجود، لا تحمل حبًّا ولا كرهًا، هكذا كالماء والهواء.
تقوم حياته على ما يمهِّده خياله من أوقات لاهيةٍ ومرِحة، هائمًا هكذا داخل ألحانِه الحالمة، مثل الطيور التي تقف على الأغصان برشاقة، والأسماك التي تهرب مع حرارة الشمس إلى الأعماق، كان يتابع جلبابه الذي يتركه دومًا على إحدى أشجار الصفصاف، حيث تجرفه الأحلام والخيالات مودعًا يقظتَه.
يمتلك تلك الأناملَ الرشيقة الماهرة التي تبعث الحياةَ في الأشياء التالفة حيث يرتّق جلبابه بتقنية لا تُظهِر مكان الفتق أو القطع، وقد أودع بخيطٍ وإبرة في قلب شجرة الصفصاف، فقد بدا أنهما على أهبة الاستعداد لإنجاز ما يُطلَب منهما بمهارة، بدأ في عزف الألحان الرشيقة، فجأة اقتحمت روحَه تلك الخيبة، فقال:
ـ سبع صنايع والبخت ضايع!
تناول مزمارَه وأخذ يتحسّسه، وحاول أن يحصر تفكيره في الألحان والأشياء التي تحمل رائحة الترعة، والأسماك، ووداعة شجرة الصفصاف. لقد قفز إليه الحل مع الألحان، أخذ يقلّب الأفكار في رأسه، هتفَ:
ـ يا رب.. أنا تعبت جدًا! سأعمل مطربًا وأكوّن فِرقة، وسأرضى بما يدفعونه لي، حتى لو اكتفيت بعشائي، لا قوة عندي لمواجهة الشمس، سنعمل أنا وأصحابي بالليل وننام النهار كله، ولن ترانا الشمس.
بدا له أنَّ ذلك كل شيء، ليس ثمة أكثر من ذلك يتطلع إليه، ولم ينتبه قلبه أنَّ ذلك بداية السقوط، فقد هجر غيط الذرة تمامًا، وقد بدا للعيون التي تراقبه أنَّ تلك توجُّهات مفرطة في الانحلال!
كان يتسكّع قاصدًا مصطبته الطينية، محدقًا في اتجاه القمر، منسابًا كسراب الظهيرة، داعَبته رياح هادئة تطوي في ردائها هواء دافئًا؛ فقد كانت اللية مقمِرة، تراءى له الليل وقد لبسَ ثوبًا مغايرًا، بدا له كما لو كان نهارًا هادئًا. يحتضن مزمارَه بكلتا يديه، فقد كان عائدًا للتوّ من أحد أفراح القرية المجاورة لقريتِه، وقد لاقى زُمّاره وغناؤه استحسانَ الحاضرين. لقد هرب من الشمس، لكن حقيقةً أين يهرب مِن مخاوفه؟ المخاوف بداخله غرابٌ أسود ينعق بشؤمٍ في روحِه، قال لنفسِه:
ـ على الرغم من عشقى لليل إلا أني أخاف مؤامراتِه، نظرات أبي التي واجهتُها هذا الصباح تقول إنه تحالف مع الليل ضدّي، لقد خانني الليل!
أطَلَّ القمر منحدرًا من بين أشجار النخيل على البيت الصغير الطيني، وعرّى المصطبة الحجرية الخالية.. يقولون إنَّ الموت يأتي في أشكال كثيرة، لكنه أتى بالنسبة له في نهاية الأشياء التي يحِبها.
بعد أن عزف كل الألحان التي يهواها، ألقَى بالمزمار إلى قلب الترعة، فسبح المزمار في الماء رشيقًا، مثله تمامًا عندما يبدأ في السباحة، وقال:
ـ أتمنى أن تنبت مرةً أخرى.
وتذكّر ذلك القلب الليّن الذي انتزعه ذات يومٍ، ثم موجِّهًا كلامَه للترعة:
- باع أبي القراريط التي امتلكها بالكاد، باعها لأسافر من أجل أن أجلب المال، مثل كل مَن يسافرون، كيف يراهن عليّ وهو دومًا يراني ولدًا فاشلَا؟! أحِبُّ الترعة والسمك وأعواد الغاب، لكنّي لا أحبُّ الشمس الحارقة.
ألقَى على شمس الظهيرة الحارقة كلماتِه الأخيرة:
- وداعًا أيتها العظيمة الخالدة، عذبتِني كثيرًا، أتمنى ألّا تذهبي ورائي إلى البلد الذي أسافر إليه.
ولاحَ له جلبابه الذي تركه معلقًا على أشجار الصفصاف، ورأى الكُمّ الفارغ ملوّحًا له كسلامٍ مهزوم!