د.سامر أبو لبدة/ أكاديمي وباحث أردني
sabolebdeh@zu.edu.jo
أمّا قبل، فقد "جاء في المثّل: مّن غربلَ النّاس نخّلوه، إذن فويلٌ للناقدين! ويلٌ لهم لأنّ الغربلة دينهم وديدنهم، فيا لبؤسهم يوم ينظرون خلال ثقوب غرابيلهم، فيرون أنفسهم نخالةً مرتعشةً في ألوف من المناخل". أمّا بعد، فأجدني بعد مئة عام من مجيء هذه المقولة فاتحةً لغربال نعيمة، منساقًا للاستهلال بها إيمانًا بأنّ التّفكير النّاقد أيًّا كان، مدعاة للغربلة والتنخيل، والتحليل والتأويل، وفق منازع النقّاد التي لا تُحدّ، بصرف النّظر عن أصالة ذلك الفكر وعمقه، أو ضحالته وتهاويه. ولعلّ رؤية العقّاد الكاشفة للمشهد النقديّ المُخالف لفكر نعيمة في غرباله، المؤكّدة على سيرورة الفكر الحداثيّ، تنسحبُ كذلك على جابر عصفور في مدوّنته النقديّة، إذ سيبقى لفكره النّقدي ومنزعه التحليليّ بقيّةٌ باقية في أوسعِ غرابيل النقّاد، لا يُنكرها مُنصف، ولا يبخسُ قيمتها عارف.
والقول في الجدليّة بعيدًا عن انعكاساتها المثاليّة والماديّة، يتّصل بتعدّد الآراء وتنوّعها من جهة، وتباينها واختلافها من جهة أخرى، خاصّة عند اقترانها بالفكر النقديّ لجابر عصفور، الذي تعمّق قِيم المعارف الموروثة، واتّصل بالاتجاهات النقديّة المعاصرة، فشكّلت منظومته جدلًا يتأكّد بتطبيق مناهج الحداثة في فهم الموروث النقديّ العربيّ، علاوةً على الجدل الذي يُشايع قرّاء منظومته في الأبعاد الإجرائيّة التي طوّعها الناقدُ الكبيرُ في الوصول إلى النتائج، التي شكّلت في مجموعها مرتكزاتٍ رافدةً للمعارف التكوينيّة المرافقة لمنهجه النقديّ منذ سبعينات القرن الماضي، وذلك وفق الإطارين الآتيين:
-1-
العلّة والمعلول:
تستوجب المعرفة التكوينيّة تفاعل الناقد مع المعارف والاتجاهات التي تأثّر بها في مراحل تعليمه المختلفة، حيث تتأكّد هذه المعرفة في الممارسة النقديّة بوصفها أداةً تفسيريّةً تأويليّةً، فالتملّك المعرفيّ لموضوعٍ ما، يستوجب اكتشاف عناصره التكوينيّة ومن ثمّ نسقه الغائر. ولمّا كان الإقناعُ المنطقيُّ بصحّة التوجّه وأصالة الرأي غايةً لجابر عصفور في مدونته النقديّة بقطبيها الرئيسين الموروث والمُعاصرة، فقد اتّخذ من الغائيّة القائمة على البرهنة وفق مبدأ العلة والمعلول مرتكزًا لأحكامه النقديّة التي طالت الفكر العربي قديمًا وحديثًا تحت مظلّة نقد النّقد. فعند إنعام النّظر في مدوّنته النقديّة للموروث العربيّ القديم، خاصّة مؤلَّف "الصّورة الفنيّة في التراث النقديّ والبلاغيّ عند العرب" (1973)، يحشد التفاصيل، ويتقصّى الأفكار والمفاهيم، وصولًا إلى العلّة الأولى التي تحكم التفكير النقديّ العربي في بيئاته المتعدّدة، للوصول إلى الحكم المطلق الذي يقضي "بإلحاح الناقد القديم على ضرورة التّناسب المنطقي الصّارم بين عناصر الصّورة الفنيّة، ونفوره اللافت من الوثبات الخياليّة التي تُلغي الفواصل والحدود بين الأشياء"، وبالتمعّن في دقائق الكتاب وتفريعاته، أجدني أسارع للقول بأنّ هذه العلّة التي عكسها الحكم النقديّ السّابق، لم تراعِ إلّا جزئيّات منتقاة تُخفي أكثر ممّا تكشف، حيث تؤكّد المسار العقليّ في التفكير النقديّ العربيّ، وكأنَّه انعكاسٌ لآراء مُناصري القصيدة العربيّة القديمة بما عُرف نقديًّا بنظريّة عمود الشّعر، مع تغييب أفكار العديد من النقاد العرب الذين شايعوا أقطاب مدرسة البديع الشّعريّة، وأثاروا العديد من القضايا الإدراكيّة المتّصلة بمسألة التناسب النفسيّ بين أطراف الصور التشبيهيّة، ومالوا مع مقولة "أعذب الشّعر أكذبه"، إيمانًا منهم بتأبّي الصورة الفنيّة الانصياع للمنطق الصارم، وطواعيّتها للوثبات الخياليّة خلافًا لرؤية جابر عصفور، وليست آراء عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجنيّ –بهذا الصّدد- إلّا نماذج لما يُشكّل اتّجاهًا نقديًّا ينزعُ إلى الخيال الجامح تحقيقًا للذّة في نفوس القرّاء القدماء الذين يميلون بفطرتهم للمعاني المُغرِبة المُبتكرة. ومن جهة أخرى يُظهر ناقدنا معرفةً واسعةً بالإجراءات النقديّة التي حكمتها الغائيّة المطلقة، التي تُخفق أحيانًا إزاء العلّة التي قيّد جابر عصفور فكره بقيدها، الأمر الذي يُفضي بتباين مقولاته النّظريّة مع الأبعاد التّطبيقيّة، وصولًا إلى نتائج تعوزها الدقّة أحيانًا، فالعلّة الأساس في فكر طه حسين منهجُه الحداثيّ التّنويريّ، الذي يستوعب كلّ الاتجاهات النقديّة إلى عصره والتمرّس في تطبيقها، لكن جوانب التطبيق التي يتناولها جابر عصفور في "المرايا المتجاورة" (1983)، تعكس أبعاد النّقد التأثريّ عند طه حسين، من حيث الإفاضة بانطباعيته المُفرطة في تناوله للإبداع، كالحديث عن المستوى الإخباريّ في نقده، والصّيغ الأسلوبيّة المتكرّرة، والتوظيف الانفعاليّ في الخطاب النقديّ، وهذه الأطر لا تقود إلى فكرة المنهج المتكامل ذي النّسق الحداثيّ التنويري في فكر طه حسين، بل تؤكّد إخفاقه في مسايرة اتّجاهات النّقد الحديثة، وتردُّه إلى البدايات الفطريّة اللامنهجيّة في التفكير النّقديّ العربيّ. ومن المنطلق ذاته نجد العلّة الأساس في فكر عبد العزيز الأهواني ميله إلى التراث الشّعبيّ، وإدراجه منزلةً تعلو التراث الفصيح، لأنّه إبداع جماهيريّ يعبّر بصدق عن المشاعر الجمعيّة، ويُناغي الفكر البعثيّ الحاضر في ذهن الأهواني، ومن هنا يرى في كتاب الأهواني ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشّعر (1962)، ترسيخًا للعلّة الأساس المُفترضة، إذ وجد الشّعر الفصيح في عصوره الوسيطة مُقلّدًا تعلوه الصنعة والتكلّف؛ لانقطاعه عن الأحاسيس الفرديّة والجماعيّة، لمعايشة المجتمع وقتئذٍ ازدواجًا لغويًّا عكس الميل نحو الأدب الشّعبيّ كالزجل والمواويل وسواهما. وأجدني أقول بأنّ الأهواني في كتابه لم يُبدِ ميلًا نحو الأدب الشّعبي، بقدر اجتهاده في تعليل مظاهر الصّنعة والتكلّف لدى بعض شعراء مصر في القرن السّادس الهجريّ، من خلال دراسة شعر ابن سناء الملك، إذ نوّه بوجود مدرسة تقابلها وهي "مدرسة المعاني" التي تزعمها البهاء زهير وابن مطروح، حيث أنشأت شعرًا فصيحًا راج يبن يدي العوام لانبساط معانيه وسهولته. وإن يكن الأمر فالإشكال الذي يبرزه العنصر التكوينيّ في فكر جابر عصفور المتمثّل بالعلّة والمعلول، يكمن أحيانًا في افتراض حقائق مُسبقة لا تستقيم مع الاستدلالات العديدة التي يقدّمها للوصول إلى هذه الافتراضات.
-2-
الأنا المُتعالية والفوضى الخلّاقة:
تَبرزُ الأنا المتعالية كعنصرٍ تكوينيّ قارّ في الفكر النقديّ لجابر عصفور، هذه الأنا ذات الآمال العريضة التي تسعى إلى إنتاج بُعد جماليّ خاصّ بها يعقب الفوضى الدّاخليّة التي تعتصرها، الفوضى التي لا بدّ من وجودها للحصول على نجمٍ راقص على حدّ تعبير "نيتشه"، فمن الخصائص المركوزة في الأنا المتعالية، القدرة على إقناع القارئ بإرباكه بالجزئيّات والتّفريعات وعقلتنها وفلسفتها طلبًا للأصالة النّقديّة، كما توهم هذه الأنا بمراجعة أدواتها، والسّعي في تحويل مسارات النّقد، والبدء ممّا انتهى إليه السّابقون، والحقّ أنّا نرى في مدونة جابر عصفور اندفاعًا في التسنّم الظاهريّ للحداثة وما بعدها، بين تعمّقٍ للبنيويّة التكوينيّة، وإقبال على نظريات الاستقبال، والتمنطق بالأسلوبيّة، وفي باطنها إيمان بالهيرمينوطيقا والظّاهراتيّة في أصولهما الأولى، وأرى أنّ فكره الجدليّ تمنطق بمفهوم المرايا الذي اصطنعه لفهم فكر طه حسين، إلّا أن مرايا جابر عصفور جاءت متنافرة أحيانًا لما حوته من فكر متلاطم خاصّة في نقده للموروث، ولي أن أستدلّ على هذا البُعد من خلال كتابه "مفهوم الشّعر" (1978)، الذي أوقفه على ثلاثة من النقّاد العرب المتأثرين بكتاب فن الشّعر لأرسطو، مع إغفال دور النقّاد الذين كان فكرهم نتاج بيئتهم العقليّة والعقديّة، وليس الناشئ الأكبر وابن رشيق القيرواني وعبد القاهر الجرجاني إلّا غيض من فيضٍ ممتدّ من النقّاد الذين أصّلوا لمفهوم الشّعر، وفي الكتاب نفسه نرى الأنا المتعالية تُلغي كلّ الدراسات النقديّة الحديثة التي تناولت مفهوم الشّعر، واصفًا إيّاها بالدراسات التّاريخيّة؛ لتسطيحها الأشياء، ولتغييبها الاستقصاء الدّقيق للمعطيات التّاريخية.
-3-
ختامًا، فقد جاء في المثل: "لا تُعدم الحسناءُ ذامًّا"، وهنا أجدني أقول: لا تُعدم حسناؤنا كذلك فطنةً وبُعدَ أثر، فجابر عصفور من النقّاد الذين لا يمكن للمثقف والتنويريّ والناقد تجاوزه، فقد أثّر فكره في جيلٍ كامل تعلّم منه منهجيّة العلم من بحث واستقصاء وحنكة، وأقول أيضًا فكما "ستبقى لفكره باقيةٌ في أوسع غرابيل النّاقدين، لا يُنكرها مُنصفٌ، ولا يبخسُ قيمتَها عارفٌ"، فإنّه "لا تُعدم الحسناءُ ذامًّا".