الراحلُ جابر عصفور: صورةُ الناقدِ والمثقّفُ التنويريُّ

 

الراحلُ جابر عصفور:
صورةُ الناقدِ والمثقّفُ التنويريُّ
د. محمد عبيد الله / عميد كلية الآداب والفنون بجامعة فيلادلفيا
mmobaidd@yahoo.com
تضعنا الكتابةُ عن الناقد والمثقف والأكاديميّ الراحل جابر عصفور (1944-2021) في قلب قضايا الثقافة العربية في أكثر من نصف قرن، فقد ظلَّ عصفور حاضرًا منذ بدايات ظهوره مع الجيل الثقافيّ العربيّ الذي برز بعد نكسة حزيران 1967، فكان علمًا بارزًا في الجامعة (جامعة القاهرة)، وخارجها (المجلس الأعلى للثقافة، المركز القوميّ للترجمة)، وكان أكاديميًّا ومثقفًا يكتب في المجلات والصحف السيّارة، داخل مصر وخارجها، وللراحل أدوارٌ نافذةٌ لا تقتصر على مؤلفاته وكتاباته، فقد أدرك مبكرًا أنَّ الكتابة والتأليف الجامعيّ وحدهما لا يمنحان المثقف دوره المأمول، وإنَّما لا بدَّ من أن يكون "الجامعيّ" نشطًا في مجالات وحقول متشعبة تتجاوز أسوار الجامعة وقاعات دروسها.
وقد أسهم عصفور في تأسيس مجلة (فصول) المتخصّصة في مجال النقد الأدبيّ، فكان نائبًا لرئيس التحرير إلى جانب صلاح فضل، في مرحلة انطلاقتها سنة 1980م مع رئيس تحريرها المؤسّس عز الدين إسماعيل، ثم ترأس عصفور تحرير المجلة لسنوات طويلة، وجعل منها منبرًا للنقّد ومناهجه وتياراته الجديدة. كما برز الراحل في مجال الإدارة الثقافيّة الفاعلة، فغدا أبرز الشخصيات الثقافيّة المؤثرة طوال العقود الثلاثة التي سبقت ثورة الشارع المصري على نظام حسني مبارك عام 2011. وقد تولّى جابر عصفور موقع الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، فأعاد وهجه ونشاطه من خلال سلسلةٍ واسعةٍ من البرامج التي تشمل النشر والترجمة والمؤتمرات، كما أسّس مجموعةً من الملتقيات والجوائز التي يشرف عليها المجلس، في مقدمتها ملتقى القاهرة للرواية العربيّة، وحرص على أن يغدو الملتقى موعدًا متجدّدًا لالتقاء كتُّاب الرواية ونقّادها من مصر والعالم العربيّ إلى جانب المهتمين بالأدب العربيّ من غير أبناء اللغة العربيّة، ولا ننسى مشروع جابر عصفور بتأسيس (المركز القوميّ للترجمة) الذي غدا منبرًا مهمًّا من منابر تواصل العربيّة مع غيرها من الثقافات واللغات، ونشر مئات الكتب المهمّة من مختلف اللغات العالميّة، وفي فروع الفكر والثقافة والأدب المختلفة.
وتستمدُّ هذه الأدوارُ قوّتها من طبيعة شخصية الناقد الراحل، وسجاياه الذاتيّة التي سهّلت تحقيق أهدافه وغاياته، فشخصية عصفور يجتمع فيها الذكاءُ والحصافةُ والتواصل والوعيُّ واتساع الأفق والثقافة، ولربما انطلق من مبدأ ضمنيّ يتمثّل في الإيمان بقوة الثقافة بوصفها قوةً ناعمةً رائدةً يمكن أن ترتّق بعض ما تفسده السياسة، ومعلوم ما عانته مصر في مرحلة ما بعد (كامب ديفيد) التي عزلت مصر نسبيًّا عن محيطها العربيّ. وهذا وغيره ميّز الناقد الراحل بجملةٍ من الخصال والأحوال جعلت منه في نهاية الأمر أوسع شهرةً وأثرًا من زملائه ومجايليه وتلاميذه في مصر والعالم العربيّ، وجعلت منه قائدًا من قادة التغيير الثقافيّ وصانعًا من صُنّاع الثقافة لأكثر من ثلاثة عقود.
صورةٌ أخرى من طه حسين:
أوّل ما يمكن الوقوف عنده اهتمام جابر عصفور بالأديب والجامعيّ والناقد التنويريّ الراحل طه حسين (1889-1973)، سواءً من خلال كتابه (المرايا المتجاورة) الذي ألّفه عصفور في قراءة تجربة طه حسين وإبراز بعض أبرز سجاياه ودلائل دوره كمثقف تنويريّ، أو من خلال تكرار الحديث عنه في مقالات ومناسبات ومواقف لا تُعدُّ ولا تُحصى، ويبدو أنَّ هذا الاهتمام يعكس اختيارات عصفور نفسه، كأنَّما أراد أن يكون صورة محدّثة من نموذج طه حسين في اهتماماته وأدواره ونشاطه، ونتفق مع من لاحظوا هذا التشابه، وهو في الجملة تشابهٌ عميقٌ وليس تقليدًا أو محاكاة، إنَّه أديبٌ يهتمُّ بالنثر والشعر والنقد الأدبيّ، ولكنَّه أديبُ عقلٍ ينتسب لمثقفي الحداثة العقلانيّة ولمن يربطون الأدب بالفكر والمجتمع، ليس بالمعنى الثوريّ ولكن بالمعنى الأقرب لدور الثقافة الليبراليّة التي تجد ضالتها في النموذج الغربيّ وفي قراءة التراث العربيّ قراءةً ناقدةً تقرّبه من مبادئ التنوير، وتبعد به عن الثقافة التراثيّة باتّجاهها السلفي الأميل إلى الاتّباع والجمود.
قراءةُ التراث وغوايته:
جابر عصفور أحدُ كبار الدارسين والنقُّاد الذين انطلقوا من تجربةِ قراءةِ التراث، وتقع اهتماماتُه الأكاديميّةُ في قلب هذه الدائرة، وموضوعات رسائله الجامعيّة وبعض أشهر كتبه وبحوثه تغذّي هذه الدائرة الحيويّة، ومن أبرز مؤلفاته في مجال قراءة التراث: "الصورة الفنيّة في التراث النقديّ والبلاغيّ"، "مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقديّ"، "قراءة التراث النقديّ"، "غواية التراث"، "دفاعا عن التراث"... ونرى أنَّ منابعَ هذا التوجّه في تفكيره واهتمامه عائدٌ إلى تأثّره بقراءة المرحوم طه حسين للتراث وبطبيعة تلك القراءة المجدّدة، فلقد تأسّست على الاختلاف، وعلى ضرب من نزع قدسيّة التراث، والنظر إليه بوصفه أثرًا دنيويًّا غير مقدس أو مدنّس، أي أنَّها قراءة حداثيّة بالمعنى الفكريّ والثقافيّ، ويعوّل فيها على وعيّ الناقد والدارس بحداثة المنهج الذي يستنير به في قراءة المادة التراثيّة، والأمر الآخر أنَّ هذه القراءة لا تهدف إلى الاستغراق في الماضي أو الاغتراب عن الحاضر، وإنَّما هي قراءةٌ جديدةٌ للتراث تتغيا وضعه أو وضع بعض جوانبه الحيّة في سياق الحاضر، وهي أيضًا تشتبك معه بلا هوادة، وتكسر أثناء ذلك بعض ما ألفه واعتاده الناسُ في أمر التراث، ولذلك كثيرًا ما تخلّف اعتراضات وردودًا كثيرة، فهي إذن مختلفة أو متعارضة مع القراءة الاتّباعيّة السلفيّة للتراث، وإن كانت تتفق معها في الاعتماد على المدونة التراثيّة، ولكن شتّان بينهما في المنهج وطرق التناول والنتائج.
زمنُ الرواية ونجيب محفوظ
الدائرةُ الأخرى المهمّة هي انتباه عصفور لصعود الرواية العربيّة واهتمامه بمركزيّة نجيب محفوظ في تجربة الرواية العربيّة الحديثة، وتؤيد هذا الاهتمامَ مؤلفاتُ الراحل التي تحمل عناوين دالّة منها: "زمن الرواية"، و"نجيب محفوظ: الرمز والقيمة"، "الرواية والاستنارة"، "هذا زمن القصّ"... وفي معظم قراءاته للرواية تجد تركيزه على وظيفة الرواية وعلى علاقتها بالعصر الحديث، كأنَّه حقًا يتبع خُطا نجيب محفوظ، ومن قبله أولئك المفكّرون الذين نظّروا لظهور الرواية وموقعها في أجناس الأدب، والذهاب إلى تفسير وصف زماننا بأنَّه زمن الرواية تفسيرًا حضاريًّا يتّصل بوظيفة الرواية وصلتها بالتعبير عن المدينة الحديثة وعن روح العصر الحديث. وقد لا تجد للراحل قراءات نقدية بالمعنى النصّيّ والفنيّ قدر اهتمامه بموقع الرواية وصعودها وإثبات دفاعها عن عالم المدينة والعقل والتنوير ومواجهة الإرهاب، وهو ربطٌ يستند في جذوره إلى فكرة قديمة لـ(جورج لوكاش) عندما وصف الرواية بأنَّها ملحمةُ العصر الحديث، وأنَّها الجنس الأدبي المرشح للتعبير عن تحوّلات البرجوازية الحديثة، خلفًا للملحمة التي عبّرت قبل ذلك عن عالم مختلف عن عالمنا. ولقد تصادى نجيب محفوظ مع هذا التصوّر عندما كتب مبكرًا -كما يذكّرنا عصفور- ردًا على العقّاد في مجلة الرسالة أداره حول فكرة مؤدّاها أنَّ "القصة هي شعر الدنيا الحديثة". أي أنَّها مرشّحة لأن تكون ديوان العرب الحديث بدلًا من هيمنة الشعر في أزمنة الماضي.
وأخيرًا ، لا ننسى أنَّ الراحل جابر عصفور قد ترك جملةً من الكتابات والمؤلفات- غير ما ذكرنا- تدور في مدار التنوير ومواجهة التعصب والإرهاب، ونقد ثقافة التخلف، والانتصار للعلم وللعقل وللمرأة وللدولة المدنيّة ونحو ذلك من مفاتيح تصدر عن أصل واحد، ومن هذه الكتابات مؤلفاته التي تحمل العناوين الآتية: "هوامش على دفتر التنوير"، "مواجهة الإرهاب"، "الرهان على المستقبل"، "دفاعًا عن المرأة"، "نقد ثقافة التخلف"، "نحو ثقافة مغايرة"، "التنوير والدولة المدنية"... فهي عناوين دالّة على موقع مؤلفها وموقفه من قضايا العصر، ودالّة على رحلة شيّقة تضمن لصاحبها ضربًا من الحياة المتجدّدة، حتى وإن انتهت بالموت رحلة الحياة القصيرة.