"أبو همام" عبد اللطيف عبد الحليم، تلميذُ العقّاد،.

يكتب عنه تلميذه: د. يحيى عبد العظيم.
ناقد وباحث مصري.
في صالون العقاد؛ انطلق أبو همام إلى القاهرة؛ جلس بين يدي شيخه العقّاد، وكان آنذاك طالبًا بالأزهر الشريف، فحان دوره؛ ليلقي قصيدته على مسامع عملاق الأدب العربي عباس محمود العقّاد. كان ذلك أوائل الستينيات من القرن الماضي.
• لقاء العقاد
أنشد عبد اللطيف عبد الحليم ـ وهو طالب بالأزهر قصيدته أمام عباس العقّاد في ندوته الأسبوعيّة التي كان يقيمها في بيته بالقاهرة كلَّ يوم جمعة، فلقيت صدى وقبولًا في نفس العقاد الذي وجّه سؤاله إليه: «أين تدرسُ يا مولانا؟» فأجابه الفتى: «في الأزهر»، فردَّ عليه العقّاد: «ادخل دار العلوم يا مولانا"، وكلمة "مولانا" كانت من لوازم شيخنا العقّاد.
ومنذ هذه اللحظة؛ أصبح العقّادُ أستاذ أبي همام الأثير؛ إذ التحق ذلك الشاب اليافع الذي كان يحفظ ما يزيد على العشرين ألف بيت بكلية دار العلوم/ جامعة القاهرة، وتخرج فيها سنة 1970م، ثم عُيّن معيدًا فيها، ولشغفه بالعقّاد ومدرسة الديوان؛ حصل أبو همام على درجة الماجستير سنة 1974م، وكانت تحمل عنوان: "المازني شاعرًا"، والتي أنصف فيها المازنيَّ أيّما إنصاف.
• دكتوراه الدولة في الأدب المقارن
لكن أبا همام ما لبث أن ابتُعث إلى إسبانيا، وتحديدًا إلى "جامعة مدريد" التي حصل فيها على درجتي الليسانس والماجستير مرةً أخرى، وذلك في العام 1978م، والتي حصل فيها كذلك على دكتوراه الدولة سنة 1983م عن رسالته الموسومة بـ:(دراسة مقارنة بين شعر العقّاد و"ميجيل دي أونامونو").
• العودة إلى دار العلوم
عاد مولانا أبو همام إلى القاهرة، إلى بيته الأثير الذي كان يعشق كل موطئ قدم فيها، حتى رقّي وأصبح أستاذًا مساعدًا بقسم الدراسات الأدبيّة بها، في هذه الأثناء كنت قد التحقتُ بدار العلوم، فالتقيتُ بشيخي وسيّدي وأستاذي أبي همام، وقد توطدت علاقتنا، فاتّخذت طبيعة الشيخ والمريد، وهذا كان ديدنه مع طلابه الشعراء على وجه الخصوص، نقابله، ونجلس إليه، فنجد منه الأب الحاني، والمعلم الإنسان، والناقد المتمرس، والعليم الخبير بكثيرٍ من أمور الحياة التي كانت تقف أمامنا حجر عثرة، فيأخذ بأيدينا للخروج من تلك المآسي.
• في قاعة الدرس
في تلك الفترة من أواخر ثمانينيات القرن الماضي؛ كانت الجماعات الإسلاميّة تنتشر بين الطلاب؛ ليس في دار العلوم وحدها، ولا جامعة القاهرة فحسب، بل وعلى مستوى الجامعات المصريّة كلها، فكانت تثير المشاكل والقلاقل في كثير من الأحيان.
كنتُ في الفرقة الثالثة؛ كان مولانا يقوم بتدريس مادة الأدب الأندلسيّ ونصوصه، ثم أخذ في الشرح مستغرقًا فيه حتى جاء على ذكر الغزل الأندلسيّ بجمالياته، وأبياته السائرة، وما قالته ولادة بنت المستكفي في ابن زيدونها، وما أنشدته حفصة بنت الحاج الركونية الأندلسيّة، وما إن ولج مولانا هذه الطريق حتى هاج الطلاب المتشدّدون، فغضب أبو همام، وترك قاعة الدرس، فتدخلت للتهدئة، وكبح جماح هؤلاء الطلاب، وأن عليهم الاعتذار لشيخنا.
كان مولانا قريب الحاشية، رحيم النفس، جميل الروح، فنزل من مكتبه، وقال لنا في مدرج (3) بالدور الأول آنذاك، والذي لا أدري ما هو مصيره الآن؟، ثم وجّه حديثه لمن أغضبوه قائلًا: "إذا كنتم تتحدثون عن الدين، فأنا أكثر منكم تدينًا والتزامًا، فقد كنت أؤم المصلين في إسبانيا، وأخطب الجمعة، وأحفظ القرآن كاملًا، وأحفظُ ما لا تستطيعون حفظه من أحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعليكم ألا تضيّعوا على أنفسكم، وعلى زملائكم وقتهم، ومحاضراتهم، والتزموا بدوركم طلابًا في طريق العلم، واسألوا ما شئتم، وسأجيبكم عنه".
• أنا وأبو البقاء
في إحدى محاضرات مولانا أبي همام والتي كنت غائبًا عنها؛ شرع مولانا في شرح وتحليل قصيدة أبي البقاء الرنديّ الأندلسيّ، والتي يرثي فيها الأندلس، ويقول في مطلعها:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ
وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ.
أخبرني زملائي أنَّ مولانا قد سأل عني قائلًا: "أين يحيى عبد العظيم؛ ليكتب لنا قصيدةً على غرار نونية أبي البقاء".
• أبو همام الإنسان
نظمتُ قصيدتي التي عنونتها بـ: "إلى أبي البقاء الرنديّ"، معارضةً لقصيدته، وعلى الوزن والقافية عينهما، ذهبت إلى مولانا أبي همام، فصمّم أن يناقشها معي، ويعرضها بالقناة الثالثة في التليفزيون المصريّ، فلم يكن آنئذ غير القناتين الأولى والثانية، والثالثة كانت في بداية عهدها، ولم يكن هناك تلك الكثرة الكاثرة من القنوات التي وكما يقول المصريون: "بقت زي الرز"، ولم تكن بهذه الحالة من السخف والتسطيح الذي نعيشه يوميًّا، وما تقدمه تلك القنوات من إسفاف، بل تكاد تخلو كثير من البرامج من المعلومة الهادفة، والقدوة الحسنة لشبابنا وشاباتنا، فأصبحنا نرى كل تلك الحوداث والبلايا في كل حدب وصوب.
كان من أبيات قصيدتي؛ ما يستشرف حالنا اليوم رغم مرور ما يزيد على ثلاثة وثلاثين عامًا، وأقولُ فيها:
ونامت القدس في أحضان أندلس
وباتت العين يمحو دمعَها الحانُ
فالخمر فيها وفى الصهباء منسية
أتُسْكِتُ القلبَ والأيامَ ألحانُ؟.
من قال خمر الدنا للدمع شافية
وهل يواسى بفقد الإلف هيمانُ
ومن يحقّق للبلدان بغيتها
وقد تعرت بها في الليل أبدانُ
واليوم صارت بلاد اللـه متخمةٌ
بكل خُلْفٍ، ويُنْسِي القومَ نسيانُ
عادت طليطلة تبكي لمرسية
وعاد أيلول يسقيه حزيرانُ
وترتع الريح تمحو كل ثائرة
كأن أهل الثرى للريح عبدانُ
فيُكتَمُ الحقُّ في أفواه أتقيةٍ
لينطق الزور زنديق وسكران
ويصبح العلم في أنهارنا غَرِقَا
ويحكم الناسَ بالطاغوت ....
ذهبنا نستبق إلى مبنى ماسبيرو ـ نحن أبناء أبي همام ومريديه ـ فوجدناه جالسًا في الصالون في استقبال باب (4) من مبنى الإذاعة والتليفزيون المصري ينتظرنا، فباغتنا بضحكته المعهودة التي لا تخرج إلى من قلب أبي همام، تركت سيارتي؛ لنعيش صعلكة الشعراء يومًا، كان ذلك في العام 1988م، وكان يقطن في المعادي، صعدنا إلى الاستوديو، جلسنا في بهو أمامه، ننتظر حتى يتم التجهيز، فاجأنا شاب ضحوك مقتربًا من مولانا، وقدّم له كوبًا من الشاي، وقال له مبتسمًا:" أنا تلميذك بدر، أتدرب هنا مساعد مخرج، وحضرتك طردتني اليوم من المحاضرة". فضحكنا جميعًا.
أقسم مولانا ألا يشرب من الكوب شيئًا إلا إذا جيء لكل منا بكوب مثله، أو نقتسمه جميعًا، وقال بالبلدي: "حتى لو كل واحد فينا هياخد شفطة من الكوباية"، والتفت إليَّ، وقال: "يحيى هو الذي سيجد لنا من يحضر الشاي"؛ لكنَّهم بادرونا بأن الاستوديو جاهز الآن للتصوير، فدخلنا، وكنا مجموعة من شعراء الكلية؛ يسجّلون قصائدهم في هذا البرنامج الذي أذكر أنَّ عنوانه كان "نجوم على الطريق".
• في باب اللوق
في مطلع كوبري (6) أكتوبر أمام "هيلتون رمسيس"؛ لا سبيل لأن تمرّ إلى الجهة الأخرى إلا مجازفةً؛ كنّا قد خرجنا توًّا من "ماسبيرو" سيرًا على الأقدام؛ أخبرنا أبو همام أنَّه سيأخذنا إلى الكافيتيريا التي كان يجلس بها العقّاد وتلاميذه في باب اللوق وسط القاهرة؛ ذهبنا إلى هناك، جلس مولانا، وتحلقنا حوله؛ بادرنا قائلًا: "مين بيشرب سجاير"؟ قلت له: أنا. قال:" اشرب، واشربوا ما تحبون، وليذهب أحدكم؛ ليحضر لنا بعض الساندويتشات"، وسحب سيجارة، وأشعلها، وقال: "ليكن كل منكم على راحته".
أخذنا الوقتُ والشعرُ، والحديثُ يمنةً ويسرةً، ثم أخذ مولانا يخبرنا عن أماكن جلوسنا، فقال: " أنا أجلس هنا مكان شيخنا العقّاد، ويحيى يجلس مكان خليفة التونسي أمين سر العقّاد، وصاحب شخصية أمين في رواية العقّاد الوحيدة "سارة"، وفلان يجلس مكان فلان"، حتى كاد الليل أن ينتصف، فهمَّ واقفًا، وقال: "هيا بنا لألحق آخر مترو متجه إلى المعادي"، وكان مترو الأنفاق لم يمر على تشغيله سوى عامين تقريبًا، هرولنا، وأخذنا نعدو في طريقنا إلى محطة السادات "التحرير" حتى يلحق مولانا بآخر رحلة إلى المعادي.
• أبو همام الشاعر
كان بزوغ نجم مولانا الشاعر عبد اللطيف عبد الحليم مطلع الستينيات من القرن الماضي عندما ألقى قصيدته بين يدي العقّاد، فنالت رضاه وإعجابه، فأصدر ديوانه الأول "الخوف من المطر" في العام نفسه الذي حصل فيه على الماجستير "المازني شاعرًا" سنة 1974م، يقول الراحل أبو همام في مطلع قصيدته "من آخر كلمات ابن حزم":

غادرتكم، لا تروق صحبتكم غمامكم راعد، ولا مطر
وبأسكم بينكم، وشأنكم يحكم فيكم، وشأنه البطر
كل ... تدعونه ... وما له همةٌ ولا خطر.
ثم أصدر ديوانه "لزوميات وقصائد أخرى" في العام 1985م، ثم ديوانه "هدير الصمت" 1987م، فديوان "مقام المنسرح" 1989م، و"أغاني العاشق الأندلسيّ" سنة 1992م، وأخيرًا ديوان "زهرة النار" سنة 1998م، وها هو الشاعر يقولُ في إحدى قصائده:
تبسّمي، تورقُ النجومُ بأعماقي، وتَندى أشعةُ القمرِ
ووقِّعي نغْمةَ الصباح بأعراقي وصُبّي الربيعَ في الوتر
عصفورتي زهوةَ الحقولِ، ويا شوقَ الندى، في تنفُّسِ البُكَر
تَأَلَّفي صُحبةَ الهجير، ولا تَمَلْمَلي للسقام، واصطبري
ليت الذي تطلبينَ، أرديةُ الحسن، أو الحَلْيُ شائقَ الصّور
أو مهجةُ الشاعر الأسيف وإن أخشى عليكِ المخزونَ من فِكَري.
ومن أبدع ما كتب قصيدته "من المعتمد بن عباد إلى ملوك الطوائف" التي يقول فيها:
جرحيَ دامٍ، وما بنا أملُ والرومُ من حولنا همُ الأملُ
نرعى خنازيرهم! وليس لنا من رعيها ناقةٌ ولا جملُ
قصورنا تاجها صقالبةٌ وشعبنا في عيوننا هملُ
وكلنا قادرٌ ومعتمدٌ أسودنا لا يهابها الحَمَلُ
إلى اعتماد تكون قِبلتنا يمثل فيها الخفيفُ والرَّملُ.
لقد كان مولانا فوق ذلك مترجمًا بارعًا، فحصل على جائزة الدولة التشجيعيّة في الترجمة الإبداعيّة سنة 1987م، فغضب غضبًا شديدًا، وقال أنا شاعر، ولست ترجمانا، فقد كان لا يعشق شيئًا يقترن باسمه غير لقب الشاعر، رغم أنَّه العالم المتبحر الحَبر، المحقّق الثبَت، النقّادة الغيور على شعرنا العربيّ بعيدًا عما طاله من تدليس وتزوير وتزييف، فكانت المناظرة التي أجرتها قناة الجزيرة بينه وبين نوري الجراح، والتي أفصح فيها أبو همام عن دور المخابرات الفرنسيّة في تمويل وإصدار مجلة شعر البيروتية أواخر الستينيات من القرن الماضي لترسيخ جذور قصيدة النثر، ثم نفضت يدها عمن فيها، بعد أن أدخلتهم طريقًا لا يستطيعون العودة منه، وإن كانت هذا اللون رغم كثرته وغلبة الغثاء عليه في طريقه إلى زوال آجلًا أو عاجلًا.
• أبو همام الناقد
يمثّل كتابُه "شعراء ما بعد الديوان" علامةً فارقةً في أدبنا العربيّ الحديث؛ إذ أقامه مولانا على ثلاثة أجزاء، يرصد فيها كل تلاميذ العقّاد دون النظر إلى السن، فقط محور الدراسة والتأريخ يدور حول كل من كان تلميذًا للعقاد، والدور الذي لعبه كل منهم استمرار مسيرة مدرسة الديوان، بل إنَّه يقدّم من هؤلاء الشعراء "سيد قطب" الدرعمي قبل انحرافه موليًّا وجه قبل الإخوان، بل ومنظِّرًا لهم، ويقدّم له قصيدة بعنوان "قُبلة" في ديوانه الأول الذي أصدره سنة 1926، وهو العام نفسه الذي أصدر فيه الشيخ الشعراوي ديوانه الأول.
لقد ظلَّ أبو همام منافحًا عن القصيدة العموديّة، مقدمًا كلَّ ما يؤكّد أنَّ الشاعر الشاعر هو الذي يستطيع أن يقدّم كلَّ جديد من صور وتراكيب ودلالات واستعارات وتشبيهات في القالب العمودي، وقد فعل ذلك، فمسألة أنَّ القصيدة العمودية عاجزةٌ وقاصرةٌ عن استيعاب ما تقدمه قصيدة التفعيلة رهنٌ بمقدرة الشاعر، وليس بانسيابية القالب الذي تكتب فيه القصيدة.
• الفارس يترجّل عن جواده
كان مولانا عضوًا في كثير من اللجان الأدبيّة، ورأس مجلس إدارة جمعية العقّاد الأدبيّة بين عامي 1985 و1988، والتي كنت عضوًا بها، وأنا طالب في السنة الثالثة بكلية دار العلوم/جامعة القاهرة، كما حصد أبو همام كثيرًا من الجوائز المصريّة والعربيّة، وقد ولد عبد اللطيف عبد الحليم عبد الله سنة 1945م بقرية طوخ دلكة ـ محافظة المنوفية، وترجّل عن صهوة جواد الشعر والنقد في 16 ديسمبر سنة 2014م، وقد ترك العقّاد في ذريته، فجعل اسم ابنه "همام"، واسم ابنته "سارة"، وهما اسما بطلي رواية العقّاد الوحيدة "سارة"، وباسم ابنه كانت كنيته الأثيرة إلى قلبه، والتي غلبت عليه. رحمات الله تعالى ومغفراته على مولانا "أبي همام" في أعلى عليين.