مشكلةُ الحريّة لدى د. زكريا إبراهيم... منظورٌ فلسفيّ.

 د. أشرف حزين
أستاذ الفلسفة في جامعة مدينة نيويورك.
تتّسمُ المقاربة الفلسفيّة لمشكلة الحريّة بالشموليّة والإحاطة بكلِّ جوانب المشكلة والنفاذ إلى أعماقها. ويرى د. زكريا إبراهيم أنَّ الإنسان يشترك مع باقي الموجودات في الطبيعة من جهة كونه كائنًا طبيعيًّا، وهذا الكائنُ الطبيعيُّ تسري عليه كلُّ القوانين الطبيعيّة التي تسير وفق نظام العلّة والمعلول . ولكن الإنسان بوصفه كائنًا متميزًا على باقي الكائنات، يُعدُّ أشدَّها حنينًا إلى التخلص من جبرية الظواهر، وأقواها نزوعًا نحو التحرّر من أسر الضرورة. وليست قوانين الطبيعة وحدها هي التي تحاول الحدَّ من حرية الإنسان؛ بل إنَّه يخوض نضالًا ضدَّ جبريّة المجتمع وقيوده، وكذلك جبريّة الماضي، وحتى صراعه مع الآلهة؛ وهكذا تغدو الحريّةُ مشكلةً؛ بل مشكلة المشاكل كما يصفها إبراهيم.
يشير زكريا إبراهيم أنَّ الفلسفة المعاصرة أعادت مشكلة الحريّة إلى الصدارة بعد أن أصابها الجمود وعلاها الصدأ. ومع أن الجانب الميتافيزيقيّ هو الذي هيمن على هذه الإشكاليّة طوال تاريخ الفلسفة، إلا إنَّ إبراهيم ينوّه أنَّ الجانب الأخلاقيّ يُعتبر من الجوانب المهمّة التي يجب على الباحث أن يوليها الإهتمام الكافي، علاوةً على أنَّه يرى أنَّ العلوم المعاصرة أتاحت للفلسفة أن تعاودَ البحثَ في مشكلة الحريّة وفق منظورٍ علميّ. فمن المعلوم أنَّ تطوّر العلم أدى " إلى معاودة النظر في مبدأ الحتميّة، مما أدى إلى قيام نزعات احتماليّة في نطاق العلم نفسه، تعبّر عن إمكان قيام حريّة ميتافيزيقيّة شاملة.
يناقش إبراهيم ابتداءً مقولة الحريّة من حيث معناها، ويحاجج القائلين بها والمؤيدين لوجودها، وكذلك مناقشة المنكرين لها، ويقدم تعريفًا مبدئيًّا للحريّة، فيصفها أنَّها تلك الملَكة الخاصّة التي تميّز الكائن الناطق من حيث هو موجودٌ عاقلٌ يصدر في أفعاله عن إرادته هو، لا عن إرادة أخرى غريبة عنه. ويُستفاد من هذا التعريف وجود عنصرين مهمّين؛ هما: عنصر الوعيّ، وانعدام القسر الخارجيّ، وشرطُ الوعيّ مهمٌّ وإلا تحوّل الإنسانُ إلى كائن مطبوع. ويحذّر إبراهيم من أنَّ وضع تعريف للحريّة ليس بالأمر الهيّن، ويقترح تحديد الحريّة بواسطة السلب، فيرى أنَّ مفردة الحريّة يمكن أن تكون مقابلًا لمفرداتٍ أخرى مثل: الضرورة، الحتميّة، القضاء والقدر، الطبيعة. كما يشير إلى أنَّ اشتغالات الفلاسفة على هذه المشكلة تمخضت عن أربعة مفاهيم مختلفة للحريّة:
أولًا: مفهوم حريّة الاختيار الذي ينطلق من الإرادة المطلقة، حيث تكون الحريّة هنا داخليّة خالصة، وليس لها مرجح خارجيّ؛ لأنَّها قائمة على استواء الطرفين.
ثانيًا: الحريّة الأخلاقيّة التي تأتي بعد طول تأملٍ، فمفهوم الحريّة هنا ليس في السلوك العفويّ المباشر، بل يكون بعد وعيٍّ وتأمل، ويشير إبراهيم أنَّ "كانط" ربط هذا النوع من الحريّة بالاستقلال الأخلاقيّ.
ثالثًا: حريّة الحكيم الذي استطاع التخلّص من كلِّ شر، ومن كلِّ كراهيةٍ ومن كل رغبة، أو هي حرية الفيلسوف الذي تخلّص من عبودية الأهواء والغرائز والجهل. وقد اعتنق هذا المذهب فلاسفةٌ مثل "اسبنوزا و"ليبنتز" وكذلك اعتنقها الرواقيون، ولكن الملفت أنَّهم وصلوا إلى طريق مسدود وتحوّلوا للمذهب الجبريّ.
رابعًا: وهي حريّةٌ نابعةٌ من الشعور الإنسانيّ، وتُدعى بالعليّة النفسيّة؛ حيث تنبعث الحريّة من أعمق أعماق الذات. ويعتبر "برجسون" هو أفضل من عبّر عن هذا الشكل من الحريّة. ويستدرك إبراهيم بالقول إنَّ تعريف الحريّة ربما لا يكون مجديًا، خاصّةً عندما نخضعها للاعتبارات العقليّة الخالصة. ويشير "برجسون" في هذا الصدد " أنَّ كلَّ تعريفٍ للحريّة لا بدَّ أن ينتهي إلى تقوية حجة أنصار الجبريّة، ذلك لأنَّنا حينما نحاول أن نبرهن على الحريّة بالبرهان العقليّ التصوريّ، فإنَّنا لا بدَّ أن ننتهي إلى إنكار وجودها. وربما يكون هذا صحيحًا؛ لأنَّ قضية الحريّة تصبح قضيةً خاسرةً حينما يتصدى لها فلاسفةٌ من منطلقات عقليّة خالصة. ويشير زكريا أنَّ قضية الفعل الحر تتضمن بالفعل تناقضًا منطقيًّا، فكلُّ فعلٍ مهما كان لا بدَّ أن يخضعَ لمبدأ السبب الكافي، والذي يقرّر أنَّه لا يمكن أن يحدث شيء إلا إذا وجد السبب الكافي لحدوثه، فإذا كان هناك سببٌ لكلِّ فعل هو علة وجوده، فكيف نستطيع الادّعاء أنَّه فعلٌ حر؟ أليس هو خاضع لجبريّة السببيّة؟. أمَّا إذا نفينا أن يكون للفعل الحرِّ سببٌ كافٍ، فإنَّنا ننفي إمكانية حصوله. وهذا يطرح اشكاليّةً أساسيّةً في مقولة الحريّة، وهي قضية البدء من العدم، فهل الحريّةُ خُلقت من العدم بلا أسباب أو علل؟. يجيب "مين دي بيران" على هذا السؤال بالإحالة إلى مشكلة "الأنا أفكّر" الديكارتيّة، ويرى أن "ديكارت" كان واهمًا في تصويره للذات بوصفها ذاتًا مُفكِّرة، واقترح الذات المريدة كبديل عنها، واستبدل "الأنا أفكّر" الديكارتيّة ب"الأنا أريد"، وقال: " أنا أريد، أو أنا أتعقل الفعل في ذاتي، فإذن أنا أدرك نفسي كعلّة، وبالتالي فأنا إذن موجود، وأنا كائن باعتباري علّةً أو قوة. ويخلُص إبراهيم من كلِّ هذه المحاولات لتعريف الحريّة أنَّها عصيّةٌ على التعريف. وقد ذهب إلى هذا الرأي فلاسفةٌ معاصرون، مثل؛ "يسبرز"، و"لافل"، و"جبريل مارسيل".
بعد رحلته في تعريف الحريّة، واستنتاجه أنَّ تعريفها مستحيلٌ، يتساءل إبراهيم: " هل نستنتج من ذلك أنَّ الحريّة ليست سوى وهمٍ أو خداع؟. يجيب إبراهيم على هذا التساؤل أنَّ الحريّة بالفعل لا يمكن إثباتها، وأنَّ محاولة إثباتها تقود إلى نفيها، فالحريّة تُعاش بشكلٍ مباشر، وهي بالتالي لا تحتاج لإثبات، فهي تجربةٌ ذاتيّةٌ مباشرة. ويرى أنَّ مجرد حضور الذات أمام نفسها ينطوي على الحريّة. وبعد أن يغرق إبراهيم في الآراء والآراء المضادة حول فكرة الحريّة، نراه يعود مرةً أخرى إلى "كانط" لكي يحتكم إليه وسط هذا الخضم من الآراء المتناقضة. يشير "كانط" - بحسب إبراهيم- إلى وجود عالمين يحكمان وجود الإنسان، عالم الظواهر الذي يعيش فيه الإنسان بجسده البيولوجيّ والذي تسري عليه كلُّ قوانين الطبيعة، وعالم البواطن.
ويقول "كانط" إنَّ أفعالنا الخارجيّة ليست سوى رموزٍ أو مظاهر تعبّر عن خلقنا الباطن، بل هي عالية عليه، فنحن إذن خاضعون لقوانين الضرورة في جانبنا الذي يخضع ويتحقّق في عالم التجربة؛ ولذلك فإنَّ أفعالنا مرتبطةٌ ارتباطًا ضروريًّا بما تقدَّمها، أعني البواعث والدوافع السابقة عليها. وبالرغم من أنَّ "كانط" يعطي قيمةً للبواعث الداخليّة، إلا إنَّ ضرورة هذه البواعث تضع الإنسان في حالة من انعدام الاختيار. وللخروج من هذا المأزق، يقترح "كانط" أن لا ننظر إلى الإرادة الإنسانيّة بشكلٍ منعزل، بل علينا أن نربطها ربطًا شموليًّا بحياة الإنسان في مجموعها. وهو يرى أنَّ الطابع الخلقي يدخل كطرفٍ في المعادلة السابقة ويقرّر لنا سلوكنا، ويقرّر أيضًا أنَّ هذا الطابع الخلقي، نحن الذين نشكّله ونخلقه بفعلٍ حرٍّ متعالٍ على الزمان. ويعترض إبراهيم على هذه الحريّة التي يقدمها "كانط"، والتي يقول عنها إنّها متعالية على الزمان، ويرى أنَّها حرية صوفيّة، وهي حريّةٌ مثاليّة موهومة. والحقيقة أنَّ إبراهيم يرى ضرورة تخطي "كانط"؛ لأنَّه لا يقدّم صورةً وجوديّةً عن الحريّة. ويذهب إبراهيم للقول إنّنا بدلًا من أن نبحث عن الحريّة خارج الزمان، فإنَّه يتوّجب علينا البحث عنها داخل وجود الإنسان وداخل المجتمع. وعندما ينتقل إبراهيم إلى هذا النوع من الحريّة يجد نفسه أمام الدليل الاجتماعيّ على وجود الحريّة، وهو الدليلُ القائمُ على القوانين والجزاءات. يشير إبراهيم أنَّ كلَّ التشريعات والقوانين والجزاء والثواب والعقاب في المجتمع تفترض في مجموعها أنَّ الإنسان هو ربُّ أفعاله؛ وبالتالي فهو مسؤولٌ عنها.
يبادر زكريا إبراهيم في نهاية الفصل الأول إلى فحص ما يُسمّى بالدليل الميتافيزيقيّ على وجود الحريّة، وهو كما يشرحه إبراهيم " دليلٌ يقوم على فهمنا لمعنى الإرادة وتحليلنا لمضمون الفعل الإراديّ". ويناقش مفهوم الضرورة بوصفه محدّدًا مهمًّا من محدّدات الحرية، حيث يشير أنَّ الحريّة لا يمكن الإحاطة بها إلا من خلال نقيضها. فالحريّة ليست مفهومًا مطلقًا معزولًا عن غيره؛ لأنَّ كلَّ ما هو مطلق يُعتبر كلمةً جوفاء لا معنى لها ولا تدلُّ على أيِّ شيء. وهكذا يستنجد إبراهيم برأي "كارل يسبرز" الذي يقرّر أنَّ لا وجود للحريّة المطلقة، حيث لا معنى لها. ويقرّر "يسبرز" أنَّ الحريّة تصبح خاويةً إذا لم يكن ثمة شيء يضادها. وفكرة الضرورة قديمة في الفلسفة، حيث نرى أنَّ الفلسفة اليونانيّة قد قالت بالضرورة وقسّمتها إلى نوعين: النوع الأول هو الضرورة العمياء التي يخضع لها الإنسان والآلهة على حدٍّ سواء. وتسري هذه الضرورة على الكائنات كافة، سواءً كانت كائنات حيّة أو جمادات. والنوع الثاني من الضرورة الذي قال به اليونان هو الضرورة التي يقتضيها القانون الأخلاقيّ، باعتبار أنَّ الإنسان مطالبٌ أن يسير وفق نظام أخلاقيّ حتى يكون سيره مستقيمًا. يتتبع إبراهيم مفهوم الضرورة في الفلسفة اليونانيّة، ويرى أنَّها ظهرت عند "لوقيبس"، وعند "بارمنيدس" الذي ألّه الضرورة، وكذلك أفلاطون الذي جعل الكون يدور حول محور الضرورة. وعندما ننتقل إلى الفلسفة الحديثة، فإنَّ "اسبينوزا" يُعدُّ من أهمِّ القائلين بالضرورة، حيث يرى أنَّ الله- عزَّ وجلَّ- هو العلّة الحرّة لسائر الأشياء، وإن كان كلُّ شيء يصدر عنه وفقًا لما في طبيعته من ضرورة، فما يحدث في الوجود إنَّما يصدر ضرورةً عن طبيعة الله المطلقة وقدرته اللامتناهيّة. ويصوّر الفيلسوف "تين" مذهب الضرورة " في صورة ميكانيكيّة تجعل من الإنسان مجرد حيوان، هو من الناحية الفيزيائيّة كالآلة، ومن الناحية العقلية كالنظرية الهندسيّة. أمَّا "شوبنهاور" فيشير إبراهيم أنَّه يتفق مع "كانط" في كون الحريّة لا وجود لها في العالم الطبيعيّ؛ بل هي موجودةٌ فقط في العالم الميتافيزيقيّ. وقد تأثر العالم الفيزيائيّ "أينشتين" بنظرية "شوبنهاور" عن الحريّة، فهو يرى أن الإنسان لا يفعل بناءً على إملاءات خارجيّة فقط؛ بل وفقًا لضرورة باطنيّة أيضًا. ويشترك "لافل" و"يسبرز" في نفيهم للحريّة المطلقة وتأكيدهم على ضرورة وجود مادة تمارس الإرادة وجودها من خلالها. ويخلص زكريا إبراهيم للقول إنَّ الحريّة والجبريّة بينهما جدلٌ لا يتوقف، وعندما ننفي الجبريّة فإنَّنا ننفي الحريّة، والعكسُ صحيحٌ.