الترجمة في مشروع جابر عصفور النهضوي

د. عارف عادل مرشد/ باحث وأكاديمي أردني
aref_murshed@yahoo.com
"الترجمة أكثر من مجرد تبليغ"
فالتر بنجامين (١٨٩٢ – ١٩٤٠م)
يرى المترجمُ والمفكّرُ المصريُّ شوقي جلال (١٩٣١) أنَّ الترجمة أكبر وأعمق من أن تكون مجرد عملية نقل كلمات، فهي بمثابة وسيلة تواصل وحوار بين مختلف الأمم والحضارات، وهو حوار يشمل جميع مجالات المعرفة علومًا إنسانيّة وطبيعيّة. والترجمة أداة اكتساب وأداة تعبير عن عزم الإنسان/ المجتمع على استيعاب أكبر قدر يعينه باختياره وإرادته، من حصاد المعارف الإنسانيّة التي هي سلاح الإنسان في التطوّر والمنافسة والارتقاء والأخذ والعطاء على المستوى الحضاري تعزيزًا للوجود.
وبما أنَّ الترجمةَ جسرٌ رابط بين الحضارات، وهو ما كان المفكر الراحل د. جابر عصفور (١٩٤٤ – ٢٠٢١) يؤمن به، فقد نشر في مجلة العربي في يناير 2000 مقالًا تحت عنوان "نحو مشروع قومي للترجمة"، وضع من خلاله استراتيجيّة معرفيّة لتأسيس مشروعٍ قوميّ للترجمة، تقوم على مجموعه من المبادئ، منها:
المبدأ الأول: كسر الهيمنة اللغوية بالخروج من أسر المركزيّة الأوروبيّة الأمريكيّة. فقد ظلّت حركة الترجمة العربيّة أسيرةَ اللغة الإنجليزيّة بالدرجة الأولى، واللغة الفرنسيّة بالدرجة الثانية، وذلك في حال من التبادل الذي ارتبط بالصراع على النفوذ الثقافيّ على الأقطار العربية، ولم يصل إلى مستوى هاتين اللغتين غيرهما من اللغات الأوروبية كالإسبانيّة والألمانيّة والإيطاليّة ... الخ، فلم يكن للغةٍ من هذه اللغات الأخيرة من الحضور أو التأثير أو النفوذ ما للإنجليزيّة والفرنسيّة اللتين ارتبطتا بالحضور الاستعماريّ والمؤثرات الثقافيّة المصاحبة له. فالترجمةُ بالنسبة لمثقفٍ مثل د. جابر عصفور ليست فقط مجرد فعل ثقافيّ تواصليّ، وإنَّما هي - في ظلِّ واقعنا التاريخيّ الذي وعى د. عصفور أبعاده وتعقيداته وإشكالاته جيّدًا - فعلٌ سياسيٌّ بامتياز، وأنَّها بالأساس فعلٌ من أفعال المواجهة والمقاومة بكل معنى الكلمة. مقاومة هيمنة المركزيّة الأوروبيّة والأمريكيّة على الثقافة العربيّة والإنسانيّة بعامة. مثلما أنَّ الحرص على تعدديّة اللغات والثقافات المُترجم عنها يمثّل شكلاً من أشكال مقاومة التبعية للغات وثقافات بعينها على نحو ما. ومن ثم فإنَّها وسيطٌ من وسائط خلق التوازن الثقافيّ على المستوى العالميّ، والسماح لأصوات اللغات والثقافات المختلفة أن تتفاعل وتتحاور مع بعضها بعضًا.
أمَّا المبدأ الثاني، فيتمثل في الانحياز إلى كلِّ ما يؤسس لأفكار التقدّم، ويسهم في إشاعة العقلانيّة، ويشجّع على التجاوب الإنسانيّ الخلّاق في كلِّ المجالات وعلى كل المستويات، خصوصًا من منظور التنوّع البشريّ الخلّاق. إنَّ الترجمة - وفقًا لجابر عصفور - تزدهر في اللحظات التاريخيّة لنهضة الأمم، ويحدث ذلك عندما تمتلئ "الأنا" الوطنيّة أو القوميّة بالرغبة في الخروج من قوقعة تخلّفها، وتعرف نفسها في مرآة الآخر المتقدم، وتعرف الآخر المتقدم في مرآتها بالقدر نفسه، في هذه اللحظات التاريخيّة، تسعى الأنا إلى الآخر الذي تراه أكثر تقدمًا من غيره، وتحاول إنطاقه بلسانها المبين، مؤكّدة قدرة هذا اللسان المبين على أن ينطق صوت الآخر، ويشكله في نبرة ونغمة متميّزتين، وليس من الضروري أن يكون الآخر في هذه اللحظات هو العدو، أو الغازي، بل يمكن أن يكون المغاير الذي ينتج معرفةً مجدّدة بإمكانات هذه الأنا.
المبدأ الثالث: الاتصال بالتراث الإنسانيّ، ففي ظلِّ علاقة عصفور الحميمة بالتراث وخصوصًا التراث الفلسفيّ العربيّ، تمثّل مقولة الكندي الشهيرة والأثيرة لدى عصفور عن "تتميم النوع الإنسانيّ" مُحفّزًا ومفتاحًا ومُحركًا لكل آلات التقدم التي تأتي في مقدمتها الترجمة؛ ومن ثم نجده ينطلق من هذه المقولة ليكشف عن استحالة إنجاز ما تنطوي عليه هذه المقولة من قيم دون تواصل جماعات وأفراد هذا النوع الإنسانيّ وتفاعلهما، وأنَّه لا سبيل إلى تحقيق هذا بعيداً عن أفعال الترجمة. هكذا تبدو الترجمة أيضاً فريضة إنسانيّة تكتمل وتتحقّق بها إنسانيّة الإنسان. والاتصال بالتراث الإنساني يمثل تحديّاً من التحديات الخاصة، المقصورة على حركة الترجمة في البلاد النامية التي تنتسب إليها، وذلك بالمقارنة بينها وبين حركات الترجمة في الأقطار المتقدمة، فما حدث من جهود أجيال متتابعة نشطة في هذه الأقطار أدى إلى ترجمة الأصول المطلوبة للتقدم من كل لغات العالم المغايرة، الأمر الذي لم يحدث في ثقافتنا إلى اليوم، هذه الثقافة التي لا تمتلك- على سبيل المثال- ترجمةً للأعمال الكاملة أو حتى الأساسيّة لفلاسفة العالم الكبار، ابتداءً من أفلاطون وانتهاءً بفلاسفة التفكيك، وتقصيرها في ترجمة الأصول هو الوجه الآخر من تقصيرها في ترجمة الفروع المعاصرة، والمستجدات الأحدث من معارف الدنيا التي تندفع صوب وعود التقدم التي تحملها الألفية الثالثة، ولا مفرَّ لهذه الثقافة إذا أرادت أن تكون في مركز الصدارة من العصر، من أن تؤدي مهمة مزدوجة في الترجمة، وتصل ما بين تراث الإنسانيّة القديم والوسيط ومنجزاتها المعاصرة في الوقت نفسه. وبداية تحقيق ذلك يكمن في التخطيط الواعي، والعمل الدؤوب الذي يجمع بين ذوي الخبرات في كلِّ مجالٍ واتّجاه.
المبدأ الرابع والأخير: ضرورة "الاعتماد المتبادل" فيما بين الأقطار العربيّة، فانطلاقاً من هذه الرؤية السياسيّة للترجمة نجد د. عصفور يؤكّد ضرورة "الاعتماد المتبادل" فيما بين الأقطار العربيّة، إذ لن تستطيع "قاطرة" قُطر واحد على جرِّ كل هؤلاء الركاب في عرباتها؛ فالترجمة عند عصفور ليست قطار التقدم، وإنَّما قاطرة التقدم، أي عربة الجرِّ الملحقة بها والمتصلة بها عربات الركاب. ومن ثم نجده ينتقد الانغلاق القُطريّ، ويدعو إلى ضرورة التواصل والتعاون والتنسيق فيما بين مراكز ومؤسسات الترجمة في العالم العربي وتبادل الخبرات فيما بينها؛ بما يؤكّد قوميّة الهدف ويجسّد قوميّة العمل والمساهمة. وهو ما يعكس ضمنياً، مدى الحاجة إلى العمل المشترك، انطلاقاً من مفهوم الأمة الواحدة التي تجمعها هموم واحدة وآفاق مستقبلية مشتركة.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ د. جابر عصفور في الوقت الذي كان يدفع للترجمة في مختلف العلوم والفنون وبأيّ لغة من اللغات، لم يغفل آفات الترجمة التي راح يرصدها، ومنها: غلبة طابع التشرذم والعشوائيّة على حركة الترجمة العربيّة، وتقطّع جسور الاتصال وعلاقات التواصل بين المثقفين العرب، إلى جانب غياب التخطيط وانعدام وجود مركز للمعلومات يمكن الرجوع إليه لمعرفة ما تمّت ترجمته. هذه الآفات أدت إلى ترجمة الكتاب الواحد أكثر من ترجمة، وما يترتب على هذه الترجمات من فوضى اصطلاحية تتبعثر فيها الأسباب وتتداخل النعرات والعصبيات الإقليميّة.
كما نجده بقدر ما يشيد ببعض الجهود التي تقوم بها بعض الدول العربيّة، يوجّه أيضاً سهام النق

د لها في عدم دعمها الكافي للترجمة، أو في رقابتها، سواء في عمليات الاختيار أو في عمليات الترجمة ذاتها، وما يمكن أن يصاحب هذا من استبعاد كتب بعينها أو حذف أو تحريف، أو عدم صدور، أو على الأقل تأجيل صدور أعمال تمّت ترجمتها بالفعل.