أ.د. عبد القادر الربّاعي
أكاديمي وناقد أردني/ جامعة اليرموك – الأردن.
بعد أن حصلتُ على البكالوريوس من قسم اللغة العربيّة وآدابها في جامعة دمشق، بتقدير (جيّد)، توجّهتُ إلى جامعة القاهرة وسجّلت فيها للحصول على الماجستير. حدثت حرب حزيران ونحن في القاهرة قبل أداء الامتحان التمهيديّ.
وبعد انتهاء الحرب وتوابعها المعروفة كتنحّي عبد الناصر عن الحكم، وعودته بنداءات حاشدة من الشعب المصريّ، وغير ذلك من إشكالات، تقدّمتُ للامتحان التمهيديّ في الربع الأخير من شهر حزيران ونجحت فيه؛ لكنَّ ذلك النجاح أدخلني في نفقٍ مفتوحٍ على ما يتلوه، وهو الحصولُ على موضوع لرسالة الماجستير، واختيار المشرف على الرسالة للاتفاق معه على الموضوع. اتصلتُ بعد المشورة بالأستاذ الدكتور يوسف خليف وبعد أخذ ورد على بعض الموضوعات، وفّقت أن أحظى بإشرافه على رسالتي للماجستير بعنوان: ( صريع الغواني – مسلم بن الوليد – حياته وشعره).
سجّلتُ الرسالة في قسم اللغة العربية، جامعة القاهرة بتاريخ 1 / 9 / 1967. وحين أكملت الرسالة بعد عمل شاقٍ لمدة خمس سنوات، وبإعانةٍ من أستاذي المشرف؛ تقدّمت للمناقشة فيها صيف عام 1972. فشُكّلت لجنةُ المناقشة من الأساتذة؛ كالتالي:
- الأستاذ الدكتور يوسف خليف من جامعة القاهرة، مشرفاً ورئيساً. - الأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الرحمن من جامعة عين شمس، عضواً.
- الأستاذ الدكتور عبد اللطيف خليف من جامعة الأزهر، عضواً.
أخذت المناقشة وقتاً طويلاً وخاصّةً مع الدكتور إبراهيم عبد الرحمن؛ لكن النتيجة كانت مشرّفة والحمد لله: ( النجاح بامتياز). عدتُ للأردن، وبدأتُ أبحث عن عنوان جديد لرسالة الدكتوراة. وفي ربيع العام التالي 1973 أي بعد ثمانية أشهر تقريباً من حصولي على الماجستير، أتتني في مكان عملي بمدينة جرش الأثريّة بأعمدتها الرومانيّة المهيبة، رسالة من أستاذي المرحوم أ.د. يوسف خليف، يأمرني فيها أن أعدَّ مشروعاً لأطروحة الدكتوراة تحت عنوان: (الصورة الفنيّة لدى شعراء مدرسة البديع في العصر العباسي)؛ وذلك لعرض المشروع عليه في القاهرة أثناء العطلة الصيفيّة، ومن ثم عرضها على قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة الذي كان هو رئيسه لأخذ الموافقة على الموضوع. هذه الرسالة الثمينة، والمبادرة الكريمة غير المعتادة، من أستاذي النبيل كان لها مردودٌ عظيمٌ عندي.
أولاً: لأنَّها تؤكّد أنَّ ثقة أستاذي العالية بقدراتي العلميّة هو الدافع وراء حرصه على أن يظلَّ مشرفي.
ثانياً: لأنَّها فتحت لي منفذاً لرسالة الدكتوراة التي كنت محتاراً في اختياري عنواناً لها.
ثالثاً: لأنَّها أعطتني فرصةً للذهاب في العطلة الصيفيّة، إلى القاهرة لعرض مشروعي على أستاذي، مع الأمل في أن يحظى بالقبول لدي القسم.
رابعاً: بهذا التكليف اختصر الدكتور يوسف عليَّ مسافةً طويلةً بشأن تسجيل الرسالة.
امتثلتُ للأمر، وبدأتُ أفتّشُ عن الصورة الفنيّة في الشعر التي كانت جديدة عليَّ، وعلى جيلي بكامله، والرسائل فيها قليلة. اتّصلت بالدكتور نصرت عبد الرحمن رحمه الله - وهو من الأردن - الذي كان قد نال درجة الدكتوراة حديثاً برسالته المعروفة: (الصورة الفنيّة في الشعر الجاهلي). فأطلعني على رسالته التي أفدت منها، ومن الدكتور نصرت شخصيّاً، ما مكّنني من أن آخذ بداية الخيط. وعملت جاهداً لأصوغ مشروعاً يرضى عنه أستاذي ومعلمي ومشرفي الدائم.
كانت دراسة الصورة الفنيّة في السبعينيات من القرن العشرين جديدة على الدرس العربي، وقليلة الحضور فيه. لقد نوقشت في ذلك الوقت مجموعة محدودة من رسائل الدكتوراة عنوانها الصورة الفنيّة، وأشهرها:
- رسالة الدكتور جابر عصفور (مصري) بعنوان:(الصورة الفنيّة في التراث النقديّ والبلاغيّ).
- رسالة الدكتور نعيم اليافي(سوري) بعنوان: (الصورة الفنيّة في الشعر العربيّ الحديث).
- رسالة الدكتور نصرت عبد الرحمن (أردني): بعنوان: (الصورة الفنيّة في الشعر الجاهليّ).
- رسالة الدكتور علي البطل (مصري) بعنوان: (الصورة الفنيّة في الشعر العربي القديم).
لم أكن أتبيّن مرامي الدكتور يوسف خليف من تكليفي دراسة الصورة عند شعراء البديع في العصر العباسيّ، مع أنَّ الموضوعَ قياساً بموضوعات الصورة السابقة ملائمٌ تماماً، إذ لم تتعرض أية دراسة من الدراسات المشار إليها للشعر العباسيّ. والشعر العباسي عنوان تجديد الشعر العربي القديم. وممثل هذا التجديد شعراء البديع، وهذا موضوع ملائم تماماً للمرحلة، قياساً بما تمَّ عمله حول الصورة الفنيّة.
أنجزتُ ما طلبه أستاذي. وفي العطلة الصيفيّة سافرتُ إلى القاهرة، وحملت المشروع معي إلى هناك، حيث عرضته عليه، فوافق عليه مباشرة، وطلب أن أقدّمه لقسم اللغة العربيّة الذي كان الدكتور يوسف نفسه، هو رئيسه في ذلك الوقت كما ذكرت. فالمتوقع أن ينال المشروع موافقة القسم، لأنَّ كلَّ الأحوال المحيطة به تدفع بهذا الاتّجاه، لكن المشروع لم يحظ بالموافقة الأوليّة من القسم مع الأسف الشديد؟!. وغضب الدكتور يوسف لعدم موافقة القسم على المشروع غضباً عارماً، خصوصاً أنَّه هو رئيس القسم؟!.
لقد علمتُ حين بدت الأمور تتكشف، أنَّ الذي كان وراء عدم الموافقة على المشروع هو الدكتور جابر عصفور صاحب كتاب: (الصورة الفنيّة في التراث النقديّ والبلاغيّ)، على الرغم من أنَّه كان حديث العهد بعضوية القسم، ويعد – بحكم السن والتجربة - طالباً من طلبة الدكتور يوسف. لكنَّه كان – كما يبدو - هو المرجع الوحيد في دراسة الصورة الفنيّة، لأنَّ دراسته للماجستير وللدكتوراة في الصورة الفنيّة. فرسالته في الماجستير: (الصورة الفنيّة عند شعراء الإحياء)، إنَّه الوحيدُ في القسم بهذا التخصّص.
لقد فهمتُ أنَّه كان رأسَ الحربة في ضرورة تجديد الدراسات الأدبيّة، والنقديّة، واللغويّة في الجامعة بشكلٍ علميٍّ مختلف، وأنَّه كان مبعث صدام مع بعض الأعضاء القدامى في القسم، ومنهم رئيس القسم الدكتور يوسف خليف نفسه. لذلك أراد الدكتور يوسف أن يضعني- بصفتي الطالب المميز في القسم حسب تقييمه– ورقةً رابحةً بيده حين كلّفني بكتابة مشروع، أساسه الصورة الفنيّة، التي كان الدكتور جابر يحمل لواءها؛ ومن هنا كان ينتظر قبولَ المشروع لا ردّه، ولهذا صُدم من النتيجة التي لم يتوقعها إطلاقاً؟!. إذ كيف يمكن أن تُرفض رسالة موضوعها حديث وضمن التخصّص، ومشرفها رئيس القسم؟!. قد يكون الأمرُ عاديّاً عند بعض الناس، لكن المسألة لم تكن كذلك عند رئيس القسم نفسه، خصوصاً أنَّ المعترض على ذلك هو واحد كان طالبه قبل وقت ليس بالبعيد؟!.
ويبدو أنَّ المسألة لم تكن سهلة كذلك على المتسبب فيها، وهو الدكتور جابر عصفور نفسه أيضاً. فالأمرُ علميٌّ بحت، وليس فيه إنقاص من قدر أستاذه. فرأيه - كما تبيّن لي بعد ذلك - أنَّ شعراء البديع مصطلح عائم، وأنَّ دراسة الصورة على جملة من الشعراء غير محددي العدد والعصر، تظلُّ عائمةً كذلك. ويبدو أنَّه، وهو دارس للصورة دراسة بلاغيّة نقديّة جديدة، كانت له مآخذ على الدراسات التي طُبّقت على مجموعة من الشعراء في عصر ما قبل مشروع رسالتي. ومن هنا أراد الاعتذار للدكتور يوسف بطريقةٍ علميّةٍ تقنعه، لا بطريقة تطيب خاطره!!. ومن أجل هذا تصرف تصرّفاً علميّاً سليماً، فقد استعان بالدكتور النعمان القاضي الذي يعرف أنَّه المقرب من الدكتور يوسف، كي يعينه فيما انتواه. عرفتُ ذلك حين التقاني الدكتور النعمان بعد أن تفقّدني في ردهات مكتبة جامعة القاهرة، وقال لي: يبلغك الدكتور جابر تحياته، ويطلب منك أن تختار شاعراً واحداً فقط من شعراء البديع لتدرس الصورة الفنيّة في شعره، فإن فعلت يكن قبول رسالتك مؤكداً.
فاجأني الطلب، وبعد تردّدٍ خوفاً من عدم رضا الدكتور يوسف، وافقتُ، وقلت: أبو تمام. ليكن عنوان الرسالة: ( الصورة الفنيّة في شعر أبي تمام ). أتى اختياري لأبي تمام كونه أكثر شعراء البديع، تمثّلاً للبديع الشعريّ الجديد في العصر العباسيّ، خصوصاً أنَّني درست جانباً من شعره لإغناء موضوع البديع الذي كان الشاعر مسلم بن الوليد – وهو موضوع رسالتي للماجستير، أستاذاً لأبي تمام في البديع ذاته.
وهكذا تمت الموافقة دون أن أدري كيف كان ذلك؟!. فالدكتور يوسف لم يخبرني بشيء، لكن موظفة شؤون الدراسات العليا أخبرتني بقبول رسالتي بالعنوان السابق المذكور، وبإشراف الدكتور يوسف نفسه!!. وبهذا الإجراء، الذي لا أظنُّ أنَّ الدكتور يوسف كان بعيداً عنه، كونه رئيس القسم الذي وافق على الموضوع بصيغته الجديدة وبإشرافه، استطاع الدكتور جابر المحافظة على احترام أستاذه، وأن يسلك لدراسة الصورة مسلكاً جديداً مختلفاً، وأكثر خصوصيّة، وأنجح تطبيقاً عمليّاً.
أعتقدُ أنَّ الدكتور جابر في رسالته عن الصورة الفنيّة، وعى جيّداً دراسة الغربيين لها في الشعر. ذلك أنَّه تبيّن لي في أثناء إعدادي للرسالة أن دراستها عندهم بدأت في الثلاثينيات من القرن العشرين، أي قبل أربعين عاماً من تفكير جامعاتنا في دراستها. وكان "شكسبير" هو الشاعرُ الأوّلُ الذي طُبّقت على شعره أوّل رسالة دكتوراة بعنوان: ( الصورة الفنيّة عند شكسبير وما تنبئنا به ) ل"كارولاين سبيرجن".
وقد كتبتُ بحثاً حول هذه البدايات نشر في مجلة (علامات) السعودية، وأعدت نشره ضمن كتابي: ( في تشكّل الخطاب النقديّ: مقاربات منهجيّة معاصرة.) نشر الدار الأهلية – عمّان 1998.
إنَّني أعتقدُ الآن أنَّ الدكتور جابر كان مصيباً تماماً. أقول هذا بعد إنجازي خمسة كتب في الصورة: أولها تطبيقيّ، عنوانه: (الصورة الفنيّة في شعر أبي تمام)، وثانيها نظريّ، عنوانه: (الصورة الفنيّة في النقد الشعريّ)، وثالثها ( الصورة في شعر زهير بن أبي سلمى) ورابعها ( مقاربة الصورة والأسطورة- التشبيه الدائريّ والطير في الشعر الجاهليّ ) ورابعها الأحدث؛ هو ( بلاغة الصورة- التكوين الفنيّ إطاراً ) 2022.
والواقع أنَّ كتابي عن الصورة في شعر أبي تمام، كان أوّل رسالة دكتوراة في كل الجامعات العربيّة عامّةً لدراسة الصورة الفنيّة عند شاعر بعينه– كما أعلم. وإن أنت عدت إلى الدراسات التي كُتبت على نمطه في الصورة الفنيّة لدى شاعر واحد بعد أن أصبح كتاباً متداولاً، فإنَّك لن تجد شاعراً عربيّاً مجيداً واحداً في القديم والحديث، إلا وقد دُرست الصورة الفنيّة في شعره على نمط كتابي هذا. وستجد أيضاً أنَّ أكثر هذه الدراسات قد أفادت من كتابي نفسه، بل إنَّ كثيراً منها اتّخذته نموذجاً يُحتذى بمنهجه. وقد احتذى بعضها هذا المنهج فعلاً، وتتبع فصوله تتبعاً دقيقاً، وأشار إلى قناعته بذلك صراحةً.
وهكذا عدتُ مع بداية العام الدراسيّ الجديد عام 1973 إلى الأردن فرحاً، ومنشرحاً بعد أن حصلت على عنوان جديد لرسالة الدكتوراة في الأدب العربي، وما عليَّ بعد هذا إلا أن أخطّط للكيفية التي أستكمل فيها الدراسة في الرسالة بالطرق العلميّة، والمنهجيّة المناسبة لموضوعها الجديد، وذلك بفضل جرأة الدكتور جابر أولاً، وعلميّته ثانياً، ومسؤوليته الأدبيّة عن تيار جديد في الدراسات النقديّة والأدبيّة بشكل عام في جامعة القاهرة جامعة العرب كل العرب آنذاك ثالثاً. رحم الله جابراً فقد كان واستمر سادناً للعلم والعقل والتنوير.
ومع بداية العام الدراسي 1973/ 1974 أتتني إعارة إلى جامعة الملك سعود بالرياض. وهناك زاملتُ أساتذة من أعلام مصر في الأدب العربيّ، قديمه وحديثه، أشهرهم الأستاذ الدكتور مصطفى هدارة، تخصّص الأدب العباسي، والأستاذ الدكتور النعمان القاضي، تخصّص الأدب القديم، والأستاذ الدكتور سيد حنفي، أستاذ الأدب الحديث. بدأتُ هناك بالإعداد لرسالتي في الدكتوراة، وهي مختلفة عن الماجستير. أفدت كثيراً من الأساتذة المصريين المذكورين؛ إذ لم يبخل عليَّ أحدهم بمعلومة أو برأي، فكلهم كانوا لي من المشجعين والمستحسنين للرسالة. كما أنني أدين بالشكر والعرفان للأستاذ الدكتور محمد باكلا – وهو سعوديّ الجنسية – إذ كان يسافر إلى لندن مع نهاية كل فصل لأنَّ زوجته وأهله مقيمون في لندن. كان يأتيني بما أريد من كتب حول الصورة باللغة الإنجليزيّة، وكان يتمنّع عن أخذ ثمنها لكنّي كنت مصرّاً على ذلك. ومع هذا أصرُّ على أن يهديني بعضها إهداءَ تكرمٍ وفضل.
أنهيتُ جزأي الفصل الأول النظريّ بعد سنتين من عملي في الرياض، وأنجزتُ كذلك ما تحتاجه مادة التحليل النصّي بفضل اطّلاعي على الزخم العلميّ الواسع جدّاً الذي تحتفي به المكتبات العلميّة الزاخرة بالكتب والمعلومات التي أريد في الرياض، وأولها المكتبات الجامعيّة. ولما كنتُ بحاجة إلى استقراء النصوص الشعريّة وتحليلها العلميّ المغذّي للتخصّص الدقيق حول الصورة الفنيّة في الشعر، فقد قدمتُ استقالتي من جامعة الملك سعود لأتفرغَ للعمل إلى جانب أستاذي في مصر. كان الأستاذ الدكتور أحمد الضبيب رئيساً للقسم في كلية الآداب في جامعة الملك سعود، وكنَّا نحن في قسم اللغة العربيّة في كلية التربية تابعين له. وحين وصل إليه كتاب استقالتي استهجن الأمر؛ إذ لم يكن معهوداً أن يستقيل عضو هيئة تدريس غير سعودي لم يمض إلا سنتين في العمل فقط. أجّل البتَّ في الاستقالة واستدعاني. شرحتُ له حاجتي لأن أكون في القاهرة سنةً كاملةً حسب النظام المصريّ بالنسبة لطلاب الدكتوراة غير المصريين، وأن أكون إلى جوار المشرف في كتابتي للرسالة. عندها اقتنع ووافق على الاستقالة.
عدتُ إلى القاهرة وأقمتُ سنةً كاملة أنهيتُ فيها كتابة الرسالة، وحين تأكّدتُ أنَّ كلَّ شيء في الرسالة على ما أرغب، وأعمل؛ اتصلتُ بأستاذي الدكتور يوسف خليف لعرض الرسالة عليه. الواقع أنَّ الرسالة كُتبت خارج معرفة الدكتور خليف لأنَّها ذات موضوع جديد ويستفيد مما يماثلها باللغة الإنجليزيّة، وبما هو مكتوب على منوالها باللغة العربيّة. وهي في كل الأحوال بعيدة عن تخصّص الدكتور يوسف التقليديّ.
ذهبتُ بالرسالة إلى الدكتور يوسف في منزله بالدقي، فقد اعتدتُ لقاءه هناك دائماً. وهذا هو المتّبعُ عادةً في مراجعات طلبة الدراسات العليا، أن يلتقوا بأساتذتهم في البيوت. بعد السلام عليه قال لي: ماذا فعلت؟!، أعطني صورةً موجزةً عن عملك في الرسالة. وقبل أن أمضي في إعطاء الدكتور يوسف ما طلب، أريد أن أذكر أنَّني في بعض إجازاتي في الصيف أحببتُ أن أزوره وأطّلعه على شيء مما أعملُ عليه في الرسالة. وكان بعد أن يقرأ بضعَ مواقع من الصفحات التي بين يديه، يغلق الأوراق ويقول لي: هذا الذي أنت فيه، هل مقنع لك تماماً؟. قلت: نعم. قال: امض إذن فيما أنت فيه، فلو تدخلت أنا في عملك سأفسده عليك.
ولهذا أتى إنجاز الرسالة خارج معرفته كليّاً.
أعود الآن للإجابة عن سؤاله بعد أن سلّمته الرسالة كاملة، ماذا فعلت؟. بدأت أشرح أهمَّ ما في الرسالة وهو مصغٍ دون أيِّ اعتراض أو تأييد. وحين انتهيتُ، قال: ما كلّ هذا؟، كنتُ أريد أن آتي لك بالدكتور شوقي ضيف مناقشاً لكن ما سمعته يختلف كليّاً عما يؤيده!. وفجأةً انتابني صمتٌ أدرتُ فيه عملي أمام ذهني، وأنا أقولُ صامتاً: إن كان هذا لا يروق لشوقي ضيف فهو لا يروق له أيضاً، لأنَّه وشوقي ضيف على نهجٍ علميٍّ واحد؟. لقد أنهى صمتي بمحاولة التخفيف عنّي قائلاً: اذهب أنت لأهلك وأبنائك في الأردن الآن، ثم إئتني بعد شهر من الآن، سأكون قرأتُ الرسالة، وسنتبادل الرأي فيها!!.
نهضتُ متثاقلاً وخائفاً. وحين عدتُ للشقّة التي أنا فيها في "المنيل"، لم أكن كما كنتُ قبل أن أذهب إليه. بدأت الرسالة مفتوحة أمامي، أقلّب فيها عملي وحرصي وتعبي، وأقف عن إعادة كتابتها أو كتابة معظمها من جديد. ماذا أفعل؟. لا شيء. حزمتُ أمتعتي وعدتُ إلى الأردن قلقاً متعباً أتكلّف الكلام والمشاعر، وأنا تائه لا أرى بصيصاً من النور ينفتح أمامي، فكلُّ شيءٍ أمامي مُغلقٌ تماماً.
وبعد شهرٍ عدتُ إلى القاهرة، وفي اليوم التالي من وصولي اتصلتُ به، فحياني منشرحاً وحدّد لي يوماً ألتقيه فيه. كنتُ أعدُّ الأيام بالثواني. وما إن جاء الوقت حتى قرعتُ جرس بابه، فالتقاني مبتسماً لكن ذلك لم يخفّف عنّي شيئاً، لأنَّني لا أذكر أنَّه لقيني على بابه إلا وكان مبتسماً. جلسنا، وسألتُه رأساً: ما رأيك بالرسالة أستاذي الكبير؟!!. ابتسم أكثر، وقال: أراك مرتبكاً وتسأل مسرعاً؛ فما شأنك؟. قلت: أنا قلق جدّاً يا أستاذي. قال: هدّئ من روعك، فرسالتك أفضل رسالة أشرفتُ عليها حتى الآن، وأنا أشرفتُ على أكثر من ثلاثمائة رسالة.
ماذا أسمعُ؟! أأطيرُ فرحاً؟. تمالكتُ نفسي، وقلتُ: بفضلك، أنت أستاذي العظيم. قال: لا، أنت صاحب الفضل على ذاتك، هذا صنيعك أنت. قلت: أهناك ما يحتاجُ تعديلاً؟. قال: نعم، في باب الإيقاع الشعريّ بدأت بصفحتين تحدثت فيهما عن عمل الخليل بن أحمد الفراهيديّ، احذف هاتين الصفحتين فهما قديمتان ورسالتك جديدة بكلِّ ما فيها.
هل حقّاً ما أسمع؟. كيف يمكن له وهو صاحبُ الدراسات التقليديّة، أن يأمرني بحذف الجانب المحسوب على المنهج التقليديّ من الرسالة؟! كتمتُ ما أشعرُ به وتجرأتُ قائلاً: كنتَ استبعدتَ أستاذَنا الكبير دكتور شوقي ضيف من أن يكون مناقشاً، هل أتجرأ وأطلب منكم أن تدعوه كي يكونَ أحدَ أعضاء اللجنة؟. قال: بعد قراءتي للرسالة غيّرتُ رأيي، فهو عضو في اللجنة، إن شاء الله. وتشكّلت لجنة المناقشة من التالية أسماؤهم:
الأستاذ الدكتور يوسف خليف جامعة القاهرة، مشرفاً ورئيساً
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف جامعة القاهرة، عضواً
الأستاذ الدكتور مصطفى الصاوي الجويني جامعة عين شمس، عضواً
وحُدّد موعد المناقشة يوم 13 / 5 / 1976. تفاءلت بهذا الموعد فهو يصادف عيد ميلاد ابنتي البكر (ربى) الخامس، حيث ولدت يوم 13 / 5 / 1971. حلَّ الموعد وبدأت المناقشة بالدكتور شوقي ضيف الذي فَرِح بالرسالة، ومهرها بعبارة دالّة حبًّا، قال: "هذه رسالة علميّة جديدة في دراسة شاعر مجدّد، وصاحب مدرسة فنيّة جديدة، يستحق أن يدرس دراسة جديدة كهذه الدراسة، وخاصّةً حين تكون الصورة الفنيّة الجديدة عنوان الدراسة". ولم يكن ما قاله الدكتور الصاوي بعيداً عما قاله الدكتور شوقي ضيف، وإنَّما كان مؤكّداً له وإن اختلفت العبارات. والمهم أن نتيجة المناقشة كانت ( النجاح مع درجة الشرف الأولى).
لم تقف علاقتي بأعلام الأدب العربيّ في جامعة القاهرة عند هذا، وإنما استمرت سنوات وسنوات، كنت أشاركهم في المؤتمرات العلميّة وخاصّةً المؤتمرات التي كانت تعقدها (جمعية النقّاد المصريين) وبعض الجامعات الأخرى. كما كنتُ حريصاً على نشر البحوث العلميّة في مجلة (فصول) القاهريّة. ثم إنّني زاملتُ مجموعةً منهم في عملنا معاً في السعودية وقطر أثناء إجازاتي للتفرغ العلميّ.
وهكذا عشتُ مع أعلام مصريين: كانوا كباراً بعلمهم، متعاطفين بأخلاقهم. وقد تأثرتُ أيَّما تأثر بهم، علماء أجلاء لا يميزون بين الطالب العربيّ والمصريّ إلا بما هو أهل له من الطرفين. بل إنَّني وأمثالي مدينون لمصر العظيمة بالكرم والمساواة، فنحن تعلّمنا سنوات بين الماجستير والدكتوراة برسوم متساويّة – على قلّتها – مع الطلبة المصريين دون زيادة أو نقصان، وإذا قيست بالحاضر فهي لا تزيد عن أقلِّ القليل.