"نيو مملوك"/ مبنى وزارة الأوقاف نموذجًا

منى الشيمي
باحثة مصرية متخصّصة في العمارة.

يصافحني كلما نظرتُ من نافذتي، مبنى ضخم يحتلُّ نواصي أربعة شوارع: "هدى شعراوي ومظلوم باشا من الناحية الجنوبيّة الغربيّة، وصبري أبو علم وشارع شريف من الناحية الشماليّة الشرقيّة"، تحيطه عماراتٌ سكنيّة وإداريّة من مختلف الطُرز. مبنى عتيق، جدرانه الخارجيّة بالمشهر (اللونين الأصفر والأبيض) يحسبه الرائي قلعةً قديمةً، أو مسجدًا، وبخاصّةٍ أنَّ مئذنة وقبة تكلِّلان المشهد، إلا إنَّهما لجامعٍ صغير ملاصق له، بناه أحد المماليك الشراكسة غير المعروفين. إنَّه مبنى وزارة الأوقاف، المصمَّم على طراز النيو مملوك، أو المملوكي المستحدث، والذي تمَّ بناؤه في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، تحديدًا عام 1896م.
لماذا استُخدم هذا الطراز؟
العمارة دومًا انعكاسٌ لحالة الدولة، قوّتها، وفكرها وفلسفتها، وقد تمتَّعت مصر- أثناء سلاطين المماليك البحريّة (1250- 1383)، أو البرجيّة (1383- 1017)- بفتراتٍ من القوّة والغنى والاعتداد بالنفس، وقد كان طرازُ عمارتهم من أكثر ما عبّر عن الروح المصريّة الإسلاميّة، بارتفاع مبانيه وشموخه، وزخارفه الكثيرة المستمدة من عناصر الطبيعة، ما جعل ابن خلدون يقول عبارته: "القاهرةُ هي مركزُ الكون، وحديقةُ العالم".
لا تنسى العينُ جمالَ مجموعة السلطان المنصور قلاوون بشارع المعزّ (المسجد والضريح والمدرسة والمارستان)، ومجموعة الظاهر برقوق، والناصر فرج، والمؤيد شيخ، وقنصوه الغوري آخر سلاطينهم، على الرغم من انعكاس الأوضاع الاقتصاديّة المتدهورة على مجموعته المعماريّة!
ثم، بزوال دولة المماليك واحتلال العثمانيين مصر، توقَّف البناء بالطراز الذي عُرف بها، وتسلَّل الطرازُ العثمانيُّ إلى مساجد مصر وقصورها تدريجيًّا. وفي عصر حكم أسرة محمد علي، خصوصًا الخديوي إسماعيل، كان ثمة رؤية أخرى للتحديث؛ أن تكون القاهرة "باريس الشرق"، أو باريس أخرى على النيل. رؤية لم تنفصل عن توجُّهه السياسيّ والاجتماعيّ، ومن أجل تحقيقها استقدم المهندسين الأوروبيين، وعلى رأسهم "هاوسمان"، من قام بتخطيط باريس، ليبدأ في بناء الحي الأكثر شهرةً في القاهرة، على الرغم من مرور السنوات على تشييده، وأُطلق عليه آنذاك: "الحي الخديوي، أو الإسماعيلي".
كان حدّه الغربيّ كوبري قصر النيل، وعلى طرفه الشرقيّ، بنى إسماعيل مقرًّا جديدًا للحكم بديلًا عن قلعة صلاح الدين: قصر عابدين. على أن يتخلَّله أربعة ميادين، ثلاثة على محور واحد تقريبًا، هي ميدان عابدين أو الجمهورية، والأوبرا ثم العتبة، تتفرَّع منها الشوارع إلى ميادين أصغر، حتى تلتقي في الميدان الرابع: ميدان الإسماعيليّة أو التحرير الآن. حي عبَّر بحق عن تلك الفترة التي اتسمت بالانفتاح على العالم، وتعدُّد الهُويّات والثقافات، فتباينت طُرز العمارة في مبانيه، حسب ميول المهندس الذي صمَّمها، صار الحيُّ مع الوقت معرَّضًا لكلِّ الطُرز: الكلاسيك المستحدث، والباروك "الركوكو" المستحدث، والنهضة المستحدثة، والتي تتميَّز بالزخارف؛ أكاليل الورود البارزة، تماثيل الأساطير، والأعمدة العملاقة، والقباب التي تزيّن الأسقف.
سنوات قليلة وتغيَّر كل شيء، ورَّط الخديوي إسماعيلُ- ببذخه-البلادَ في أزمة ماليّة، وكي يحلَّها استدان من الدول الأوروبيّة، وعندما فشل في السداد، تدخَّلت تلك الدول، وانتهى الأمرُ بانتزاع إنجلترا مصر من الدولة العثمانيّة نهايةَ عام 1882. ونتيجةً لتلك الأحداث انتفض الجيشُ بزعامة عرابي، ليحمي البلاد، وانضم الشعبُ بأطيافه المختلفة إلى تلك الحركة.. في تلك الأثناء اعتمل سؤالُ الهُويّة في نفوس المصريين، وانعكس جليًّا على العمارة، هذا ما تؤكِّده المباني التي شُيِّدت بعد تلك النكسة، والمستخدم في تصميمها الطرازُ المملوكيُّ المهجور منذ قرون، والذي كان يمثِّل في الأذهان هُويّة مصر العربيّة، الإسلاميّة. فإعادة إحياء طرازٍ معماريّ كان يرمز في السابق إلى المحليّة المتفردة المزهوّة بذاتها وقوّتها واعتدادها بنفسها، لا يعني إلا أنَّهم يرفضون الواقع، ويلوذون بعصور مجدِهم لتنقذهم من التغريب، ومن الانسحاق والتبعيّة.. رسالة حملت في طياتها الكثير!!
عاد استخدام الطراز المملوكيّ، لكن ليس بأسسه القديمة، بل بـ"التلقيط" منها بما يناسب ما استجدَّ على الشخصيّة المصريّة، وتطوُّر أدوات المعماريّ، والوضع الاقتصاديّ للبلاد... إلخ، لهذا أطلق المعماريون عليه اسم: الـ"نيو مملوك"، أو العمارة التلقيطيّة- Eclecticism.
هذا أحد رأيين في أسباب عودته، أمَّا الرأيُ الآخرُ فيرجّح أنَّ إعادة إحياء الطراز المملوكيّ جاء على يد معماريين أجانب، اجتذبتهم القاهرة مثلما اجتذبت غيرهم كثيرين آنذاك، لكنَّهم وجدوها بعيدةً كلَّ البعد عن الصورة التي أسَّس لها المستشرقون السابقون في كتبهم ولوحاتهم! فبدؤوا بناء ما كُلِّفوا به على الطراز المملوكيّ، ليستعيدوا به القاهرة الراسخة في خيالهم!
أيًّا كانت الأسباب، لقد أصبحت التلقيطيّة الطراز الرسميّ المصريّ للعمائر الرسميّة والدينيّة في تلك السنوات، وصمَّم المعماريُّ المصريُّ صابر صبري مسجدَ "أولاد عنان"، المبني على ضريح كان موجودًا بالاسم نفسه، قبل أن يُفكَّك ويُنقل إلى الميدان أسفل القلعة، ليُعرَف باسم "مسجد عائشة"، ويُبنى مكانه" مسجد الفتح"، واستكمل حسين فهمي المعمار من عام 1906 إلى عام 1911، بناء "مسجد الرفاعيّ" ليكون آيةً في الروعة والفخامة، لا يفرِّق غير المعماريين بينه وبين "مسجد السلطان حسن" المقابل له، والمبني قبله بقرون. وصمَّم: "إمبرواز بوردي"- Ambroise Baudry منزل "الكونت سان موريس" قنصل فرنسا، وكان آية أخرى في الجمال، وقد جمع لبنائه، عناصرَ أصيلة من قصور مملوكيّة هُدِمت بعد مذبحة القلعة والقضاء على المماليك، إلا إنَّ المنزل هُدم لاحقًا لبناء عمارة "الإيموبيليا" (ثمة أجزاء كثيرة من عناصره المعماريّة معروضة في مقر السفارة الفرنسيّة)، كما شيَّد مهندسٌ مجهولٌ يخمِّن البعض أنَّه المجري: "ماكس هرز" قصرَي الأمير يوسف كمال في نجع حمادي والمريس بأرمنت، ربما هو أيضًا، من صمَّم مبنى وزارة الأوقاف، هذا المبنى الضخم الرابض أمام نافذتي، وسبّب ما ذُكر أعلاه كله!
اختلف الفقهاءُ في تعريف الوقف، وإن كان معظمهم يقرُّ بأنَّه: "حـبس الواقف عـيـنًا من أعـيان ماله، ليـجعل منـافعها وفـوائدها وريـعها لوجه من وجوه الخير". وهو نظامٌ متجذِّرٌ في المجتمعات الإسلاميّة، أسهم في مساعدة الفقراء والطلاب وذوي الحاجة. ومع الوقت انقسم إلى ثلاثة أنواع: الوقف الخيري، للمساجد والفقراء والأسبلة.. إلخ، الوقف الأهلي: يخصّصه الواقف للأبناء والأحفاد والأقارب، ثم الوقف المشترك، وهو ما جمع بين الاثنين.
ولأنَّ أراضي الأوقاف تقلّل من دخل الدولة، لأنَّها كانت معفاة من الضرائب، قام محمد علي باشا، بعد استوائه على الحكم، بضبطها، ليخدم ريعها مشروعه التحديثيّ، واستعان على ذلك باللين أحيانًا والشدة أحيانًا أخرى، إلى أن نجح في انتزاع الكثير منها، خاصّةً الأراضي التي لم يثبت أصحابها ملكيتها بالحجّة، وفرض الضرائب على ما تبقى منها، ثم تولّى بنفسه الصرف على المساجد والكتاتيب.
ولمزيدٍ من السيطرة، أصدر عام 1835 إدارةً لإنشاء ديوان يضبط الأوقاف الخيريّة، تحدَّدت اختصاصاته بضبط الأوقاف في الثغور والبنادر. وقد تركَّزت أهمية ذلك الديوان في قيامه بوضع سجلاتٍ للأوقاف وأماكنها في السنوات الثلاث السابقة لإنشائه 1833- 1834- 1835، وكذلك إنشاء قلم لمحاسبة نظّار الأوقاف، كي يضمن عدم التلاعب أو الاختلاس، إلا إنَّ هذا الديوان أُلغي في عهد خلفه عباس الأول!
وفي عصر الخديوي إسماعيل، أُعيد الاهتمام بالأوقاف، بإسناده إلى "علي مبارك" الذي وضع لائحةً بتنظيمه، لائحةً ظلّت ساريةً إلى أن تولى الخديوي عباس حلمي الثاني 1892، وشرع مثل أسلافه في إحكام السيطرة عليه بحجّة تمويل الحركة الوطنيّة الناهضة آنذاك. وإلى فترة حكمه يرجع بناء مبنى الوزارة الحالي؛ الفترة نفسها التي ازدهر فيها طراز" النيو مملوك".
هكذا، وضع المهندسُ غير المعلوم تصميمه، ووافق عليه صابر صبري، مصمّم "مسجد أولاد عنان" السابق ذكره، وكان ب"اشمهندس" النظارة من 1892 إلى 1906، وتمَّ البناءُ على ثلاث مراحل؛ الأولى: الجناح المطل على شارع مظلوم، يتوسّطه الباب القديم غير المستخدم الآن، ويعلوه الاسم: "ديوان عموم الأوقاف" قبل أن تتحول إلى نظارة. وهو شاهقُ الارتفاع، منقوشٌ عليه بيتُ شِعرٍ من "بردة البوصيري": "عناية الله أغنت عن مضاعفة.. من الدروع، وعن عالٍ من الأطم". والمرحلة الثانية: الجناح الثاني، وهو الممتد في شارع صبري أبو علم، أو شركس سابقًا، واكتمل بناؤه عام 1913، يزيّنه مدخلٌ معقودٌ، استُخدم لزخرفته الحجرُ الأبلقُ (التناوب في استخدام اللونين الأبيض والأسود) وعلى جانبيه نُقش اسم عباس حلمي الثاني وعام الافتتاح. ثم المرحلة الثالثة: الجناح الثالث، وتم إلحاقه في وقت تالٍ عام 1929، ويمتدُّ في شارع شريف وهدى شعراوي.
وقد استُخدم للواجهة نظامُ نوافذ مجموعة قلاوون نفسه، المكلل أعلاها بالمقرنصات، التي نجدها أكثر وضوحًا في مجموعة الأشرف برسباي، السلطان الثاني والثلاثين في دولة المماليك. وأحيط إفريز السقف بالعرائس الجصيّة، والتي استُخدمت في كثير من العمائر المملوكيّة الأصيلة.
وأخيرًا، أطلَّت الأجنحةُ الثلاثُ من الداخل على فناءات مكشوفة، أمَّا غرفه فتوزَّع بداخلها سجلات التولية، والأوراق المتعلقة بما جرى أو لا يزال يجري بشأن كل وقف على حدة، وسجلات المحاسبات الوقفيّة، واستحقاقات الأوقاف الأهليّة، ومحافظ حجّج الواقفين المكتوبة بخط اليد، وكلُّها بحاجة إلى تصاريح كثيرة ومعقّدة الآن، إن كنت بحاجة إلى الاطلاع عليها!
____________
مراجع:
(1) جامعة القاهرة في عيدها المئوي، محمد فوزي المناوي.
(2) علاقة الدولة الحديثة بالأوقاف، مصطفى محمود علي جمعة.
(3) الاستشراق الفنيّ والطراز المملوكيّ الجديد في قاهرة القرن التاسع عشر، جريدة مركز طارق والي/ العمارة والتراث، مؤمن غانم.
(4) الأوقاف وبناء مجتمع المعرفة، إبراهيم البيومي غانم.

الصور المرافقة:
القاهرة الخديوية
نيو مملوك
وزارة الأوقاف وجامع شركس
مسجد الرفاعي