لأمل دنقل.
الدكتورة حنين إبراهيم معالي
"H.mali Maali" <h_maali89@yahoo.com>
بين يدي القصيدة:
إنَّ قصيدة أمل دنقل "أقوال جديدة في حرب البسوس" هي شهادتان: "شهادة كليب" في "الوصايا العشر"، وشهادة اليمامة في "أقوال اليمامة ومراثيها"، فيستمع القارئ إلى صوتين في القصيدة.
وقد كُتبت القصيدةُ ما بين عاميّ (1976-1977) وهي ناقصةٌ؛ لأنَّ الشاعر أراد أن يكمل الشهادات المتعلقة بالشّخصيّات التي استحضرها من الأخبار التّاريخيّة والسّيرة الشّعبيّة عن حرب البسوس، وهي شهادة المهلهل "أخ كليب"، وشهادة جسّاس ابن عمه القاتل، وشهادة جليلة بنت مرّة، وهي بين نارين: نار القتيل زوجها: "كليب" ونار القاتل أخيها "جسّاس بن مرّة"، بالإضافة إلى شخصيات أخرى، ولكنّ الشّهادات لم تكتمل، وبقيت حبيسة عقل الشّاعر وذهنه، ولم تكتب؛ لأنَّ مرضه أعياه، والموت خطفه من الحياة، فانقطع مداد قلمه وإبداعه، ولم تصل للمتلقي رؤيته كاملةً.
وتميّزت القصيدة باستشرافها لمستقبل الواقع العربيّ، فقد جعل الشّاعر قصةَ حرب البسوس التّاريخيّة والشّعبيّة هي المنبعُ الذي يستقي منه شخصياته في القصيدة، ويصل من خلالها إلى الواقع الحاضر، ويتنبّأ بالمستقبل، بحيث إنّه ربطها بالصّراع العربيّ الإسرائيليّ الذي لا خيار معه إلا الدم والقتال بعيدًا عن الصلح، كما يظهر في رؤية القصيدة، التي تنسحب على رؤية الشاعر وتنسجم معها، وهي رؤيةٌ ثاقبةٌ لما يمكن أن يحدث مخالفًا الواقع، فكأنّ الشّاعر يدعو لعدم الصلح، وبذلك يكون الشّعر معبّرًا عن الوجدان والشّعور، ويخلّد أصحابه ورؤاهم الثّاقبة التي تعطي النصّ الشعريّ مرونةً في التأويل والنقد، ولكن تبقى القصيدة سرًّا يبحث عن مفتاحه، فالشّعرُ نبضُ الشّاعر ورؤيته للكون، وللإنسان، وللحياة، و يعبّر "أمل دنقل" في القصيدة عن نزيف الواقع العربيّ الذي يتحوّل بين يديه بوصفه مبدعًا إلى موسيقى وثورة شعريّة، مستلهمًا الماضي؛ ليضيء حرفه الحاضر والمستقبل معًا، ولهذا فإنّ القصيدة رحبةٌ بالانفعالات والغضب الذي ينبض به قلب الشّاعر المرهف الحسّ، فيخرج رؤيته بقصيدة إيقاعها صاخب، وصوتها خطابيّ، وكأنَّه يصرخ في وجه المتلقي، وهذا جليّ في "لا تصالح"، وهذا يجعل الحياة تتجلّى في النّصّ، ويحاول صوت القصيدة أن يحيي الضّمير العربيّ، والوجدان، ليبقى في النّفس، ويؤثر في القارئ، بعد مرور هذا الزمن على كتابته.
القصيدةُ والقناع:
الشّاعر مبدعٌ، يخلق نصًّا إبداعيًّا بمخيّلته الشّعريّة، مستفيدًا من التفاصيل والتّراث، ويستدعيها بأسلوبٍ فنّيٍّ محوّر عن البعد التراثي الحقيقيّ للوصول بها إلى الواقع الذي نعايشه؛ ليعبّر الشّاعر عن رؤيته في تجربةٍ شعريّةٍ تظهر قدرته على فهم واقعه من خلال بعث الحياة في تراث الأمّة، فيتحوّل إلى طاقةٍ إيحائيّةٍ في شكلٍ فنّيٍّ شعريٍّ جديد، يبتعد فيه الشّاعرُ عن التكرار والإعادة دون التغيير في وقائع القصّة، كما هي في التّراث، وبهذا يصل الحاضر بالماضي ناهلًا من تراث الماضي، واصلًا بين زمنين، ومستشرفًا للمستقبل، وهذا يجعل قصيدة الشّاعر تبتعد عن الإغراق في الفرديّة، وتتجاوز ذلك إلى الجماعة، وهذا ما يجعل الشّعر ضوء الحقيقة أو ومضات من الحقيقة.
وثمّة تشابه بين عدد الوصايا التي كتبها "كليب" لأخيه وهي عشر وصايا، وبين عدد مقاطع القصيدة، وقد حاول الشّاعر أن يستلهمها في خطابه المعاصر في التأكيد على عدم الصلح مع العدو الصهيونيّ، فمنذ بداية القصيدة يبدأ بقوله: " لا تصالح ... ولو منحوك الذهب" وهذا يتوافق مع الشرط الثاني في الوصايا ( وثاني شرط أخوي لا تصالح ولو أعطوك مالًا مع عقود)، ويظهر هذا في معظم مقاطع القصيدة.
وتبدأ كلُّ الوصايا والشروط في السّيرة الشعّبيّة بكلمة "أخوي" مؤكدةً صلة القرابة بينهما، ليصبح الحافز لأخذ الثأر من "جسّاس" قويًّا، فهذه الوصيّة كُتبت بالدم، ومن هنا انطلق الشّاعر في مقطعه الأول، وأشار إلى التوّحد بينهما في قوله: " ... أن سيفان سيفك، صوتان صوتك".
ومن هذه الأمثلة يتضح أنّ الشّاعر يتمثّل هذه الوصايا في قصيدته؛ لنسمع صوت الشّاعر، وهو يدعو لعدم الصلح من خلال صوت "كليب"، وبهذا يصبح استدعاء التّراث وسيلةً للوصول إلى القناع، فالشّاعر يتقنَّع بكليب ليقدم للقارئ رؤيته المعاصرة، بصورة تبعده عن الإغراق في الذاتيّة، وبأسلوب فنّيّ بعيدٍ عن المباشرة والأساليب التقليديّة، ويتستّر الشّاعر بها؛ لينتقد الواقع.
ومن خلال القناع يركّز الشّاعر على جملةٍ واحدةٍ وهي: " لا تصالح" وهي لازمة تتكرر عند الانتقال من مقطع إلى آخر، بوصفها محورًا أساسيًّا في قصيدة الوصايا لتأكيد عدم الصلح بلا الناهية والفعل المضارع المجزوم الذي يوجب حسم القضية مع الأعداء، فالصلح ليس مقبولًا مهما كان السبب، وفي المقاطع كلها يقدّم " كليب" لأخيه " المهلهل" أسبابًا ومبرراتِ عدم التصالح مع الأعداء، فالمال والذّهب ليسا شيئًا يستحق التخلي عن عاطفة الأخوّة وصلتها " فهي أشياء لا تُشترى" وليست للمساومة، وهذا يستدعي الوقوف عند ذكريات الطفولة، فالذكريات والأخوّة هي التي لا تجعل دم الأخ في عينيّ أخيه ماءً، ويستفزّ فيه الألم والحزن، عندما يذكّره بمشهد الدم على ثيابه... وهل يمكن أن يستبدل الثّياب المختلطة بالدماء بثياب المُلك والغنى، ويواصل "كليب" تحريض أخيه على الرغم من معرفته أنَّ الحرب تثقل القلب، ولها آثار نفسيّة؛ إلا إنَّه لا مفرَّ منها فهي الخيار الوحيد.
وما زال " كليب" يدفع بأخيه إلى الثأر، وفي كل مقطع يزداد الخطاب تأثيرًا وحدّةً، ويعلو الصوت، ويتجاوز ذلك بتوقع ما قد تقول الأطراف الأخرى، وكيف يمكن الردّ عليهم وعلى ما يحتجون به؛ لإبعاد الحرب عنهم؛ وهي:
"سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك، كن - يا أمير - الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنَّهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك".
فحججهم واهية في نظر صاحب الوصيّة الذي قُتل غدرًا من ابن عمه، فهو لا يريد أن يحقن الدم؛ لأنَّ الحقَّ لا يؤخذ إلا بدم، ولا يريد أن يراعي القرابة؛ لأنَّهم لم يراعوها وقتلوه.
ويؤكد " كليب" علاقته مع أخيه مجدّدًا بتكرار كلمة "أخيك"، وفي المقابل ينعت القاتل بصفة "الغريب" مع أنَّه ابن عمه، فلا صلة له مع قاتله، فهو يدعو أخاه إلى عدم مساواته مع هذا الغريب في أيّ شيء:
"لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأسٌ برأس
أكلُّ الرؤوس سواء؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!".
ويحاول " كليب" أن يظهر علاقته مع أخيه التي تتجاوز هذا الرابط الأخوي، وتتخذ بعدًا إنسانيًا، فـ" لا تصالح" حتى وإن كان هذا متعلقًا بشعورك الإنسانيّ بالشّفقة على النّساء والأطفال من العدو؛ لأنَّهم جعلوا، بقتلهم الغادر، اليمامةَ -بنت أخيك- تعاني وتلبس ثياب الحداد، وهي في سنوات الصبا، فجزاؤهم ليس بعيدًا عن جزائها، فهو يزيد من حدّة الألم والحزن في قلب أخيه على اليمامة، فلا تجد من تلجأ إليه بعد مقتل أبيها، وحرم أحفاده من عطفه عليهم، وهذه آثار مستقبليّة لما يمكن أن يحدث بعد مقتله.
ويعود "كليب" إلى ما يمكن أن يقدّم لأخيه إذا ما تنازل عن الحرب وهو التاج، الذي يعني أن يصبح ملكًا، ولكنَّه سيكون ملكًا مزيفًا، استغل دم أخيه ليصير ملكًا، وسيرى في كل مرة دم أخيه يرتسم له على يد مصافحيه، والمُلك المزيف لا يحمي أحدًا، لا بل سيكون تولي المُلك هو بداية الغدر والخيانة للمهلهل وليس نهايتها، وسيكون الغدر مضاعفًا، ويأتي من كلِّ صوب، وتتشابه النهاية.
ولا تجنح إلى الصلح حتى لو كان هذا الرأي رأي قومك: "ما بنا طاقة لامتشاق الحسام" وهذا رأي الجماعة، لا تستمع لهم، فالحرب هي التي ستجعل لسان الحق يتغلب على لسان الخيانة الذي يظهر لك من كل جانب، ولا تجعل كلمات السلام تستهوي نفسك فتميل إليها، فالسلام سوف يحقن الدماء، لكنَّك لن تنعم في المقابل بالحريّة الكاملة، وستكون الحريّة مزيفة، ولن تستطيع أن تتنسم هواءها؛ لأنَّك ستشعر بأنَّ الزيف يملأ أرجاءها، وستشتم رائحة دم أخيك فيها، فلا حريّة تقام على دماء الأخ.
وهو صلحٌ لا يُعوّل عليه؛ لأنَّ الصلح ملوثٌ بدم الغدر والقتل، فكيف سيكون المستقبل الذي بني على دعائم هشّة ومؤقتة، ومهدّدة بالتداعي؟ هل سيكون مشرقًا؟ بالطبع لا، وسينشأ الجيل الجديد على الانكسار، واعتياد ذلك مع مرور الوقت، على الرغم من شعوره الدائم بالهزيمة، فالقتال والمواجهة للعدو هي الطريقة الوحيدة؛ لتجنب كل ما يمكن أن يحدث في المستقبل، ولذلك يأتي صوت "كليب" صارخًا:
"وارو قلبك بالدم..
وارو التراب المقدس..
وارو أسلافك الراقدين..."
فمهما طالت مدةُ الثأر والحرب، وكثُرت المثبطات والذرائع التي تتخذها القبيلة للتملص منها، فلا تنثنِ عن طلب الحق، وخذ ما تستطيع منه:
"سيقولون:
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
فخذ - الآن - ما تستطيع
قليلًا من الحق..
في هذه السنوات القليلة
إنَّه ليس ثأرك وحدك،
لكنَّه ثأر جيل فجيل..."
فالحوارُ طاغٍ، وفعلُ الأمر طاغٍ؛ ليدل على الطلب المتكرّر بإلحاح؛ حتى تكاد تسمع صوت كليب الذي يكتب وصيته بدمه وهو يصرخ من الأنين والألم، ومع ذلك كان يعلم أنَّ زمن ثأره قليل، فعلى أخيه أن يطالب بحقِّه سريعًا دون تأخير، ويأخذ ما يستطيع؛ لأنَّ ما يحقّقه الآن لا يمكن أن يُحقّق في المستقبل.
فالثأرُ ليس فرديًّا، وليس مصلحةً خاصّةً يحقّقها المهلهل لأخيه، وإنَّما هو ثأرُ أجيال، وقبيلة استُهين بدم ملكها، فتصبح منتهكةَ الحقوق والأفراد، وسيُصبح دمُ القبيلة مستباحًا بلا قيمة تذكر أمام الأعداء، وستظهر القبيلة في صورةٍ واهنةٍ أمام أفرادها وأعدائها، فالثأرُ يأخذ هنا بعدًا جماعيًّا لحماية الجماعة، والأجيال القادمة.
وتجاوز كليب هذه الأقوال الواقعيّة إلى أقوال تتصل بقراءة الطالع من فئة المنجمين، وأقوال الكهّان الذين يحذرون من الحرب من أجل أن يجنحوا إلى السّلم، ويخيفوا الناس من الحرب، فقد تكون هذه التوقعات لصالح العدو وحدهم:
"لا تصالح، ولو حذرتك النجوم
ورمى لك كهّانها بالنبأ.."
أمَّا غفران الذنب الغادر، والتنازل عن الحق فليس قائمًا بأيِّ وجه من الوجوه؛ لأنّ المقتول لم يقترف ذنبًا، ولم يتعدَّ على أيِّ حقٍّ من حقوقهم، فلو كان قتله مقابل ذنب اقترفه، لكان ذلك مُبرِّرًا لغفران فعلتهم، ولكن هذه الفعلة الغادرة تحدث أثرًا عظيمًا في نفس المقتول؛ لأنَّه لم يعلم سبب قتله، وهذا يزيد من حنقه عليهم، مطالبًا بحقِّه حتى لو كانت الحرب ثقيلة.
وحتى يمعن كليب في التأثير في نفس أخيه فإنّه يصف صورة القاتل الذي كان يمشي معه، وأصبح عدوّه، ولم ينبهه لسهمٍ غادر؛ بل إنَّه اختبأ واحتمى بالغصون، مراقبًا لما سيحدث، متشفيًّا بالمغدور، ساخرًا منه، بينما اهتزّ قلب كليب، وعلى الرغم من هذا حاول أن يدافع عن نفسه أمام مَن غدر به، فلم يستطع.
فالصّورة التي يرسمها الشّاعرُ في المقطع السابع هي صورةٌ متحركةٌ مليئةٌ بالصوت، وهذا يجعل الصورة تنتقل إلى ذهن القارئ؛ فيشعر بما شعر به كليب في تلك اللحظة، فلا يُلام كليب على رفض الصلح إذن؛ ليصل الشاعر ذلك بالحاضر الذي نعيشه، وهذا ما يجعل نبوءة القصيدة تتجاوز حدود الزمان والمكان.
وهذه الصورة تجعل كليبًا يطالب أخاه باستمرار القتال، لكن إلى متى سيستمر القتال؟ هل هو دائم دون انقطاع؟ الجواب لكليب الذي حدّد موعد انتهاء المعركة، وهو عندما يعود كلُّ شيءٍ إلى وضعه الطبيعيّ، حتى وإن كان تحقُّق بعضها مستحيلًا؛ مثل: عودة القتيل إلى طفلته.
والقاتلُ ليس قاتلًا فقط، وإنَّما هو لصٌ أيضًا، فالصلح لا يتمُّ مع اللصوص والقتلة، ولا يكون إلا بين ندّين، وهنا يقترب الشّاعر من الواقع الذي يريد أن يعبر عنه، بقناع الشخصيّة الماضية:
"والذي اغتالني محض لص
سرق الأرض من بين عينيّ
والصمت يطلق ضحكته الساخرة!"
لينهي الشاعر قصيدته بالإشارة إلى الفئات المعارضة للصلح بين الزمنين: الماضي والحاضر، فهم يحبّون العبودية، ويستمتعون بالحياة على حساب غيرهم، حتى لو كان هذا الاستمتاع على جثث القتلى، وعلى الرغم من هذا فإنَّ الأملَ معقودٌ على هذا الفارس القناع الذي يختلف عنهم جميعًا، وسيحقّق ما يريد مهما كانت الصعوبات والمواجهات، وتنتهي القصيدة بتأكيد عدم الصلح، وتكرار "لا تصالح" مرتين في مقطعٍ مستقل، حتى مع وجود هذا الأمل.
وتقوم القصيدة على المفارقة الزّمنيّة، والمفارقة بين الحال قبل كليب وبعده، وكأنَّه الحال نفسه قبل الصلح وبعده، ويكثر الشّاعر في القصيدة من أسلوبيّ الاستفهام والنفي، فالأسئلة لا تنتظر جوابًا، بالإضافة إلى أسلوب النفي الذي يشعر القارئ بمدى الاستفزاز النفسيّ الذي يعتمل في نفس الشّاعر مستندًا -في تعبيره عنه – على قناعه "كليب".
ينتقل الشاعر من وصايا " كليب" إلى اليمامة في أقوالها ومراثيها، واليمامة صوت آخر يتقنَّع الشاعر به ليسمعنا صوته من خلال ابنة "كليب" التي كما يظهر في السّيرة الشّعبيّة أنَّها لم تصالح، ولا تريد الصلح، وكأنَّها تنفذ وصايا والدها العشرة، فهي لا تريد الصلح إلا إذا عاد أبوها إلى الحياة، فتبدأ القصيدة بـ:
"أبي.. لا مزيد!!
أريد أبي.. عند بوابة القصر
فوق حصان الحقيقة
منتصبًا من جديد.."
وهو شرطها الوحيد لإيقاف الحرب، فعودة أبيها تعني عودة الأشياء التي حولها كما كانت بالنسبة لها، وهذا يمثّل إعادة المسلوب؛ لتعود الحقوق، وتطرح القصيدة هذا بأسلوب الأسئلة المتعاقبة؛ لتحدث المفارقة:
"هل يرث الأرض إلا بنوها..؟
وهل تتناسى البساتين من سكنوها..؟
وهل تتنكر أغصانها للجذور..".
فهي تستحضر صورةَ أبيها المقتول في دمه وصدرها يشتعل ألمًا، فقلبها لم يعد يحتمل المزيد، وتطالب بعودة حقِّه في الملك، وتحقيق مبدأ العدل، أمَّا إذا لم يعد الحقُّ إلى أصحابه فسوف يعم الخراب والشر.
وتظهر أقوال اليمامة صريحةً، فهي تطلب من الناس أن يكونوا أُناسًا، وبهذا تكون قد أخرجت قاتلي أبيها من كون أنَّهم ناس، أي من البشرية؛ بل من الآدميّة، والصفات الإنسانيّة التي فقدها "جسّاس" القاتل لوالدها غدرًا، فالنار والحرب هي الوسيلة؛ لتطهير إنسانيّة من فقدها، فالنّاس لم يعودوا أُناسًا، والصحراءُ لم تعد الصحراء، بل إنَّ المعمدانيّة التي يحتاجها الناس للتطهير لم تعد معمدانيّة الماء، بل هي معمدانيّة النّار لشدّة مفارقة هؤلاء الناس لطبيعتهم الإنسانيّة، وهذا يُحدث دهشةً للقارئ بحيث يعبّر عن تشظي الواقع واللامنطقيّة التي يتّصف بها، ولكي تعود الناس والأمور إلى طبيعتها فلا سبيل لذلك إلا بالنار.
وقد كان موقف اليمامة من خلال أقوالها واضحًا برفض الصلح، وهذا انعكس بدوره على إيقاع القصيدة، فالإيقاع في أقوال اليمامة جاء أقوى وأصدح صوتًا من مراثيها، ففي المراثي يخفت الإيقاع أكثر ليتناسب مع خيبة الأمل التي تشعر بها، وهذا يغاير الإيقاع في "لا تصالح" فهو إيقاعٌ عالٍ يكتسب قوته من النبرة الخطابيّة المتألّمة التي تتوّجه من الأخ إلى أخيه، فيأتي الصوت معبّرًا عن الألم الجسديّ والنّفسيّ؛ بسبب غدر ابن عمه له.
فأقوال اليمامة التي ترفض فيها الصلح إلا عند عودة أبيها إلى الحياة، موقف تطالب فيه بحق والدها المقتول غدرًا، بينما كانت مراثيها على نحو مغاير من أقوالها، ويبدو أنَّها لا ترثي ما حدث لأبيها فقط، وإنَّما ترثي وضع قبيلتها؛ لأنَّهم لم يحقّقوا الثأر الذي كانت تطمح إليه، فصوت اليمامة في مراثيها يعبّر عن رثاء حال القبيلة وأفرادها، وما وصل إليه حال المُلك، وفيها صوت الخضوع والشعور بالعار الذي يحيط بهم من كل جانب، فقد سيطر العدو على ميراثهم، وأصبحت سيوف العدو تغطي سقوف المنازل، فقوّة الأعداء وصلت بيوتهم واعتدت عليها، ويجسّد صوتُ اليمامة صوتَ الحسرة والألم على ما آل إليه الحال، وهي تذكر كليبًا بين الحين والآخر، ولم يكن ذلك الثأرُ حقَّ "كليب" وحده، وإنَّما حقُّ الناس جميعهم، وهذا يُظهر أنَّ المطالبة بالحقوق هي مطالبةٌ جماعيّةٌ.
لذلك فهي تسأل باستنكارٍ وحزنٍ وألمٍ عن حقِّ الضحايا من الشهداء الذين سقطوا في الحروب، وحقِّ الأحياء من الأرامل واليتامى، وهذا يتقاطع مع الواقع الذي يودّ الشّاعر التعبير عنه بأسلوب القناع؛ فهو يبتعد عن ذاته، ثم يعود إليها، ولكن تجلياتها تظهر بين الحين والآخر، رابطًا بين ماضٍ وحاضر ومستقبل.
وما زال البعدُ الإنسانيُّ موجودًا في القصيدة، وهو مفعمٌ بالألم والحزن، بعيدًا عن المطالبة بالحقوق بصوت مرتفع، وهدير تحريضي بين وصايا المقتول، وأقوال ابنته التي يعتصر قلبها ألمًا، حتى اغتيل صوتها معبّرةً بعد هوان عن حسّها الإنسانيّ، وبكائها المتواصل مع من يشاركها، وكأنَّها لا تجد أحدًا يبكي ليشاركها في حزنها، فوالدها قُتل، ولذلك لا تجد من يشاركها في الألم، أو يحزن على حالها إلا أخواتها الصغيرات، يشاهدنها تبكي، فيتساءلن عن سبب بكائها، ويشعرن بما تشعر، ويبكين من قصصٍ تسردها لهن عن "كليب".
وتكرّر اليمامة بما يشبه اللازمة "خصومة قلبي مع الله " وبما يشبه الصدمة في مخاطبة السماء، فهي تؤمن بالعدل، وما حدث مخالف للعدل في الحياة، وهذا جعلها لا تصدق ما حدث.
وبما أنَّها متألمة ولا تجد جوابًا من أحد على أسئلتها التي تعكس مدى الحيرة التي تشعر بها، وتسمع صدى صوتها يتردد دون جدوى، تشخّص الموت، وتخاطبه، ولكنَّه لا يجيب أيضًا؛ لأنَّه لم يتألم فهو "لم يعرف موت أبيه"، ولم يجرب البكاء بحرقة.
وهذا جعلها تتساءل عن وريث أبيها، فهي تعلم أنَّ المُلك سيضيع دون وريث، وأنَّ الوريث هو امتدادٌ لأبيها الذي قُتل، فيجب أن يكون له ذكر في غيابه بوريثه؛ لأنَّ لا عودة لميت، فحياته انحصرت بذِكْره فقط، وهي تشير بذلك إلى أخيها "الهجرس" الذي أنجبته الجليلة بعد وفاة "كليب"، وعاش في ظلِّ رعاية قاتل والده "جسّاس"، فلما عرف "الهجرس" بقصة مقتل والده، انتقم لأبيه وقتل قاتله، وهذا جعلها تخاطب أخاها وتستشرف المستقبل عاقدةً الآمال عليه في أن يحكم حكمًا جديدًا، ويأخذ حقَّ والده. ولكنَّها تتساءل عن هذا الأخ وصفاته وهيئة مجيئه:
"يجيء أخي
هل عباءته الريح؟
هل سيفه البرق؟".
وكأنَّها تحاول أن تتخيل صورته المستقبليّة، وهي صورةٌ تتأرجح بين التشاؤم والتفاؤل.
ولكن تبقى الأسئلةُ قائمةً ومتعلقةً بالمستقبل، فلا إجابة، فما زالت تسمع صوتها يتردّد حولها، وأحسّت بجفافٍ يكاد يذهب بكلماتها، فنادت مناداتها الأخيرة التي تتوجه فيها إلى الشباب؛ شبابِ الغد، الذين يكبُر الأملُ فيهم في إعادة الحقِّ إلى أصحابه، حقِّ " كليب" وحقِّ غيره، حتى لا تُسرق الحقوقُ والأماني.
