زينب محمد عبد الحميد
ناقدة ومترجمة مصرية
تنبني روايةُ "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ بناءً يجعل منها سيرةً تُروى، أو كما تسميها الرواية "حكايات". كان لها نصيبٌ من شكلها حين تداول الشارع سيرتَها بعد أن نال كاتبها من الدراما – بالحكاية المعروفة عن تكفيره - ما أكسبها مزيدًا من الانتباه والقراءة والتأويل.
رسمت الرواية إطارًا عامًا للحكي يمكن أن نطلق عليه إطار "السيرة الكليّة"؛ إذ تتضمن داخلها ما فعله الروّاه من جيل لآخر في نوع من إعادة الحكي وإعادة تمثيل الماضي في آن، - تارةً، كما خطّط له في أحداثه السرديّة الأولى وأخرى كما يتصوّره الروّاه- فيما يمكن أن نسميه "حلقات السيرة" فتتشكل ثم يُعاد إنتاجها مع كلِّ جيل، وتكتسب مواقف وشخصيات جديدة بمرور الأحداث. أمَّا الراوي فقد جعل من نفسه مدوّنًا وحاكيًا للسيرة الكبيرة العامة، واختار أن يدوّنها ويسرد أحداثها وتحوّلاتها أثناء تناقلها السيريّ الجزئيّ أو الحلقي؛ نافيًا عنها كونها حكاية واحدة، ومؤكّدًا على إنَّها سلسلة من الحكايات، وأنَّه لم يشهد سوى طورها الأخير، ثم دعم حكاياته بكثرة الروّاة وجعل من كثرتهم حجّةً وبديلًا عن أية مصادر موثّقة؛ فجميع أهل الحارة يشيرون إلى البيت الكبير قائلين في حسرة: "هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع وكيف نُضام؟!"
اختارت الرواية ذلك الشكل من التعبير السيريّ للأحداث لتعكس لنا مردود الحدث على أجيال تالية، أو لتزجَّ بشخصياتها في أجيالها الجديدة داخل سير الأحداث في تفهّمه وإعادة إنتاجه طبقًا لتصوراتهم أو مصلحتهم ورؤيتهم الشعبيّة لماضيهم؛ إذ تنبني حلقات السيرة في الرواية فتنتجها توجّهات شخصيات أو مراحل بعينها؛ خاصّةً بما تمارسه السلطة القمعيّة الشريرة المتمثلة في الفتوّات، ثم يتعامل الناس مع حلقات الحكاية/ السيرة بمن فيهم الروّاة؛ الذين يعيدون حكي البطولات تحت مظلة من الظلم؛ فيقلّلوا فيها من دور المقاومة ويتغنوا للسلطة القائمة؛ يقول هذا على لسان راوي الحكاية أو السيرة الكبيرة/ الأم التي راعت تلك التغيرات ووعتها: "وهذه الحال الكئيبة شهدتها بنفسي في أيامنا الأخيرة، صورة صادقة مما يروي الروّاة عن الأزمات الماضية. أمَّا شعراء المقاهي المنتشرة في حارتنا فلا يرون إلا عهود البطولات متجنبين الجهر بما يحرج مراكز السادة، ويتغنون بمزايا الناظر والفتوّات، بعدل لا نحظى به، ورحمة لا نجدها، وشهامة لا نلقاها، وهذ لا نراه، ونزاهة لا نسمع عنها".
تُقسّم الرواية فصولها أو لنقل حلقاتها السيريّة وتعطي لكلِّ حلقة اسم صاحبها وتبدأ بسرد مولده أو بالأدق لنقل ظهوره، فكما يقول د. أحمد شمس الدين الحجاجي: " إنَّ البطل الشعبيّ في أدب أمّةٍ من الأمم هو نتاجٌ لواقعها الاجتماعيّ ومن أهم عناصره السياسيّة، وواقعها الثقافيّ، ومن أهم عناصره الدين، فالبطل هو نتاج لهذه الخلطة ممتزجة امتزاجًا تامًّا. وليس البطل الشعبيّ في السيرة الشعبيّة العربية بدعًا من أبطال السير، فهو تعبيرٌ عن الجماعة التي أبدعتها." ولهذا التصوّر نفسه تحول لحظة ميلاد البطل، أو تستعيض عنها بعدة أشكل:
ففي حلقة أدهم السيريّة أو لنقل سيرة "أدهم"، تضعنا الرواية بدايةً مع اجتماع الجبلاوي بأولاده حيث يقرّر تمييز "أدهم" من بينهم، فيقول: "وقع اختياري على أخيكم أدهم ليدير الوقف تحت إشرافي.." وبهذا الموقف تستعيض الرواية عن مرحلة ميلاد البطل في السير الشعبيّة، حيث لحظة تفضيل الجبلاوي لأدهم على غيره من أولاده هي لحظة ميلاده بطلًا، ومن ثم تدشين هيمنته ووجوده ثم تبدأ سيرة الميلاد.
لا تأتي لحظة ميلاد البطل متفردةً معزولةَ السياق عن الأحدث قبلها؛ لذلك تحلُّ حلقة "جبل" ساردةً حال حارة الجبلاوي قبل ميلاده، أو لنقل قبل اللحظة التي ستدشنه بطلًا من أبطال السيرة، ومن ثم تعيد الرواية استدعاء سيرة "أدهم" وتداولها بين الناس، وعن الظلم الواقع بينهم وحالهم الضيق؛ ثم تشي الأحداث بتطلّع الناس إلى استجلاب بطل، أو مخلّص يفوق أبطال سيرهم الفائتة. يلوح الظهور الأول ل"جبل" بأوصافٍ جسديّة له تجعله متفردًا عن سابقيه، حيث جسده المفتول الصالح لتشكيله كبطل. ثم تسرد الرواية لحظة ميلاده والتي ضمّت داخلها أيضًا اغترابه الأول عن أهله، في ميلاد وتكوين يبدو أنَّه يلائم تكوينه كمخلّص له الحقّ في الوصل ثم الفصل بين عالمين عالم الناظر والفتوّات وعالم أهله المظلومين، وبذلك تأخذ حلقة السيرة دورتها من ولادة البطل وتشكّله، ثم مواجهة الظلم وتخليص المظلومين حتى رحيله.
أمَّا حلقة "رفاعة" فقد بدأت بوالدته وعم شافعي حال وصولهما للحارة بعد رحلة اضطهاد عانا منها وعادا لتضع الأم مولودها، ليبدأ ميلاد البطل الجديد بتاريخ من الاضطهاد والمساواة بين البطل وجماعته فيما بعد. تخلق لحظة الميلاد هنا مشابهةً ومقاربةً بين أوصاف البطل وظروفه وحال طالبيه، ثم تتنامى الأحداث ليتحوّل "رفاعة" إلى حالة التفرد، وتأتي رحلة جديدة من "مركزيّة البطل" وتجاوز للاندماج في مآل الظلم؛ فيصير محور الحدث ومحركه؛ ليثبت كونه بطلًا متجاوزًا لمحيطه.
نرصد كذلك بعض المواقف والتفاعلات التي قام بها أبطال حلقات السيرة الجدد، حيث إعادة الفهم والإدراك لصنع بطولة جديدة، أو لنقل إعادة إدراك لميلاد وممات وغاية حلقات بطوليّة قبلهم. قد يحتوي هذا الفهم على بعض الاعتراضات على مواقف الأبطال السابقة فمثلًا يتساءل "رفاعة" عن جدوى انتصار "جبل": "انتصر "جبل" يا أبي ولكن ما جدوى النصر؟" ويأخذ موقفًا مغايرًا وينشده في بطولته الجديدة مستعينًا بإعادة طرحه لأزمات أنتجها أبطال سابقون، أو إعادة فهم تصوّراتهم وأهدافهم، ومحاولة شقّ طريق جديد لبطولته "قال رفاعة بصوت مليء بالثقة: كان "أدهم" ينشد الحياة الصافية الغنَّاء، كذلك "جبل" وهو لم يطالب بحقه في الوقف إلا سعيًا وراء الحياة الصافية الغنَّاء، لكن غلب علينا الظنُّ بأنَّ هذه الحياة لن تتيسر لأحد إلا إذا توزع الوقف على الجميع، فنال كلٌّ حقَّه واستثمره حتى يغنيه عن الكدِّ، فتخلص له الحياة الصافية الغنَّاء، ولكن ما أتفه الوقف إن أمكن بلوغ هذه الحياة بدونه، وهو أمر ممكن لمن يشاء، وبوسعنا أن نغنّي منذ الساعة!"
يتفاعل أبطال حلقة السيرة الجديدة مع حلقات السير الماضية، لأنَّ البطل الجديد يحاول عبر اختلافه عن سابقه، أن يشقَّ مكانًا جديدًا لسيرته عبر البطولات التي ستُحكى؛ لذلك لم يبعد أي بطل جديد تصنعه الحكاية عن استيعاب البطولات السابقة والتعليق عليها؛ بل وأخذ موقفًا من ردود أفعال الناس وتصوّراتهم عن سيرهم وماضيهم.
وبينما تؤكّد الرواية على نهجها السيريّ حيث تسرد لميلاد البطل، ولا تغفل إدراج نسبه ضمن سردها لأربع حلقات متتالية (أدهم – جبل – رفاعة – قاسم)؛ تأتي حلقتها الأخيرة لتعطي بطلها وصفًا مغايرًا مستخدمة التقنية السيريّة نفسها، ولكن بشكلٍ سلبيٍّ هذه المرة. إنَّه شكل ينفي عن البطل النسب، بل ويحقّر منه بنسبته لأمّه دون والد، ويضع ميلاده والحديث عن ظهوره داخل دائرة غامضة؛ ليصبح ميلاده رغم كونه بطلًا، ميلادًا شيطانيًّا لنا أن نفكّر فيه. لنا أن نعيد السؤال وتعيد الرواية أو السيرة إلينا الإجابة، فالحاجة إلى ميلاد بطل جديد تتحوّل إلى حاجةٍ ملحّة ومتجدّدة؛ وبذلك تواصل السيرة الحكي عن أجيال جديدة رغم انتصار البطل – ذلك الانتصار والعدل المؤقت-، وتردّد سيرته بين الناس كماضٍ بعيد، إلا إنَّ التعايش مع الظلم يجعل الناس يتغاضون عن جوهر السيرة، وتتحوّل إحدى حلقاتها لأسطورة قديمة للحكي فقط، أو لنقل عن جوهر البطولة التي تحملها السيرة. وهذا النسيان نفسه هو ما يدفع راوي السيرة الكليّة للاستمرار في نسج أبطاله ومواصلة الحكي عن ميلاد جديد لبطل جديد للحارة؛ مبررًا التوالد الحلقيّ، يقول الراوي: "ولولا أنَّ آفة حارتنا النسيان ما انتكس بها مثال طيب، لكن آفة حارتنا النسيان".
يتفاعل أبطال السيرة الجدّد مع السير الماضية، لأنَّ البطل الجديد يحاول عبر اختلافه عن سابقه أن يشقَّ مكانًا جديدًا لسيرته عبر البطولات التي سوف تُحكى. لم يبعد أيُّ بطلٍ جديدٍ تصنعه الحكاية عن استيعاب البطولات السابقة والتعليق عليها بل واتخذ موقفًا من ردود أفعال الناس وتصوراتهم عن سيرهم وماضيهم. ينتهي عصر "رفاعة" ويستطيع بانتقاده ومخالفته لأبطال السير السابقين وبتصوّر الناس عن اختلافه ومكانته أن يصير بطلًا من أبطال السيرة المتجددة التي يعاد إنتاجها مرات، كذلك يفعل "قاسم" ليأخذ موقفًا من الأبطال القدامى، لكن البطل الجديد الذي يندرج تلك المرة في السيرة ليس معارضًا تمامًا لموقف أبطاله القدماء. أمَّا قاسم فيحاول أن يعيد التوازن ويظهر التأسي بمفردات البطولة كما كانت عند كلِّ بطلٍ سبقه؛ لكنَّه بالوقت ذاته يدرك العنصر المهم الذي سيحوّله لبطل جديد، هذا العنصر هو تحقيق "العدل".
تداخلت مفرداتُ السيرة مع الناس وأصبحت تشغل حيّزًا من حياتهم، فأطلقوا أسماء أبطالها على معالم شوارعهم مثل "صخرة هند" وغيرها، كما صار التبرك بأماكن السيرة شاهدًا على فاعليتها وتعمق أثرها في نفوس الناس، وهكذا عاشت الرواية وأبطالها داخل السيرة بإطارها الروائيّ العام، ثم جعلت تفصيلاتها منها مرتكزًا لتوالد أجيال لاحقة، يعيدون حلقات السيرة وينسجونها بصمتهم.