"الجري على السكك"
محمد محمد السنباطي
روائي مصري.
نقترب بالسيارة "الرينو" الجديدة بنفسجيّة اللون من محطة الرمل. نشارف على اجتياز "الشاطبي"، فأتبيّن صوتها تقول متأفّفة:
- حتى الآن لم ينتهوا من بناء المكتبة!
قلت دون أن أنظر: الصبر طيب يا هانم!
- التبرعات بالملايين، ملايين بلا عدد، والذي يحيّرني أنَّه لا توجد علاقة بين الكتب والبحر. الذي يحبُّ القراءة يمكنه أن يفعل ذلك ولو في صحراء!
- لكن الكتب تستحق الاهتمام.
- زمانها ولَّى خلاص! كان الأوفق في مثل هذا المكان بناء فندق سبع نجوم! (وتتأفَّف): مافيش عقل خالص؟!
لا أوافقها، ومع ذلك لا أجادلها إلا في حدود. لا مفرَّ من أن ينتصر رأيها في النهاية. أركنُ وننزل بناءً على رغبتها. أسرَحُ: للإسكندرية سماؤها الخاصة بها، غيومُها المنتسبة إليها، شمسها الضاحكة لها على الخصوص. أرَى: هناك بعيدًا تنغرز القلعة في خاصرة البحر حجابًا واقيًا وتعويذة تدرأ الأخطار. ترنُّحات قوارب ومراكب ثملة في المينا الشرقية. ألاحظ التبادل: يأخذ منها البحرُ ألوانَها الفاقعة، الطازجة، المبتلة، ويعطيها ما ألقته إليه الشمسُ من إشراقات. أعود من شرودي. دائمًا ما أسوق السيارة على طريق الكورنيـش الناعم، بالهانم، على غير استعجال. نتسكع!. أراقب بروفيلها: واقفة إلى جواري كأنَّها أمّي. تتأمل. لا أدري إلى أين تذهب أفكارها!!. تطلب مني أن أشتري كيسين من "الفِشَار" من محطة الرمل. حمامة. أناولها واحدًا. تقول بعد أن تُسقِط في فمها بضعَ حباتٍ منتفشات منه:
- سأسألك سؤالًا، وإذا عرفت الجواب سأعطيك مكافأة!
- علاوة استثنائية؟!
أعرف أنَّها لن تعطيني شيئًا لكنّي أتصنَّع الاهتمام. من الخطر أن أشرد وأنا أسوق، لذا أنتهز الفرص القليلة المتاحة وأسرح بعيدًا: تستعيد الإسكندرية شيئًا فشيئًا بكارتَها الأولى. تنسحب زرقة الماءِ وخضرتُه على البرِّ الفاتن. ألمح الخطاطيفَ بأجنحتها الرفيعة الطويلة، وذيلها المنتفش، تستعرض رشاقـتها في فضاء المنظر الأخاذ. لا شكَّ أنَّ رائحةَ البحـر والسمك النيِّء وتراكمات علاقة الموج بالرمال وما يترك عليها دون وعـي... كل ذلك يغـلِّفُ روحَ المكان ويتغلـغل في وجدانات الشبان والشابات المتهامسـين، وقد جلسوا للنجوى وحديث الأيادي المتعانقة فوق الكورنيش العريض.
- مستعد؟
- مستعد يا هانم، هاتي سؤالك العويص!
يمرُّ عليهم بائع اللب الأسمر والسوبر، والفول السوداني المحمص. وأحيانًا عربة البطاطا ألمحها تتدحرج قادمةً من بعيد فأشم رائحـتها القديمة، وأتـنسم هَبْوَها فتـتوارد على القلب أغنية بعينها "فوق الشوك"؛ فمـنذ أيام المدرسة عندما كنت في الفسحة الكبيرة أمدُّ يدي من فرجة في سور القرميد الأحمر حُفرت خصِّيصًا لمثل هذه الأغراض، وفي غفـلة من زملائنا، أعضاء الشرطة المدرسـيّة، وكانت لديهم أوامرُ مشدّدة بمنع الطلبة من التعامل مع الباعة الجائلـين... أمدُّ يدي بالقرشين لعم "زينهم" لأشتري البطاطا، يلفّها لي في ورقة أنزوي بها مغتبطًا تحت سارية العـلم، وكانت إذاعة المدرسة تلعلعُ دائمًا بتلك الأغنية؛ "فوق الشوك"! أزيح الورقة عن الجزء العلويّ لل"بطاطاية" فأقشر أعلاها محاذرًا حرارتـها اللاهبة.
- لو تمكنت من الإجابة سأعطيك عشرة جنيهات!
"فـوق الشـوك مشاني زماني". أتلذّذُ بمذاقها. أستحلب حلاوتها الدفينة. "بعد سنين قال لي ارجع تاني". وألتهمُ بقية الثمرة وسخونتها تلسع لساني، بعدها وبانتصار، أبتسم للولد الذي لفَّ ذراعه بالشارة الحمراء، ثم أُهرع إلى المكـتبة التي كنتُ عضـوًا في جمـاعة أصدقـائها فأقضي بها ما تبقى من الفسحة. "واللي مشـيته رجعت أمشيه واللى قاسيته رجعت أقاسيه فوق الشوك".
- ما العلاقة التي تجمع ما بين البحر و"الفشار"؟
ماذا تقول هذه المعتوهة؟ أتنسم عبير تلك الأيام. والخطـاطيفُ ما تزال في لعـبة الصعـود ثم الانقـضاض.
- العلاقة التي تربط البحر بـ"الفشار"؟!!
استطعتُ لكثرة ما راقبتها تبينَ منقـارها العريض. منقار الخطاطيف وليس منقار الهانم. ربما لم أره عريضًا مفلطحًا، لكنَّي قرأتُ عنه ذلك في مكتبة المدرسة. يتلكأ بائعُ الترمس اللوز ولا يغادر إلا وقد اشتـروا منه قراطـيسَ ملفوفةً بدقةٍ مثنيةً من ذيلـها؛ كي لا تتسـع للكثير من الحَب الأصفـر المملح بنكهة البحر. وجدتها!! يضع يده في الماء ويرشُّ كومة الترمس ويناول "القـلة" ذات الغطاء البلاستـيك للزبائن فقط.
- وجدتها يا هانم! الملح!
ضحكَت وقالت: أنت ذكي، لكن هذه ليست الإجابة!
ملعون أبو الإجابة: البنات والصبيان والشوق في قلوبهم يقزقرون ويقذفون بالقِشر من أفواههم دون وعي، وبدون أن تتأثر ابتساماتهم العريضة ولا استعراضات قدودهم السرحة. تتبدد كل صور بنات حواء وينجلي المنظر عن واحدة تضع قلبي في راحة يدهـا السمـراء وتحـوِّط عليه بأصابعـها المضفـورة بالحنان. إنها يمامتي أنا. والشمس صفراءُ تعصب قورتها بسحابة، بينما شعرُ "سماح" ينزل كستارة هائلة تجرجر الذيل على أكتاف البحر الممتد هناك إلى ما وراء الرؤية. ولأنَّي مسكونٌ بعشقٍ طاغٍ أجدني أتخفّى وراء التورية فالقلب يقصد "سماح"، وأصيح وقد صنعتُ من راحتيَّ بوقًا دافئًا:
- بَحِبك يا إسكندريااااااه!
لا تعليق يصدر عن الهانم، فقد تعوّدت مني مثل هذا الصهيل!
أقودُ السيـارة بها وهي جاثمة في المقعد الأمامي. ألتفتُ إليها فألمح منظر وجهها الجانبي صُلبًا قاطعًا، وإن كان خدُّها متوّردًا فذلك يعود إلى إدمانها لَحسَ غذاء ملكات النحل بأصبعها. أنفها مدببٌ دقيقُ النحتِ صارمٌ لم يرثه أحد من أبنائها. في بداية عملي عندهم اقترحتُ عليها الجلـوس في "الكنبة الورانـية" لتكون على راحتـها فقالت: " الكنبة" للمشـتريات يا جمال.
خصلة من شعرها كورقةِ توتٍ تتشبث بالعود الأجرد في فصل السقوط. مع هذا فهي دائمة العناية بهذا الشعر. "نوسة" الكوافيرة تواظب على الحضور إلى الفيلا مرة واحدة أسبوعيًّا، ولا تملُّ من الانتظار حتى تخرج إليها الهانم من الحمام الذي تطيل المكث فيه. "نوسة" فيّاضة الأنوثة... للبنت ابتسامة الماء. لكنّي لا أفكر إلا في يمامتي البعيدة. ونوسة تنتـظر. وأنا أنتظر. وواجهة الفيلا تشرئـب فـوق الأشجار؛ فيفيـض إحساسي خصوصًا وإن جوقة العصافير الشرسة لا تأبهُ بأحدٍ وهي في عالمها الخاص، يتعارك ذُكـرانُها في إصـرارٍ وحـشيٍّ بينما يخطف أحدها وإحداها لحظة الحب خطفًا. وأهبط بعيـني من تيجان الأعمدة الرخاميّة إلى الممشى المفضي إلى ما يشـبه الحقل، تتخلله مربعات إسمنتية محيطاتها أعشاب متشبثة بأهداب الحياة؛ وكأنَّ أحـدًا لا يدوس أطـراف أصابعـها اليـابسة.
لم أطلب منها أن تدلّني على إجابة اللغز، لكنَّها تطوّعت بذلك من تلقاء نفسها:
- الملح الذي في "الفشار" يضايق لساني، ومع ذلك لو لم يكن الملح موجودًا في "الفشار" لفقد نكهته وما صار له قيمة. البحر أيضًا لو تخلّى عن الملح لما صار بحرًا، سيكون أيَّ شيء آخر!
- أعتقد أنَّني أجبتكِ على السؤال وقلتُ إنَّه الملح!
- لكنَّكَ لم توضح العلاقة التي...
من المؤكّد أنَّها شردت في مكانٍ سحيق، أو زمانٍ مراوغ. شعرتُ بها وكأنَّها تنعس.
***
"الهانم" – وأنا كظلّها – تدخل أرقى المحلات وأفخمها، يهشُّ لها البائعون ويقفون احترامًا. الأسعار نار مولعة. عزَّ الطلب، فهي تربط بين الغلاء وبين الجودة. خذ هذا. خذ هذه. خذ تلك. تناولني أكياسًا شفافة لامعة تِكِتاتها أفرنجيّة، تحتوي أحدث الصيحات، ستذهب إلى أصحاب النصيب. "فانلات" وقمصان نوم. جوارب من معـارض "جونيور". سندوتشات أجبان فاخرة، مغلفة. لحوم حمراء وبيضاء، وبيض من سوبر ماركت المسلة. أحملُ هذا كلَّه وأرصُّه بعناية على الكنبة "الورانية". وقبل أن تدخل من باب السـيارة وتستقر مكانها وأنا أفتح لها تسألني:
- نسـينا شيئًا؟
فجأة ونحن في طريق الكورنيش أسمعها كأنَّما تهبُّ من نومها:
- قف هنا!
أو تضربُ برفق ٍ يدي الممسكة بعجلة القيادة لأقف. أنبهها أنَّنا في الممنوع، وأعرف أنَّها لن تأبَه. تراودني أحيانًا خاطرةٌ أن يأتي "الونش" فعلاً ويسحب السيارة وهي بداخلها. ولكنَّي أعود وأهزُّ رأسي لأطردَ هذه السخافة. وقبل أن يهبَّ عليَّ صوتُها متلهفًا أكون قد فهمت ما ترمي إليه. هي تحبُّ الطازج دائمًا:
- شايف الرجل الذي هناك؟ معه صنارة بموتور وتحت رجله قفص خوص؟ انزل شوف معه سمك!
- الوقوف هنا ممنوع يا هانم. الونش يشيل العربية.
- انزل يا جمال!
تُصدرُ الأمرَ بإغراءٍ عجيب. حدودي لا أتخطاها وليس لي أن أعترض إلا للتنبـيه. "شايف الرجل الذي هناك؟" صوتها أفعى بلاستيك تتحرك فوق سيراميك أملس. آه. "معه صنارة بمـوتور". صـوتها لا يؤذي ولا يلـدغ ولكنَّه حازم وقاطع. وما عليَّ إلا تنفيذ رغبتها، أو الشروع في تلبية رغبتها رغم علمي أنَّ هذا غير ممكن، وأنَّ الرجل ليس محترفَ صيد ولا تاجرًا. أترجلُ من السيارة وأنا مخنـوق. أكاد أحتـقر نفسي. أتأففُ داخليًّا. أتخطّى الصخور التي أذاب البحـر آذانها لكثرة ما غمرها بحكاياه المعادة، وكسا بعضَها بالريم الأخضر الداكن الذي يتلوى مع الماء غير معاند. أذرُعُ الريم تتراقص في بلاهة. أخشى أن أنزلـق. أقترب من الرجل في قميصه المشجـر وبنطلـونه الجينز. حافيًا ينتصب كتمثال. كل قدم فوق صخرة. أحييه ولا أنتظر الرد. لأقـلَّ من ثانية يتفحصـني. وجهه مريح. غطاءُ رأسه المستدير لم يمنع تفحم جبهته. من خلف قفص "الخوص"، أو من مكـان آخر خلاف تخميني يصلُ صوتُ فيروز تغني للإسكندرية وشطها والهوى الذي رمانا. أعرف والله أنَّك تصطاد لمزاجـك الرائق حيث يمتـد البحر أمامك، ويحملك صوت سفيرة النجوم إلى آفاق السمو والجمال. يا بختك يا عم. يرفعك حتى وإن ظلّت قدماك الحافـيتان على صخرتين مبتلتين. هل أُخبِرُكَ أنَّ شكلك ليس غريـبًا عليَّ؟ ترى أين تقابلنا سابقًا؟
- أنا أصطاد لي ولأولادي.
- هذا واضح تمامًا، ولكن "الهانم" التي – انظر! – تنتظر في السيارة التي هناك. اعذرني يا أخي إنَّها تضعني دائمًا في مثل هذه المواقف الحرجة!
- تشتـغل عندها؟
كدتُ أستعطـفه لولا يقيني أنَّه لن يلين. أتمنى أن يتكلّل مسعاي بالفوز؛ فأعود لها مجبورَ الخاطر وأَجبُر خاطرها. مطَّ شفتـيه وأنهى الحديث. وحتى فيـروز أنهت الأغنية دون أن أنتبه لذلك. بلعتُ إحـراجه لي واستـدرتُ عائدًا ووجهي للصخـور. ثم رفعت عينيّ إليها. مازالت تحفّزني كأنَّما تترجاني:
- قل له بأيّ سعر، بأيّ سعـر!
- قلت له.
- ولم يقبل؟!
وقفتُ إلى جوار العربة لا أدري أأركـب أم سأعـود إليه. عيناها من خلف النظارة تخرجان من محجريهما. السمكة المنتزعة لتوّها من الماء ودارت في الهواء نصف دورة، بيضاء مبللة، تلمع عينها في حيرة وارتباك، تتلوى وتقاوم أصابع القبضة الخشنة. هذه السمكة تساوي عند "الهانم" كنوز الدنيا، ولكن الرجل يبخل بها.
- لماذا هو ضيّق العين هكذا؟ بخيل شحيح ابن كلب!
أفتحُ باب السيارة وأدخل والشتائم ما تزال تقع فوقي. أصله واطي، معفن، "زفر" زي السمك المنتن اللي معاه!
هل أنبهها أنَّنا كنّا منذ قليل في منطقة "المكس"، التي طالما اشترينا السمك منها، أو أكلنا في مطاعمها الشعبيّة المتناثرة قرب البحر؟ نمرُّ عليها فتتهافت إلى "نخاشيشنا" رائحة أسماكها، تدير رأسها تتفقد الأكشاك المرصوصة في طابور طويل، وتطلب مني أحيانًا الانتظار إن جذبَتِ انتباهَها سمكة بعينها، وأحيانًا تتقدمني جاذبةً إيّايَ من قميصي فننزل قربَ الماء نترقب خروج الصيادين، كانت تعرف أحدهم واسمه "الريس حمدي" لكنَّها تصرُّ على أن تدعوه: "ابن حميدو!"، وعندما تلمح قاربه الأخضر الذي يرفرف فوقه علم مصر تشير إليه والفرحة الطازجة تغمر وجهها، وقد تقفز كصبيّةٍ صغيرة تلوّح له بيدها، فإذا به يُحضر لها سمك "الدنيس" الذي تحبه. لا تأخذ أقلَّ من خمسة كيلوجرامات، وتصرُّ أحيانًا أن نقف على "الكوبري" الذي يفصل ظاهريًّا ماء البحر المالح عن ماء "الترعة" العذب، ويقف صيادون، أو بائعون وأمامهم طاولات مرصوصة مليئة بالسمك، وخصوصًا السردين. تأتي إحدى المراكب حوالي الثامنة مساءً وعليها الطاولات، كما أنَّ قوارب كثيرة متراصّة على جانبي "الترعة" تتمايل، وحواليها بيوت الصيادين بطول الترعة في صفين متقابلين، وقد بدت أطباق "الدش" بأحجام كبيرة فوق الأسطح الواطئة. كانت تلقي بصرها تتأمل المكان وهي لا تريد أن ننصرف.
وعندما لا يعجبها السمك هنا تسألني متأفّفة: إيه رأيك؟
وقبل أن أنطق تستعجلني: اطلع على "أبو قير"!
هي لا شكَّ تقصد الحاج "نورة!"
ليس عنده مطعم، لكنَّه يشوي السمك أو يعمل "الطاجن" المعتبر عند واحد صاحب مطعم على بعد خطوات. يخرج الصيادون من البحر قاصدين الحاج "نورة" هذا. عنده جميع أنواع السمك الطازج.
يلمحها فيهرع إليها. لا تنزلُ هي من العربة. تفتحُ الزجاج وتحدّثه بما تريد:
- اشوي لي خمس "جمبريات" من الحجم الكبير. عاوزة عيش بلدي يا حاج "نورة".
تقوم بتقشير "الجمبري" حتى يتبدّى أمامها كأصابع الكفتة، تضع كل أصبع في رغيف وتبرمه على هيئة "سندوتش" طويل. تعطيني اثنين، وهي اثنين، بعد ما تأكل تنفض يديها ثم تمسح فمها بمنديل ورق.
كل ما ترغب فيه لا يكون له قيمة إلا إذا أتاها مهرولاً في التوّ واللحظة، وإلا فهو لا شيء.
وما زالت شتائمها تنهمر؛ لأنَّ الصياد ابن كذا وكذا لم يحقّق رغبتها في أن تقتني أسماكه الطازجة. ظننتُها تفكّر الآن في الحاج "نورة"، لكنّي سمعتها تأمرني بحزمها الغاضب:
- الجــمرك!
فهي إذن تعني باب 14 ناحية "اللبان". إنَّها تقصد "مسعودة"! يرتسم أمامي جثمان تلك المتسوّلة، والعربة في انطلاقها، ملقاةً لا شكَّ على الرصيف، مستغرقة في غيابها الكبير. يدها الممتدة اليابسة متكئة على جذع شجرة "الفيكاس" التي تظللها. كتلة من اللحم البائت يتركز وعيُها إن أمكنَ، في راحة تلك اليد. وكلما وهبها أحد المارة شيئًا تفحـصته الأصابع أتوماتيكيًّا قبل أن تناوله دون وعي كامل لابنها "هلال" الذي يُسقطه في الصندوق الخشبي المغطَّى ب"هلاهيـلَ" حائلةِ اللون. الصندوق به النقود وعليه "الهلاهيل" وفوقـها يتربع الولد "هلال" المترهل متلهفًا على ما يضعه المارة في كفِّ أمّه الراقدة. من اهتراءات الثوب الذي لم يعـد ثوبًا يبدو لحمُها ناقمًا على الذين لا ينتبهون لبؤسها. يتهلّل وجه هلال ويتوّرد إذ يلمح عربة "الهانم"، فهو يميّزها بين سيل العـربات. يعتدل في جلسته فوق الصندوق متصنّعًا خشوع المعوزين الصابرين. أنزلُ أنا وأفتح الباب الخلفي فتستدير "الهانم" بجذعها لترى ما سأحمله لمسعودة من على الكنبة "الورانية". أسمع طقـطقة عظمها وقد استدارت منتبهة جدًّا إلى الأشياء التي أحملها كي لا أنسى، أو أتناسى، منها أية قطعة. الملابس الداخـلية الأنيقة عالية الجودة في أكياسها الشفـافة عليها تِكِتَـات بلادها يأخذها الصبي نيابةً عن أمه المستغرقة في غيبوبتها، وقد أطلَّ البؤسُ من الفتحات المتسخة. يتـناول الأكـياس وينهض قليلاً حتى يضع هذه الأشياء فوق "الهلاهيل" التي فوق الصندوق الذي فيه النقود، ثم يجلس عليها جميعًا عائـدًا إلى استكانته المصطنعة منتظـرًا أن أحمل إليه "السندوتـشات". أقدّمها إليه و"الهانم" تصـوّرني بوجـهها الذي ينضح بالفرح الطـفوليّ. لن تتحرك العـربة قبل أن تراه يمضغ كحيوان بريء. أهزُّ رأسي مستفـهمًا فيجيئني تلعـثمه:
- حضرتك نسيت تعطيني الزيتون.
أنظر إليه ولا أرد. ابتسامة "الهانم" تملأ وجهها وتمسح الغضون.
- شوف برطمان زيتون عندك يا جمال، علشان الولد نفسه تنفتح للأكل.
ألقي نظرة على "مسعودة" وهي موحُـولة في غيبـوبتها، موصُولة بلا مبالاتها، وأتساءل كيف يمكن لمثلها أن تضع على جسدها ما قـدمناه إليها. إنَّها بالتأكيد لن تراه ولن يلمـسه جثمانُها الذي ودَّع الاستحمام من زمن. أقدّم "البرطمان" للولد: يكفيك شهرًا وزيادة!.
وأتّجه للسيارة؛ فتهمس الهانم بخجل مراوغ:
- قل لها تدعو لـ"جمـالات"!
فأعـود وأنادي، والولد فمه مزدحم كأنَّما يجتَرُّ. يراقبني متلهفًا. أنادي: يا مسعودة!
وأقترب بفمي من أذنها: بالله عليك لا تنسي الدعاء لستك "جمالات". ربنا يرزقها بابن الحلال.
الجملة الأخيرة أهمسُ بها همسًا كي لا أجرح إحساس "الهانم". يخرج صوت الصبي من بين الزحام الذي يُلاك:
- اطمئن يا باشا. سأنبهها تدعو لـ"جمالات".
- ستك جمالات يا بجم!
- ستك جمالات يا باشا!
وتأبَى "الهانم" أن نتحرك إلا بعد أن ترى شفتيّ "مسعودة" الجافتين تنفرجان بالدعاء لابنتها.
- سمعـتها؟
- آه، شاورت لي بعينيها.
ولكن الولد هلال يتحمس لتوصيل الرسالة الموصى عليها إلى أمه المسكينة. الولد على ركبتيه وكوعيه، ووجهه السمين قرب وجه أمّه يحايلها، فتحركت اليد فجأةً خارجة من الغيبوبة، وكأنَّما تحركـت يد تمثال، ولطمته فارتمى صارخًا؛ فضحـكت "الهانم". قهقهت من كلِّ قلبها:
- يـَـُدَهـا مِرذبَّـة!
ونغادر المكان إلى حيث توجد حالات أخرى.
"الهانم" لم تعد تصرُّ على إخراج "مسعودة" من قذارتها. ولن تجبرها على فعل ما لا تقبل: الاستحمام. في البداية كانت تلحُّ أن تأخذ المرأة "دشًّا" دافئًا لإزالة ما تراكم على جسدها من قشف. لوجه الله، طلبت مني – كان ذلك منذ مدة – أن أحضرَ "باتعة أم محمد" معي ونذهب إلى "مسعودة" لنعرض عليها الأمر خطوةً خطـوة، ولم تكن قد دخلت في الغيـبوبة بعد، حاولـت "باتعة أم محمد" إقناعـها بالحسنى فلم تجـد سوى الإصرار على الرفض. بدأت "أم محمد" تثور: اسمعيني يا امرأة، ستقفين معي تحت "الدُّش". شفتِ "الدُّش" قبل الآن؟ وكلما أفعلُ شيئًا تقلدينني. "الهانم" عندها صابون تركي معتبر. ريحته ترد الروح. لا تقلقي! الصابون لن يجرح جلدك. انتبهي يا غليظة! .... أمَّا ظهرُك يا غليظة فأنا أتولاه. هيا قومي معي!
وعندما أصرَّت على الرفض صرخت "باتعة" وبعصبيّة: "كم من النقود يلزمك وتستحمين يا ولية؟ بينك وبين النظافة عداوة؟ يا خايبة. عيشك لن ينقطع لو تنظفين. فزّي قومي قامت قيامتك. قومي. الهانم عمرها ما تتخلى عنكِ. ستبعث لك المرتب الشهري يا وليه يا رزية. أعوذ بالله منك ومن أمثالك. "إنت" معفنة. ياباي! قال دش قال. أتعرفين المكنة التي ينظفون فيها الفراخ المذبوحة في المحلات؟ لا يصلح لكِ إلا أن توضعي في إحدى هذه المكنات، ويسكبون فوقك الماء المغلي الذي يهري بدنكِ، والمكنة تدور بكِ، تفسحك! ومن يدري هل ستنظفين بعد ذلك أو تخرجين دون أي تغيير؟! أعوذ بالله من وجهك العكر".
- "تشتميني يا صايعة يا ضايعة تعالي نامي معي على الرصيف تعالي. (وجذبتها) نامي هنا تدوسك الأرجل. ما هذه المياه التي تحضرونها لي في زجاجات بلاستيك هذه؟ هل قيل لكم إنّي مريضة؟ خذي قزازتك وارحلي! "
كانت "الهانم" في العربة تراقب المشهد من مكان آمن. وعندما تبينت أن موقف "باتعة أم محمد" ضعيف صرخت فيَّ:
- انده عليها يا جمال. شدّها وهاتها.
ولم يمض أسبوعان أو أكثر أو أقل، حتى كانت قد غفرت ل"مسعـودة" تمردها. وعندما رأتها – فيما بعد – مستسلمة للغيـبوبة تأثرت لها، وها هي تحضـر لها ما أعـتادت إحضاره موقنةً أنَّ على نهر الخير أن يواصل الفيضـان، ولا يهمُّ أين يصب، بل المهم أن يصبَّ ولو في البحر. "الهانم" ست طيّبة وغريبة الأطوار، تقعـد وحدها – في الحمـام – تتكـلم كثـيرًا وتهلوس. يعلو صـوتها مهدّدًا متوعّـدًا كل المجـرمين والمتآمرين في هذا العالم؛ وخصوصًا تلك التي خطفت ابنها وتزوجَته. النمرودة !! قال إيه؟ تحبّه ويحبها. أحـبَّها "بُرص" وعشرة خُرس!
***
وكلّما هلَّ عليها زوجُها الحاج "البلاسي رامز"، نازلاً تقولُ له ووجهها "مكلضم": هات فلوس!
- معاك اللي يكفيك.
- بقول لك هات!
وإذا لم يعطها تشتمه. لم يكن يرد عليها الشتائم. يقول لي:
- يللا بينا يا جمال.
ويتركها ويتقدّمني. يطارده صوتُها: "ابعتلي العربيّة. أنا نازلة، عيب عليك".