محمد عباس علي داود
قاص مصري، عضو اتحاد كتاب مصر.
أمامَ البابِ الخشبيّ بزخارفه المبهجة توقفتُ، أعدتُ قراءةَ العنوان الذي قرأتُه مراراً، تأكّدت من الرقم المدوّن، أعدت التأكّد، دققت جرسَ الباب، ووقفت مثقلا ًبحمل لهفتي أنتظرُ، بعد دهرٍ رأيتُ الباب يُفتح، أطلَّ وجه ولدي حسام، تلقيته بين أحضاني، أخيراً من قلب المتاهة عثرتُ عليك .
أخذ يمسح الدموع عن وجهي:
- كيف حال السفر معك؟
- كلُّ آثار التعب تبدّدت الآن.
أخذني من يدي، كان الصباحُ يافعاً، سرتُ وسط الخضرة أتنسم عطرَ الصفاء، أديرُ النظر حولي. أشار إلى مظلّةٍ تكوّنها الأغصانُ الملفتة بخضرتها التي تشرح القلوب، قال :
- الوكر، هنا أجلس وسط الحديقة لأتناول الإفطار.
أخرجتُ منديلاً ورقياً أمسح به ما تبقى من شعيرات برأسي، العرق إبر حامية تنفذ في مسامي، وأسفل ظهري، حملقتُ في المائدة التي تتوسط الوكر، كما يسمّيه، والمقعدين الخاليين.
- أين الأولاد؟!.
ردَّ باسماً: في المدرسة.
كانت الشمسُ ترشق أسهمها الذهبيّة من خلال أوراق الشجر في أضلع المقعدين والمائدة، فكرتُ أن أجلس قليلاً لأستريح من عناء الطريق.
بالبسمة نفسها أشار إلى مبنى وسط الخضرة، زاهي البياض، قال بمرح:
- تعال، هذا بيتي.
سرتُ معه، هي أيام طويلة لم أره فيها، افتقدته، أحسستُ أنَّ العمر يهرول ويدنو من نهايته دون أن أراه، البيت لم يعد فيه ما يشدني للبقاء، الزوجة ذهبت. اقترح عليّ أن أسافر إليه في إجازةٍ قصيرةٍ بدلاً من البقاء وحدي في الشقة مع كلِّ أيامي مع زوجتي الراحلة وذكراها، تلك التي أعيشها مع كلِّ ركنٍ بالمكان، وافقته وأتيت .
- اتفضل يا بابا.
فتحتُ الباب وتقدّمت، مسافة طويلة قطعتها لأجله، كان ظنّي أنَّني بالبعد عن البيت سأبتعد عن زوجتي الراحلة، لم أدر أنَّني أخذتُ ذكراها معي، في الحقيقة هي ليست ذكريات، هي حياةٌ كاملةٌ أعيشها معها شاعراً أنَّها ماتزال معي ولم تغب قط، عيناها ترافقانني أينما حللت، وأراءها تنير لي طريقي أينما سرت، لذلك أسأل نفسي مراراً ما هو الموت؟، وما هو ذلك الحدُّ الفاصلُ بينه وبين الحياة؟، وكيف نستطيع إذا كنّا صادقين أن نتجاوز هذا الحدَّ الفاصل؛ فيصبح الموت والحياة شيئاً واحدًا برغم الاختلاف الظاهر بينهما؟. إنَّني كثيراً ما أنتبه لنفسي وأنا أحدّثها وأستمعُ إليها، ولا أكذب إذا قلت إنَّني أراها وأرى انفعالات وجهها وتأثير كلامي عليها كما اعتدت منها بطول عشرتنا معاً، وحينما اقترح حسام أن أسافر إليه سألتها في جلستنا اليوميّة هل أذهب إليه؟، سألتني بدورها: هل ستتحمل مشقة السفر وركوب الطائرة؟. قلت جادًّا: من أجل رؤية حسام، سأفعل.
فتحتُ الباب وتقدّمت، تلاقت عيناي بأربعة أعين باسمة معلقة على الجدار، تستقبل الداخل مباشرةً، تبسمت بإجهاد اللحظة من أجلها، زوجته معلقة في يده بفخر، وهو يواجه الكاميرا ببسمة ثقة طالما أعجبتني فيه.
- ما رأيك؟
حدّقتُ في ملاحة الملامح، همستُ: جميلة.
اتسعت ابتسامته:
- زوجتي، ستعجبك أكثر حينما تراها.
ومضى إلى الأمام، سرتُ خلفه إلى وسط الردهة، رأيتني أفتحُ عينيّ على اتساعهما، الأنوارُ خافتةٌ، تنبع من "لمبات" صغيرة تحجبها بلورات زجاجيّة خشنة السطوح، الظلال تتلاقى على فُرش المقاعد والأرائك بألوانها النضرة لتصنع عالماً من غموض. النور الخافت يكتفي بافتراش الجدران، بينما تبزغ من الأركان موسيقى هادئة تروي الروح.
شدَّ انتباهي صورة ثانية زاهية الألوان تتوسد منتصف الجدار المقابل، كانت لامرأته وحدها، تأملتُ وجهها، حسنها فياضٌ، قسماتُها رقيقةٌ، بسمتها رائعة، من صغره يتمنى هذا ويسعى إليه. تركنا منذ سنين قائلاً أنَّه سيبحث عن ذاته، سنوات مرت لم أر منه إلا كلمات عجلى عبر الهاتف.
كنت كثيراً ما أسأله :
- ألم تجد ذاتك التي تبحث عنها بعد؟
فترن ضحكته عبر السماعة: مازلت أحاول.
أخيراً اضطرني أنا للمجيء إليه.
- تفضل من هنا يا أبي.
أهمسُ في إرهاق:
- لا داعي للفرجة الآن.
تتسع ابتسامته:
- ألا تريد رؤية بيتي؟
أهزُّ رأسي مستسلماً وأسير خلفه، يمضي إلى ممرٍ ضيّق به حجرةٌ إلى اليسار، أرى إلى اليمين هرةً ناعمةً ساحرةَ العينين تطلُّ من إطارٍ ذهبيٍّ على الجدار، يفتح باب الحجرة الأولى، أدخل بعده، تقابلني ستارة مزركشة ذات ورود مطرزة بقماشها السماويّ تغطي جزءاً من الجدار، الجزء الآخر به نافذةٌ مفتوحةُ المصراعين، الهواء يسبح مرحاً في المكان، وجهي تنبسط أساريره أمامي في المرآة.. حجرة وفاء.
أرمق الصور المتزاحمة على الجدران؛ ممثلين ومطربين لا أعرفهم، يشير حسام إلى بعضهم ذاكراً أسماء أجنبيّة، لا أحاول حفظ أحدها، أشعة الشمس عبر النافذة ترشقهم بمطر الضوء.
أهزُّ رأسي عجباً، أرسل بصري عبر النافذة إلى الحديقة، أسمع صوته يقول:
- وفاء في المدرسة.
ويتّجه للحجرة الأخرى، خطوة قدمي لم تعد تساعدني، أتقدمُ متمهّلاً خلفه، شاعراً أنَّني بحاجة لمجهود مضاعف لتحريك جسدي.
حجرة أشرف، ألمح وجهين متلاصقين على "الكوميدينو" الملاصق للسرير، ضحكتهما الصغيرة رائعة، أقبّله وأخته بحنان، منذ سنين لم أرهما، ما أروعَ أن يكون لك أحفاد، وما أروعَ أن تنعم بقربهما، وتشعر بدفء مشاعرهما نحوك، هل سأشعر بهذا حينما ألتقيهما بعد قليل؟!.
أعيد وضع الإطار مكانه وأمضي، يقابلني وجهي في المرآة، مرهقاً زائغَ العينين، متهدلَ الجفون، يشكو عجزه عن الاستمرار في اعتقال جفنيه دون إغلاق.
أتاملُ الشعيرات البيضاء في رأسي، يبدو عليها أيضاً الإرهاق، تناثرت وترامت على جانبي وجهي بلا حول، أدير رأسي عن المرآة، وأنا أتمنى أن أسأله الراحة أولاً، وبعدها أتفرج كما يشاء.
- اتفضل يا أبي.
لا أجدُ الجرأةَ على البوح بما لديّ، أسألُ نفسي: هل يمكن أن تكون ضيفاً عند ولدك؟، وهل يليق بك أن تخجل منه، فلا تصارحه بحاجتك إلى الراحة؟.
أمضي برغمي إلى الحجرة الثالثة على اليسار المطلة على الحديقة من الوراء، بالتحديد كما قال لي تطلُّ على الوكر، تبدو أكبر من الحجرات الأخريات، تقابلني ستارةٌ لبنيّةُ اللون ذات نقوش مطرزة تغطي الجدار، تنسل عبرها خطوط مستقيمة من الضوء من خصاص الشيش لترتمي تحت قدميّ، تحيل الظلام إلى عتمة ناعمة، الفُرش الورديُّ المبعثر يؤكد أنَّها حجرة نومه، أغادرها صامتاً، هذا هو الوكرُ الحقيقيُّ أيّها الشقيّ، من يومه هكذا، كان يتوق للشقراوات ذات العيون الملونة، أرقبه بجانب عينيّ، أتعبني في تربيته، مع هذا أشعر به قريباً مني، أمُّه- رحمها الله- كانت تقول: لا أعرف، كيف يشبهك لهذا الحد؟!.
رغم هذا فأنا أختلف عنه كثيراً، لم أكن يوماً أحمل تطلعات أكثر من الست؛ امرأة ترضى بمعيشتها، تشعر أنَّني رجلها، وأولاد أُحسنُ تربيتهم، ولا شيء أكثر من هذا. أمَّا هو...!
- تطلع يا بابا، المنظر من فوق رائع.
صرخت رغماً عني: يا بُني هذا إجهادٌ لا أتحمله.
عدنا إلى الردهة، تحت الصورة الزاهية الألوان لامرأته، جلستُ.
- نأكل أولاً، مؤكد تشعر بالجوع!.
وأشار إلى مائدة الطعام في الجانب الأيمن، حولها أربعة مقاعد بعدد أفراد الأسرة، رغم أن الجوع يتعملق في أحشائي قلتُ:
- أرى أن ننتظر الأولاد.
- إذن نشرب شيئاً.
هرول نحو المطبخ، سمعتُ صوت مزلاج الباب يُفتح، ورأيت أصل الصورة التي أجلس تحتها حيّاً أمامي، تأملتُ الشكلَ بانبهار، وجهها، دهشتها، عالجتُ القيام ترحيباً بها:
- من أنت؟!.
أظهرت ملامحي ارتباكاً طارئاً، عالجته بمحاولة الرد:
- أنا!
أنقذني حسام الذي عاد بالمشروبات :
- بابا ، جاء من مصر.
مدّت يدها بالسلام، بسمتها جافة، عيناها تلمعان بنظرة معجونة بازدراء، أو كره، أو ربما رفض لزيارة غير محبب بها، لم أدر حقيقة نظرتها بالضبط، لكنَّها على كل حال وراءها شعور بعدم الارتياح لوجودي.
شعرها القصير هالةٌ من ذهب تحيط بوجهها المشرب بالبياض، ينفرج ثغرها بالكاد:
- أهلاً، عن إذنك.
وتمضي إلى حجرتها الثالثة على اليسار، مؤكّدٌ هي التي وضعت صورة الهرة الناعمة الساحرة العينين في الممر، لكن أين مخالبها؟!.
مدَّ يده بالشراب، وقد اكتسى وجهه بحمرة طارئة :
- اتفضل يا أبي، البيت بيتك طبعاً، عن إذنك ثواني.
كنتُ قد نسيتُ التعب ليحلَّ محلّه شعورٌ جديدٌ بعدم الارتياح لهذا الاستقبال، قلتُ محرجاً: سأنتظر في الحديقة.
فتحتُ الباب ومضيت، اتّجهت إلى المظلّة، أو الوكر كما يسمّيها، ألقيتُ بإرهاقٍ جسدي على أحد المقعدين القابعين هناك.
وصلني صوتُها محتجّاً من خلال النافذة التي فُتحت توًّا في حجرتها:
- لا أحبُّ الزيارات الفجائيّة!!.
انتبهتُ لكلماتها، فعاد التعبُ يشلُّ جسدي، تصلّبت أعضائي على حالةٍ شعوريّة واحدة، لا أعرف كيف اجتاحتني في لحظة؟، حالة شعوريّة لم أمر بها من قبل، رأيتني فيها صغيراً ضئيلَ الحجم، عاري الجسد في عراء لا حدودَ له.
- بابا جاء من مصر.
- تلك مشكلتك أنت، فهمت.
حاولتُ تعقبَ صوته، معرفةَ ردِّ فعله، رؤيةَ وجهه في تلك اللحظة .
لم يكن هناك إلا صمتٌ منكسرٌ، وضبابٌ كاسحٌ يغشي الروح والعينين، استطعتُ من خلاله بالكاد أن أحدّدَ مكان الباب الخشبيّ... وأمضي!.