ألحـانُ الحرمـان

محمود مصطفى حلمي
كاتب وقاص مصري، وباحث تربوي.
في سنةٍ من غفلة، فاجأني الخالُ من خلفي ليهوي بكفّه على ظهري بشدة، شعرتُ أنَّ السماء قد انطبقت فوق رأسي، وأنَّ جسدي يتهاوى أمام شدةِ ضربةِ كفّه الضخم، لا أبالغ في التعبير؛ فكفُّ الخال لا تضاهيها أخرى في حجمها أو ثقلها أو شدة ضربتها، وبصوته الذي يملأ الدنيا ضجيجاً، قال صارخاً:
-تترك الأرض لتغرق، وتجلس هنا لتُزمّر يا ابن "بهانة".
لم يكن هناك شيء يؤذيني بقدر ذكر اسم أمي في العلن، ولم يكن هناك ما يفعله الخال بكثرةٍ سوى أن يناديني باسم أمي علناً على الدوام، ربما لأنَّني لم أر أمي، ولديّ إيمانٌ بأنَّها كانت أفضلَ امرأةٍ في الدنيا، أو ربما لأنَّني أحبّها بشدة، لتأكّدي أنَّها لو عاشت معي لكانت أحبتني بمشاعر صادقة، ولكانت بالتأكيد ستحنو عليّ أكثر بكثير من الخال.
الخال هو الأخ غير الشقيق لأمي، وألقّبه بالخال كنوعٍ من التقدير المغلف بالإجبار، بكل تأكيد، أو ربما لأنَّه بالنسبة إليّ مجرد خال، فذكره بلفظ خالي يشعرني بقربٍ إليه غير موجود من الأساس، ولا يمتُّ إلى مشاعري نحوه بأيِّ صلة، فتحتُ عينيّ على الدنيا، فلم أجد أمامي سوى الخال حسّان وزوجته شادية، الخالة شادية لا تختلف عن الخال كثيراً، فأحياناً أظنُّ أنَّهما توأمان وليسا زوجين، هما متشابهان في كلِّ شيء، الشكل، الملامح، الصوت، الغلظة، الحقد، القبح، وقسوة القلب، ربما لم يكن يصلح أحدهما سوى زوجٍ للأخر، ولا يمكن أن يعيش أحدهما بدون الآخر، فعندما تنظر إليهما وهما يتغازلان تكاد تفرغ كل ما في معدتك من شدة التقّزز، أمَّا حين يختلفان وينتج عن ذلك شجارهما معاً، فلا عليك سوى أن تجد مكاناً يخبئك لئلا يصيبك أحد تلك القذائف المترامية في كل اتّجاه، قد تكون محظوظاً إن كانت تلك القذيفةُ فردةَ حذاءٍ أو حجرًا صغيرًا، وقد تصيبك التعاسة إن كانت تلك القذيفةُ إناءَ طبخٍ كبير، أو كرسيَّا من الخشب العتيق، تستطيع أن تصف ذلك العراك بلقاء العمالقة حقاً.
أخبرني الخال منذ إدراكي أنَّه أخذني بعد وفاة أمّي أثناء ولادتي، لم يكن لي أب يربيني، فهناك من قال إنَّ أبي قد ذهب إلى الحرب ولم يعد، وهناك من قال إنَّ أبي قد سافر للعمل وترك أمّي تحملني في أحشائها، ثم انقطعت أخباره، لكن الخال دائماً كان يخبرني بالقصة التي لم يعلمها سواه على حدِّ قوله، كان يقول إنّني ابن حرام، وإنَّ أمّي قد وقعت في الرذيلة مع شخص مجهول لتحَمَل بي؛ لأنَّ أبي كان عقيماً، وعندما علم أبي بحَمل أمي هجرها و"طفَش" من البلد إلى الأبد، لم أستطع التأكّد من أيّ رواية مما سمعتُ عن أمّي، المهم أنَّ الخال كان يجتهد في إلحاق كل أنواع القبح والعار بي.
أمّي لم يكن لها سوى الخال ليأخذ وليدها، وإن لم يكن الخال يرغب في أخذي ما كان أخذني، ولكنَّه رجلٌ أبتَر، قد وجد ضالته في طفلٍ ليس له من يسأل عنه، حتى الخالة شادية لم تعترض حينئذ، فقالت للخال:
-نِعمة، ولد نربيه في صغره، ويسندنا عندما نكبر.
لا أعلم ما العلاقة بتربيتي وما أراه من إهاناتٍ على يد الخال وزوجته، لكن التربية التي أراها منهم الأن هي عملي لديهم كأجيرٍ بغير أجر ليس إلا، أنا الذي أرعى الحقل، وأرتّب الدار، وأُطعم المواشي، بل وصل الأمر بالخال ليأمرني أن أفرُك له ظهره حين يستحم، فالخالة شادية لم تعد تطيق فرَك ظهره له.
لم يكن لديّ أي نوع من الرفاهية إلا في تلك الآلة البسيطة (الناي)، أحضرها لي صديقي الوحيد سعيد خِلسة، وعلّمني كيف أخرج منها ألحاناً يطير لسماعها فؤادي، حين كنتُ أعزفُ الناي كنت أنسى كلَّ شيء، أنسى الخال حسّان والخالة شادية، والضرب، والشتم، والنوم بدون طعام، فقط أتذكّر أنَّ هناك شيئاً جميلاً في تلك الدنيا، قد رأيتُ جماله رغم كلِّ القبح الذي يحيط بي، أحببتُ الناي أكثر من نفسي، كنت أخبئه تحت جلبابي عند خروجي بالمواشي إلى الحقل، وعند عودتي إلى البيت كنت أدُسّه في كومة التبن حتى لا يراه الخال، واليوم فاجأني خالي بتلك الزيارة المباغتة في الحقل.
أمسك الخال بي من ياقة جلبابي وجذبها نحوه بقوّةٍ كادت تخنقني، احمرّ وجهي وانتفخت أوداجي، حاولتُ أن أخبئ الناي إلا إنَّه سقط مني أرضاً، لم يكن يشغل بالي سواه رغم قسوة اللكمات التي كانت تنهال على كلِّ جسدي، وكعادة الخال أخذ بكلِّ الطرق الممكنة يلقنني درساً لا ينبغي لي أن أنساه.
- أخبرتُك مئات المرات أن تهتم جيّداً بينما تروي الأرض، لقد أغرقها الماء بينما أنت تلعب.
استجمعتُ قوّتي وحاولتُ أن أردَّ عليه، إلا إنَّه لم يعطني الفرصة، طرحني أرضاً وأكمل الضرب بقدميه، تكوّرتُ على نفسي فوق الأرض بينما وقف الخال فوقي يلهب جسدي بكلِّ طريقة، لم ينجدني من لظَاه سوى جيران الحقل الذين أتوا مسرعين حين سماعهم صرخاتي، أمسكه بعضهم بينما حملني "عَمّ عبدون"؛ جارنا في الحقل، من على الأرض، وهو يواسيني ويدعي على الخال بأن يأخذه الله شرَّ أخذة. رغم شدة الألم الذي عصر جسدي كانت عيناي متعلقتين بالناي، وقد دَثّره التراب تحت قدميّ الخال، لكنَّه رغم بلاهته لم يغفل عنه، وحمله ثم هوى به على ركبته؛ فحطّمه إلى نصفين.
حين رأيتُ الناي يتحطّم لم أسمع أيَّ شيءٍ سوى ألحانه، فقط تزاحمتْ على أذني بكل نغماتها المختلفة، وقد انطبعت من قبل فوق جدران قلبي، أخذ الخال يتفوّه بألفاظِ السباب المتنوعة، وصوته يعلو فوق كلِّ شيء، وفي النهاية أقنعه المزارعون أن يعفو عني، وافق على مسامحتي شريطةَ أن أُكمل رَيّ الحقل، وإطعام المواشي، وأن أنظّفَ الزريبة، وأطعمَ الطيور، وأرتّبَ الدار، كان يوماً قاسيّاً عليّ، ولم أذق مثل مرارته من قبل، رغم كلِّ ذلك لم يكن يشغلني أكثر من الناي الذي لن أراه ثانيةً، جمعتُ نصفيه من على الأرض وأنا أنظر إليه متحسّراً، ودموعي تنهال على وجنتيّ، خبأته تحت جلبابي وحملته إلى الدار عند عودتي، لم أشعر بالحقد والغضب نحو الخال مثلما شعرتُ به في ذلك اليوم.
ذهبتُ إلى الدار، وفعلتُ كلَّ ما طلب مني الخال، ثم دلفت إلى مبيتي وأنا متعبٌ حزينٌ مكسور، نشرتْ ظلمةُ الليل سوادَها على الكون، وظللتُ ساهداً أفكّر فيما يمكن أن يشفي غليلي من الخال، لم أستغرق وقتاً في التفكير، وجدتُ نفسي أنهضُ بعد منتصف الليل خارجاً من مكان مبيتي، وفي كلِّ يدٍ من يديّ نصفُ الناي المكسور، دلفتُ إلى غرفة الخال فإذا هو يَغُطّ في نومه وبجواره الخالة شادية، وأصوات شخيرهما تتسابق لتعلو على بعضها، تأملتهما فإذا هما أقرب من الأموات عن الأحياء، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أقف عند رأسيهما وبكلِّ قوتي انهلتُ على رقبة كلٍّ منهما بنصف الناي المكسور الذي أصبح سنُّه مدبباً من أثر كسره، أعدتُ الطعنات على رقبتهما فتفجرت الدماء منهما لتغرق السرير، وأرضية الغرفة، وبعضهما البعض، العجيب أنَّهما لم يصرخا أو يقاوما، شعرت أنَّهما كانا ميتين بالفعل.
بعد أن تأكدتُ أنَّهما قد فارقا الحياة، جلستُ بجوارهما أنظر إليهما وأضحك، لم أكن أعلم سرَّ ضحكاتي، إلا إنَّ منظر الدماء وهي تغطي جسديهما كان يشعرني بنشوةٍ لا مثيلَ لها، بعد قليلٍ قُمتُ وأخذتُ أجري في كلِّ مكانٍ في الدار، كنت أجري وأضحك وألعب، دخلتُ إلى المطبخ وتناولتُ من كلِّ أنواع الطعام التي كانت الخالة تحرمني منها وتخبئها عني، عدُت إلى غرفتهما وفتحتُ "الصوان" الذي كنت أعلم أنَّهما يخبئان النقود فيه، أخذتُ كلَّ نقودهما وخبأتها أسفل جلبابي كما كنتُ أُخبأ الناي، وخرجتُ.
على باب الدار جلستُ، منتظراً شروقَ الشمس حتى أذهب إلى صديقي سعيد؛ لأطلب منه أن يشتري لي ناياً جديداً.