كايد هاشم
نائب الأمين العام للشؤون الثقافية بمنتدى الفكر العربي
توضح لنا جذورُ العَلاقة التشابكية الأزليّة بين الإنسان والتاريخ مدى قوّة حضور التاريخ وأهمية تنمية الحسّ التاريخي ضمن أبعاد الوجود الإنساني ودور كليهما في الحفاظ على الكيان والهُوية للفرد والجماعة، وكذلك في فهم الإنسان لعالمه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وبناء شخصيته وثقافته. فالتاريخ يُعدّ وعاءً لحصيلة الخبرة الإنسانية بمختلف أشكالها وأنواعها على مَرّ الزمان، ومصدراً للقيم الثقافيّة، وسجلاً لتطور الأفكار وتاريخ المعتقدات، وميداناً للتواصل بين بني البشر والأجيال. فلا يمكن للكائن البشري أن يحيا وتنمو شخصيته في الوسط السويّ والطبيعي دون هذا الحضور ودون الحسّ التاريخي وضرورته لوعي هذا الكائن وإدراكه العقلي وتطوّره الفكريّ ونضوجه الوجداني، مما يشترك فيه مع الإدراك والوجدان الجمعيين والتفاعل من خلال ذلك مع دوائر محيطه الحياتي والإسهام في استدامة حيوية هذا المحيط.
بهذا المعنى؛ فإنَّ حضور التاريخ وأطيافه المتداخلة في مفاصل سيرة أ.د.هند أبو الشعر الشخصيّة والإبداعيّة والأكاديميّة؛ بل في مجمل تكوينها الثقافي والفكري وحضورها الفاعل والمشهود في ميدان الثقافة محلياً وعربياً، هو حضورٌ أصيلٌ، فنحن أمام عالمٍ من الآفاق الرَّحبة التي انفسحت بأثر هذا التكوين، وعمق التجربة العلمية والبحثية والثقافية، ومعطيات الرؤية الفكرية القائمة على خطاب مستقبلي للأجيال الجديدة بمنهجية وعقلية منفتحة على الإفادة من التقنيات والتكنولوجيا الحديثة لإثراء مصادر البحث وتجويد المضامين؛ ما جعل جهودها ومنجزاتها تتحدث عن نفسها وقيمتها ووزنها في رحاب دنيا الكتابة والدّرس والبحث والتأليف والتحرير والنشر، وقد بلغت في عددها حوالي 85 كتاباً أكاديمياً في حقول التاريخ والتوثيق والدراسات الثقافية تنتمي بشكل خاص إلى تخصصها في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والمؤسَّسي للأردن الحديث في إطار تاريخ بلاد الشام خلال العهد العثمانيّ، بما فيه التاريخ المحلي المتعلق بالقرى والقصبات في القرن التاسع عشر، وكذلك تاريخه في عهد الإمارة الهاشمية (1921- 1946) كما تمثله موسوعتها الفريدة الصادرة مؤخراً في عدّة مجلَّدات، فضلاً عن عملها التوثيقي والبحثي في الوثائق الهاشمية وسجلات المحاكم الشرعية ودفاتر الطابو والسالنامات العثمانية وسجلات البلديات المحلية، وتاريخ القدس والأوقاف والتراث المقدسي، والتاريخ الحضاري والثقافي للمرأة العربيّة، والهجرة الأردنية المبكّرة إلى الأميركيتين وأوراق المهاجرين، ومصادر التاريخ العربي الحديث، ولا سيّما في إبراز دور المجلات العربية الكبرى مثل "الهلال" و"المقتطف" في مصر و"البشير" في لبنان وغيرها تطبيقياً برفد تلك المصادر برافد غنيّ من دراسة محتويات هذه المجلات لم يلتفت إليه المؤرخون العرب المحدثون بما يكفي من الاهتمام، فكان للدكتورة هند الريادة في مجالات البحث هذه، وكذلك في الإسهام بتاريخ الحركة العربية والفكر والعمل النهضوي خلال العقود الأولى من القرن العشرين وسير بعض أعلامه ومذكراتهم. وهناك في سجلّ مؤلفاتها 9 كتب أدبية قصصيّة وروائية وشعرية وتمثيلية، بينها بعض المخطوطات أو ما هو قيد النشر، إلى جانب أكثر من 77 دراسةً وبحثاً منشورة، ومئات المقالات في الصحف والمجلات الأردنية والعربية.
وليس البُعد التاريخي هنا بُعداً منفصلاً عن فضاء الإبداع الأدبي والفن التشكيلي في تجربة أ.د.هند، ولا سيّما في "اتكائها" قصصياً على التاريخ - بحسب التعبير الذي تراه الأدقّ والأوضح دلالةً على الخصوصيّة الوشيجة بين الأدب والتاريخ في تجربتها الإبداعيّة، بعيداً عن مفهوم توظيف التاريخ. وقد التفت إلى نماذج من أدبها القصصي أساطين من النقّاد الأردنيين والعرب، أبانوا طبيعة التقنية التي استخدمتها لهذا الاتكاء واستلهام قضايا التاريخ الكبرى في السياق القصصي، وفي مقدمة هؤلاء النقّاد أ.د.إحسان عباس، وأ.د.شكري عزيز الماضي، وأ.د.نبيل حداد، وغيرهم.
هذه اللمحاتُ المكثفة والمُجمَلة حول النتاج البحثي التأريخي والنتاج الإبداعي تنطوي في أبعادها على مداخل ومراحل من التكوين وأولوياته؛ اتسمت بقوّة حضور الأثر والبُعد التاريخي في تجلياتها، وكأنَّها وهي تعمل على تنمية الوعي والحسّ بالتاريخ لدى أ.د.هند وتشكِّل بالتالي معالم أساسيّة لا تخفى على عارفيها وتميِّز شخصيتها، كانت ترسم بيد القدر خريطة لمسارات مستقبل حياتها، وتبدأ هذه المسارات من تاريخ عائلتها الأكبر "النمورة" التي انتقلت من بصرى الشام واستقرت في بلدة الحصن، وهو تاريخٌ مفعمٌ بالروح الوطنيّة والقومية كان الجدّ المُثقف بقراءة الصحف العربية حريصاً عبر أحاديثه على أن يشرِّع لحفيدته هند نوافذ أوسع لتاريخ بلاد الشام وما شهده بنفسه من أحداث الحرب العالمية الأولى.
ولبعض شخصيات العائلة بإسهامها الوطني والثقافي الريادي أثر في تمثل التفاعل مع مسيرة التاريخ، ومن هذه الشخصيات: عقيل أبو الشعر المولود عام 1893، خريج روما الذي طاردته السلطات العثمانية على أثر نشره رواية "الفتاة الأرمنية في قصر يلدز"، وهو المهاجر الأردني المثقف الذي نبغَ في تأليف الروايات بلغات أجنبية عدة والتي أعادت بعضها إلى الوجود بعد طول غياب د. هند وزملاء لها تولوا ترجمتها إلى اللغة العربية. وهناك الوطني العروبي المحامي نجيب أبو الشعر (1905-1953) ابن الجدّ الشيخ سليم أبو الشعر الوجيه والزعيم المحلي صاحب المكانة الاجتماعية والتجارية الذي كان من رجال الحركة العربية بالأردن في العهد العثماني، والمحامي نجيب كان عضواً في المجلس التشريعي الأول في عهد الإمارة وأحد أقطاب المعارضة في زمن الانتداب البريطاني، وكان أيضاً من المدافعين الأشداء عن قضية فلسطين، وقد اختاره الأمير (الملك المؤسِّس) عبد الله الأوّل ابن الحسين محامياً خاصاً له.
ولا شكَّ أن تنقل عائلة أ.د.هند في أثناء طفولتها وصباها بين عدّة مدن ومناطق في وطنها، وتعرفها إلى هذه الأماكن بناسها ومعالمها وتاريخها وأحوالها وألوان الحياة فيها، جعل صورة الأردن وتطوره وقضايا مجتمعه على مختلف الصُّعُد حاضرة دوماً في وجدانها وذاكرتها ومدارات متابعتها.