القرينة

نبيل عبدالكريم
قاص أردني
عاد الكابوسُ نفسه يراود أحلام سميرة بعد انقطاع طويل؛ قطة سوداء بعينين حمراوين تصعد إلى حافة سرير أحمد، ظلّها يمتدّ على الستارة وينعكس على السقف في ضوء النوّاسة الليلية، قوائمها طويلة، وذيلها المقوّس يتأرجح مثل خُطاف. تتبادل القطة نظرة طويلة مع سميرة، وتبدو مطمئنة كأنَّها مقبلةٌ على وجبة مشروعة، وتحني رأسها جانبيّاً وتموء بصوت فيه غنج. سميرة تراقب القطة بعينين يملأهما الرعب، لكنَّها عاجزةٌ عن تحريك أطرافها، وتصيح بالقطة لكنَّ القطة تتجاهل صياحها، وتستنجد بزوجها لكنَّه لا يسمعها، تحاول أن تمدّ يدها إليه لكنَّها مشلولة. تمدُّ القطة رأسها نحو أحمد وقوائمها ثابتة فوق الحافة، وترى سميرة عنقها الطويل من خلال حواجز السرير يمتدّ إلى رأس الطفل النائم، وترى رأسها يشمّ عنقه، وتلحس بطرف لسانها الحليب المتخثر تحت ذقنه. وترى فمها ينفتح، وأنيابها تمسك بالعنق وترفعه فوق الحواجز، وترسل نظرة أخيرة إلى سميرة كأنَّها تستأذنها، وتقفز وتغادر مهرولةً والطفل يتأرجح بين قائمتيها، وظلُّ ذيلها المعقوف ينسحب خلفها.
ظلَّ هذا الكابوسُ ملازماً لمناماتها منذ أنجبت أحمد حتى بدأ يتعلم المشي. ولم يكن الكابوس ينقطع عنها إلا في الزيارات التي تقضيها في بيت عائلتها في القرية، أو في الزيارات التي تقضيها أمّها في بيتها في المدينة.
"هذي اسمها القرينة." قالت لها أمّها، وأحضرت "طاسة" نحاسية مربوطة بسلسلة من طرفيها، ووضعت فيها فحمة مشتعلة وحصاة من البخور وعرقاً من العشب الجاف، ونفخت فيها حتى أطلقت دخاناً أبيض، وبدأت ترقي الطفل في سريره وهي تتمتم بأدعية وبسملات، ثم أضافت مزيداً من حصى البخور فازدادت كثافة الدخان، ووضعت "الطاسة" على الأرض، وطلبت من ابنتها أن تخطو فوق دخانها المتصاعد سبع مرات.
شعرت سميرة بالإعياء ونزّ منها عرق كثير.
-"شو القرينة يمّه؟" سألت وهي تلهث.
-"لمّا تحبلي باثنين وتجيبي واحد بس، بصير الثاني قرينة." أجابت الأم.
كانت القرينة تختفي ما دامت الجدّة في البيت، وتعود حين تغادر. وفي المرة الأخيرة التي جاءت فيها القرينة إلى سرير أحمد كان مستيقظاً، فصاحت به سميرة: "اهرب، اهرب." وكانت تظن أنَّه لن يسمعها، لكنَّها فوجئت به يتخلص من أنيابها ويفرُّ. وكان عدوه متعثراً فكادت القطة أن تمسكه، فصاحت سميرة: "اضربها بالحجر."
فأمسك بحجر صغير وضربها به. ولم تجرؤ القطة بعد ذلك على الاقتراب منه.
في نهاية عامه الثاني، لاحظت سميرة أنَّ القطط تتجنب أحمد؛ يقطع قطعة (مرتديلّا) من ساندويتشته ويرميها في منتصف المسافة بينه وبين القطة الواقفة فوق سور الحديقة، فتمدّ القطة رأسها وتشم رائحة اللحم، وتوشك أن تقفز لكنَّها تُحجم، وتظلُّ رابضةً في مكانها متحفزة للفرار كأنَّها ترى بُعبعاً أمامها. تراقب الأم هذا التحدي بين طفلها الصغير والقطة الكبيرة. من باب المطبخ ترى ظهره واقفاً بهدوء، والقطة تحملق في وجهه بعينين ملؤهما الرعب.
في عامه الثالث صار أحمد ينصب فخاخاً للقطط؛ يضع عظام الدجاج قرب عتبة المطبخ، ويختبئ خلف الباب الموارب، وما أن تجتاز القطة العتبة حتى يغلق الباب بسرعة. لقد كان هذا الفخّ ناجحاً إلى حدّ أنَّ كثيراً من قطط الحارة فقدت أجزاءً مختلفة الطول من ذيولها.
في عامه الخامس صارت سميرة تؤنبه على قسوته نحو القطط. "حرام عليك يمّه، ربنا رح يحطّك في النار." تقول له، وتحاول أن تبعد القطط عن فخاخه المتنوعة، لكنَّه في هذه المرحلة من العمر نقل ميدان عملياته إلى خارج البيت، وكوّن مع أقرانه في الحارة عصابةً لمطاردة القطط، وصارت حاويات القمامة فخّه المفضل، ولم يكن ممكناً لسكان الحارة تمييز رائحة القطط المحترقة داخل الحاويات المملوءة بشتى أصناف النفايات. لقد جلده أبوه مرة بحزام بنطاله حين شاهده يلّوح بقطة من ذيلها ثم يطلقها كيفما اتفق في ساحة الحارة. وكانت أقل القطط حظّاً في الحياة هي تلك التي تولد في زاوية داخل أسوار الحارة.
لم يتوقف أحمد عن إيذاء القطط إلا في عامه الحادي عشر. وصار يتجاهلها تماماً أذا رآها أو رأته، وكانت تتشمم رائحته من بعيد ولا تجرؤ على الاقتراب منه، ثم صارت تظهر في طريقه فجأة، على الرصيف، أو على درج البيت، أو على باب بقالة الحارة، أو تطل برؤوسها من الحاوية. كان يثبت في مكانه حتى تفسح له قطة نحيلة الطريق، أو ينحرف عن مساره إذا تحدته قطة سمينة، أو يدير رأسه إذا حملقت فيه قطة ناعسة من فوق سور.
في عامه السادس عشر نسيت سميرة كابوسها القديم، وانشغلت عن أحمد بشؤون إخوته الثلاثة الأصغر سناً، وانتقلت العائلة من الحارة إلى شقة واسعة في حيّ جديد في ضواحي المدينة. وصارت لأحمد حجرة خاصة، فيها مرآة كبيرة معلقة على الجدار، وتحتها تسريحة تصطف عليها زجاجات عطور، ومزيلات عرق، ومشط عريض، وفرشاة شعر، وماكينة حلاقة، وشفرات ثلاثية الحواف، ومِقص صغير للشعر، وآخر للأظافر، و"جِلّ" أخضر في علبة كبيرة، ودهون أبيض في علبة مسطحة، ونظارة شمسية، ومججف كهربائي للشعر كان ملكاً لأمه قبل أن تبدأ بارتداء أغطية الرأس. ولم يسمح لها بدخول حجرته إلا لتمرير المكنسة الكهربائية على سجادتها مروراً سريعاً في يوم الجمعة. ولذلك لم تجد سميرة فرصة لملاحظة صورة القطة البيضاء التي علقها على خزانة ملابسه؛ قطة ناصعة البياض، غزيرة الشعر، قصيرة الذيل، عيناها خرزتان زرقاوان، وفمها حبة فراولة. وبعد سنة أضاف أحمد صورة لقطة سيامية نحيلة دقيقة الوجه واسعة العينين بارزة الأذنين. وأضاف بعد شهور صورة ثالثة لقطة مطهّمة، تبدو بريّة وشرسة وشديدة النزق. وحين قُبل طالباً في الجامعة، كانت القطط تملأ جدران حجرته. وفي بداية سنته الجامعية الثانية، بدأت سميرة تشم رائحة القطط كلما دخل أحمد البيت، وأخذت تعطس كلما اقترب منها، ويزداد عطاسها كلما جمعت ملابسه الداخلية المتسخة لتضعها في الغسالة، ولمحت في أكثر من مناسبة صورة لقطة تحتلّ شاشة هاتفه المحمول. وخلال ذلك، أزال أحمد كل الصور عن جدران حجرته، وأعاد طلاءها.
عاد الكابوس القديم إلى سميرة وهي في الخامسة والأربعين من عمرها، وبرغم أنَّ الكوابيس مثل الموت لا تتباين في شدّتها، إلّا أنَّ التفاصيل الجديدة في الكابوس القديم جعلته يطاردها في صحوها أكثر من نومها. صار أحمد موظفاً في شركة طيران عالمية، أنيقاً حليقاً قصير الشعر، وامتلأت خزانته بالملابس الرسمية، يرسلها إلى محلِّ غسيل الملابس، ويعود بها نظيفة مغلّفة، واشترى سيارة رياضية ببابين. وبدأ يتناول طعامه خارج البيت، ويعود فتشمّ في ملابسه روائح لا تعرف إن كانت حلوة أم كريهة.
عاد الكابوس في الليلة التي سافر فيها أحمد لأول مرة خارج البلاد؛ أحمد في سريره القديم المجاور لسريرها، نائم على ظهره بهدوء، وشفتاه ترتعشان برغم أنَّه لم يعد طفلاً، والغرفة القديمة نفسها بأثاثها ونوّاستها الصفراء وستارتها، وسميرة نفسها برغم أنَّها لم تعد ابنة الثامنة عشرة، نائمة لكنَّها مفتوحة العينين، تحملق في الستارة المسدلة خلف السرير، يعتريها القلق من قبل أن ترى الظلّ الرشيق يرتسم على الستارة، وينتشر شيئاً فشيئاً إلى أن ينكسر ويتمدّد على السقف، ثم تظهر القطة أمامها وهي تعتلي سرير أحمد؛ بيضاء رشيقة مبقعة بجُزُر شقراء، خضراء العينين. تهرّ بصوت منخفض فيفتح أحمد عينيه ويعانقها فتنزل بقائمتيها الأماميتين فوق صدره، وتلعق فمه، وتسترخي في حضنه.
- "اهرب، اهرب." تصيح سميرة.
يسمعها أحمد فيبتسم ويحمل قطته، ويغادران في ظلٍّ واحد.