كُن

ممدوح عبد الستار
قاص مصري
- أفق...
فقمتُ مذعوراً، والحقُّ أنَّي لستُ بنائم، أو مستيقظ، ولا أجزم أنَّ حالتي بين الحالتين، لكنّي كنتُ مذعوراً، فتعوذتً بصوتٍ عالٍ، وقلتُ:
- شيطان
- لا تقل شيطان
- ليس عندي غيرها، فقد أفزعتني، وكنت آمناً.
فضحك كثيراً، وتعوذتُ منه على قدر ضحكه، وتسترتُ بخوفي. مازال يضحك كثيراً. وخوفي يتجلّى واضحاً للناظرين. والحق أنَّ جوارحي قد خانتني، وشهدتْ شهادة زور عليّ، وأرغمتني على طاعته مجبراً. والعُمر واحد، والرب واحد، فتشهدتُ، وحوقلتُ كثيراً.
قديماً، شهدتُ أمّي كثيراً تقول لي، ربما لحمايتي، وربما ل..، لكنَّها يقيناً قد قالتْ:
- اجعل الغصب رضى، طأطئ للريح، تسلم.
لكنّي قد مسخت حروفها بإرادتي، فإنَّها لا توافقني، وقلت لها مازحاً: في الظاهر فقط.
- عشّ نذلاً، تموت كما يموت الأسود.
لكنّي يقيناً أريد موت الكلاب. مازال يضحك كثيراً. "اقطع عرقاً، واسترح". في نار أنا، والنار تلمُّ أخضر ويابساً. "اقطع عِرقاً، واسترح". ربما تكون ناره برداً، وضحكه هشّاً. نعم، لا بدَّ من قطع العِرق. أخاف فقط أن أنزف دمي دفعةً واحدة. ما لي أحطّ عائشة على أم الخير، وأنا النائم في الماء، والخائف من المطر. ما زال يتحداني ويضحك كثيراً. تضاءلتُ، وأخفيتُ جسدي بين ستائر خوفي. ليس هناك بدُّ إلا أن أناطحه بقرنيّ خوفي، حتى لو سال الدم بحوراً لا تروي الأرض ولا الناس. ما زال كما هو ضاحكاً. أجزم أنَّي ترددتُ وتراجعتُ عن مواجهته، ولست أعرف في وقتي هذا أنَّ الرجوع عن المواجهة فضيلة. مازال يضحك، وقد أنهى ترددي، وأمرني:
- أي أمر لن أنفذه.
- لن تهرب مني أبداً
فأشحتُ بوجهي الكريم عنه، وتسترتُ بخوفي، لكنَّه أكمل حديثه:
- سوف أمسخك، ما دمت لا تعطيني ما أريد
- أرجوك، لا تمسخني قرداً
وتحققتُ أنَّ يومي هذا هو الأربعاء وليس يوم السبت، فحمدتُ الله. فقط أخشى البلهاء والسذّج والرضّع. لقد قالت لي أمّي وهي تخبز:
( إنَّ القرد الأكبر كان قاسياً على أمّه، وكان يأكل ما تخبزه ساخناً أولاً بأول، وبقي رغيف واحد، فلم يرض أن يعطيه لأمِّه الجائعة، ومسح به مؤخرته، فغضبتْ أمّه عليه، وحاقت به دعوتها، فمُسخ قرداً ).
ضحك أكثر، ولم يتراجع عن مسخي. فقط، منحني فرصة الاختيار: قطة، كلب، ذبابة. بمجرد أن أبوح برغبتي سوف أكونها، فصمتُّ عن الكلام، حتى ملّ من انتظاري، وحاول أن يدفعني للكلام، وقال:
- كن كلباً، ذبابة، بغلاً، جحشاً.
وأنا لا أبدي اهتماماً فعليّاً
- كن كن، كن..
وأنا لا أبدي اهتماماً حتى ضجّ في وجهي
- كن فأراً
- حلم القطط كله فئران
فضحك أكثر من اللازم، وانكفأ على وجهه أو على قفاه، ولستُ أجزم أنَّ له هذا أو ذاك. وظلّ يزنّ على خراب هيئتي.. أقصد مسخها
- كن حماراً
- لا أريد أن أكون حماراً يحمل أسفاراً أو عنباً
- أتعبتني
- اتركني، ولا تمسخني
وظلّ على موقفه، وتجّهم في وجهي البشوش، حتى تساقط جلد وجهي، وانكشفت عظام جمجمتي
- كن امرأةً جميلة!
قالها بحنان بالغ، وبدأت أنفاسه تقترب من أنفاسي، وأنامله تداعب أماكن عدّة. لقد نقض عهده معي وأصبحتُ.. يا خراب هيئتي، وأدركتُ أنَّه قاب قوسين أو أدنى من أن يبرك فوقي، وأنامله تداعب أماكن عدّة، حتى أيقنتُ أنَّي أصبحتُ امرأةً جميلة، فصرختُ، وكررتُ صرخاتي لعلَّ وعسى.
وصرختُ من جديد في وجهه لاعناً:
- لستُ أهلاً لحمل أجساد الرجال، وعندي من "الأنيميا" ما يكفي لقتل كلِّ أطفال العالم وهم علقة.
بدأ يحفزني أن أبوح بأي شيء حتى ينتهي هذا الوضع، وبدأ يسدّ منافذ عينيّ وبصيرتي، ويضغط على أعصابي، حتى كدتُ أن أبوح أكثر من مرة مضطراً، فتمالكتُ، وناوشتُ نفسي: (أأكن ناراً؟)، الماء يطفيء النار، لكنى أردتُ أن أستريح، فقلتُ:
- امسخني طفلاً
- قد كنت طفلاً، فكيف تكون مرة أخرى؟
- أكون أنت
- لا يمكن
- قد سقط شرط المسوخ إذن، أريد حريتي.
- حريتك في اختيار مسخك
وبدأ يلعنني، ويلعن أمثالي المتمردين، وأدركتُ أن أبداناً مسلطة على أبدان، وزهقتُ منه، ولن يتركني، وقلت: ( لما لا أكون بيتاً لحبيبتي التي تركتني وتزوجت غيري، حتى أضمها بين جدراني ودفء أنفاسي. المهم، أن أكون بيتاً يقطنه العاشقون والمبتهلون، والمترنمون).
- أفق...
فانتابتني رجفة لم أعرف مصدرها، ربما من الشيطان، وربما من صاحبي الذي توكأتُ عليه، ومضى متعوّذاً، وقاطباً جبينه على غضب، ورذاذ دمعه يتكوّر في رواق عينيه.
- أفق
فقمتُ مذعوراً، والحق أنَّي لستُ بنائم أو مستيقظ، ولا أجزم أنَّ حالتي بين الحالتين، لكنَّي يقيناً كنتُ مذعوراً، فنظرتُ يميني، فوجدتُ الأخضر يملأ عيني، فضحكتُ. ونظرتُ يساري، فبكيتُ، وبحثتُ عن صاحبي فلم أجده، وقد كنت غافلاً، أو مخاطباً شيئاً لا أعرفه أمام فوهة قبر العائلة. فتحتُ القبر، فلم أجد عظاماً، ووجدتُ التراب قد وصل إلى السقف، فقمتُ بجرّه خارجاً، وقسمّته أكوماً. هذا أبي، وتلك أختي، وهذا جدي الأكبر. وهذا، وهذا، حتى رشحت عيني بالدموع، وفي كومة تراب أبي سقط ماؤها، وشردتُ بفكري أبحث عن صاحبي.
سمعت صلصلة، جلجلة، هسيساً ربما، فأرهفتُ سمعي، وبصري، وجوارحي، وسكنني هذا الصوت البعيد والقريب في آن. نعم أعرف هذا الصوت. لستُ متأكداً تماماً. المهم أنَّي عجنتُ كومة التراب بدمعي، ونفختُ فيه من أوجاعي، وذكرياتي، حتى اختمر، وتشكّل، فقام ينفض عن جسده التراب، وزاعقاً:
- لا تقطع الصلّة والأمل في أن تكون...
وعاد كما كان كومة تراب، وأدركتُ أنَّي قد دثرته بدثاره الأخير، كان قبل سفره بساعة بجواري، يحدثني عن الأيام الآتية بشغف.