انثيالاتُ الشعريّة في ديوان: "وما من قميصٍ يدلُّ عليَّ" للشاعرة وفاء جعبور.

إكرام العطاري
كاتبة وباحثة أردنية
إنَّ الشعريّة اكتناز اللغة بطاقات تعبيرية عالية، فتحافظ اللغة على شعريتها بالحبك اللغوي المتقن البعيد عن الإخبارية، فالشعرية تشكّل هُوية الشعر الأساسية، والمنجز المتصف بالشعرية يكتسب الخلود الأدبي.
1. شعرية العنونة:
تُعدُّ العتبات النصية أولى المحطات التي يقف أمامها المتلقي، فيحاول استكناه ما يمكن أن تضمره من إشارات توحي له بالمدلولات المضمرة، لذا كان عنوان العمل الأدبي شعرًا أو نثرًا قد حظي باهتمام النقاد؛ فهو مصطلح إجرائي ناجع في مقاربة النص الأدبي، ومفتاح أساسي يتسلح به المحلّل للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها، ويستطيع العنوان أن يوحي بتفكيك النصِّ من أجل تركيبه عبر استكناه بنياته الدلالية والرمزية، وأن يضيء ما أُشكل من النص وغمض، (البستاني، 2002: ص178) ليتمكن المتلقي من الوصول إلى لذة القراءة.
إنَّ عنوان المجموعة الشعريّة "مفتاح تقني يجس به السيميولوجي نبض النص وتجاعيده، وترسباته البنيوية، وتضاريسه التركيبية على المستويين الرمزي والدلالي، كما أنَّه يتبوأ مكان الصدارة في الغلاف الخارجي، ليكون هو المسيطر الأول على المتلقي، فهو رأس العتبات، وعليه مدار التحليل، إذ لا ولوج للنص إلا من خلاله،" (شبانة، 2014: ص 84) فهو بوصلة القارئ الحصيف التي تمكنه من التقدم إلى أعماق العمل الأدبي باقتدار، وفي ديوان "وما من قميص يدلُّ عليّ" للشاعرة وفاء جعبور نلمح براعة في انتقاء الغلاف المناسب مع عنوان الديوان؛ إذ جاء الغلافُ مساحةً من بياض توحي بفضاء مفتوح، يمثّل المساحات التي تحيط الإنسان، مكانية بمحيطه، وزمانية بآماله وغاياته المعلقة في فضاءات المُنتظر، وفي زاويته اليسرى قطعة من قميص ملطخ بفوضى الألوان، فوضى توحي بضجيج يغمر الذات الإنسانية نتيجة العشوائية اللونية التي تشكّلت بفعل ما يراود النفس من آمال يبعثرها الواقع، ويتسق هذا الإيحاء الفني مع العنوان في تجذير حالة الضياع التي تغمر الذات الإنسانية خلال مجابهتها للواقع، إذ يكون طريقها محفوفًا بالمخاطر، لذا جعلت القميص/ الذات مضرجًا بفوضى الألوان/ الصراعات.
بالانتقال إلى التكوين الداخلي للديوان نجد علامات سيميائية جديدة توحي برسائل مضمرة حملتها عناوين القصائد بالتعاضد مع سائر مكونات الديوان، بدءًا من الإهداء مرورًا بالتصديرات التي احتلت مساحات نصية محدّدة، انتهاءً بالثلاثيات، فتعمر هذه المكونات خيط الشعرية الناظم للديوان، إذ صدّرت الشاعرة الديوان بجملة "شيء،، اسمه الشعر" ولعلَّ الجملة توحي بالإنكار لكل مألوف، إنكارٌ تحقّق بفعل الصراعات التي تدفع الذات إلى فقدان ثقتها بحقيقة ما يحيطها، فهناك أمرٌ ما اختزلته الذات الشاعرة في تشييء الشعر، لتعزّز هذه الحالة بإلماعة أولى جسدها التساؤل في عنوان "ما الشعر؟!" فتتحفز لدى المتلقي رغبة الاستزادة، إذ يضفي هذا التيه على هذه العتبات شعرية جاذبة، تبسط ألقها على سائر المكونات النصية، فيغدو المتلقي أسير هذه الشعرية التي تمد يدها إلى كل تائه علّها تُنجيه.
تطالعنا القصيدة الأولى بتساؤل بسيط يوقعنا في تيه البحث عن الإجابة، "ما الشعر؟!" عنوان مغمور بدهشة السؤال ليباغتنا النص بلا متوقع الإجابة، فالشعر طمأنينة الانتصار إثر الاستنزاف، فتصوّب هذه الإجابة اللامتوقعة حول ماهية الشعر أسهمها صوب الذات الإنسانية التي أرهقتها مجازفات الكون، فالذات تجابه حروب الحياة، وتتمرد على طعناتها، وتجبر نفسها على الانتصار، وتكثّف الذات الشاعرة المعنى عبر المشهد الأسطوري، إذ رغم كل هذه المعاناة تنبعث الذات منتفضة كالعنقاء من رماد نيران الأزمات التي لم تستطع أن تثنيها عن غايتها:
"هو أن تمر على حروبك كلها
وتعود منتصرًا
وأنت قتيل
وربيب نار
يشتهيك رمادها
كم أحرقتك
وليس فيك دليل! (جعبور: ص 7)
حمل عنوان "فرس محملة بالعتاب" صورة جمالية للفرس الجموح التي لا تُعنى إلا بالبطولة، لتأتي أمامنا مهزومة تعاتب كل من حولها، ولعلَّ هذه الصورة تتجذر أكثر حين صدرت الشاعرة القصيدة بالتصدير اللافت (ما رواه يوسف بعد خروجه من الجب)، إذ بيّنت أنَّ البوح هنا سينبئ بما رواه يوسف إثر خروجه من الجبّ/ حُلكة التجربة، لتحيلنا هذه الإشارة إلى أنَّ الذات الإنسانيّة هنا تحمل معاناة كبيرة قاربتها الشاعرة بمعاناة النبي يوسف إثر خروجه من الجب.
2. شعريّةُ الحضور والغياب؛ قيامةٌ فينيقيّةٌ وبوحٌ يوسفيّ:
تحمل الشاعرة في جعبتها بوحًا لا نهائيًّا، لكنَّها ترفض الرتابة، فتعيد إنتاج المعنى مستعينة بحصيلة فكرية قارة في الذهن، موظفة ما تشرّبته ثقافتها من قصص ومرويات بعد صهرها وصبها في قالب جديد يخدم المعنى الذي تريد بآليات مخالفة للمألوف، إذ يرخي التناص سدوله على سطوة البوح، والتناص امتدادٌ لنصوص سابقة تعيد إنتاج المعنى في قوالب مخاتلة، تخفي الغاية التي يضمرها الشاعر، وتحفّز المتلقي على الشراكة عبر إعادة الإنتاج وصولًا إلى الغايات القارة في أعماق النص.
وفي نصِّ "وما من قميص" تحضرنا إشارات من قصة يوسف النبي، فالقميص/ الأنا له ارتباط بقصة النبي يوسف، ويحيل إلى البحث عن الذات/ النجاة، فأثثت الشاعرة لهذا المسعى عبر العتبة النصية المستمدة من النص الديني، فالبحث عن النبوءة/ الغاية/ الحلم/ الحياة، بأكمل صورها، فيأتي النص بوحًا يوسفيًّا، تبثُّ فيه الشاعرة شكواها ليوسف عله ينجدها، وهذا القلب لصورة التناص غمر النص بالمفاجأة، فبدل أن يبث يوسف شكواه كان منصتًا لبلاغة الجرح الأنثوي "أحقًا رأيت مع الحلم وجهي.." إذ يوجه الضمير مسار التساؤل نحو يوسف دون سعيٍ للإجابة بقدر السعي لإثبات ألم المعاناة:
"أريد النبوءة كاملة
يا شقي
أريد النبوءة في شكلها الأبجدي
أحقًا رأيت مع الحلم وجهي
وآنست لي نرجسًا،،
في المساء الشهيّ" (ص 51)
ينتقل البوح الشعري إلى إشارة يوسفية أخرى عززت معمار النص، وأبلغت في مقصد الشاعرة إذ تحيل الحقول الدلالية "بئر الكلام، ذئب عوى، يعقوب، بياض، مقلة الحرف، قميص،" إلى تعميق التناص مع قصة يوسف الصديق، لكن البئر الذي سقطت فيه الذات، هو بئر البوح، فحلم الشاعرة غرق في بئر الكلام، محاطًا بذئب/ سلطة تحاول أن تحجب عنها وجودها، فتأتي بصورة مخاتلة للحزن، إذ يتوسد/ امتدادًا وتعمقًا يعقوب/ الحزن في القلب، ليكون حزنًا بنكهة يعقوبية تؤمن بانبلاج الأمل، رغم البياض/ العجز الذي اعترى الحرف/ الشعر/ الغاية، دون أن تتمكن من إيجاد القميص الذي سيرد البصيرة إلى بوحها الشعريّ، ويزيل سطوة الألم عن نفسها التواقة، في إشارة إلى ضرورة البحث عن الذات، ومقاومة الأزمات التي تعيق الإنسان عن تحقيق غايته:
"أضاء دمي فوق بئر الكلام
ولا حرف لي
غير ذئب غَوِيْ
توسّد يعقوب قلبي
بكاءً
وبلّل حزني
بحبرٍ ندي
بياض
على مقلة الحرف غطّى
وما من قميصٍ
يدلُّ عليّ" (ص 52)
ثم تبدأ ملامح الصراع بالتجلي، وترتفع نبرة الاعتراف، علها تغترف الأمل، فالأنا المكلومة هي من وطنت نفسها في جراحات الحرف المقاوم لكل تيارات الاستبداد، لتجد نفسها أسيرة الرؤيا المنتظرة، فهي تبحث عن انفراج صوفي لرغباتها اليوسفية، ولعل في هذا المطمع ملمح مفارقة، فالصوفي زاهد لا يشتهي، لكنَّها تمارس طقوس التصوف في سبيل الوصول:
"أنا من كسرت زجاج
المعاني
ليسقط في جرحها
الحرف حيّ
...
كصوفية
شفّ قلبي اشتهاء
تجلى الغيابُ
فكنت الجليّ" (ص53)
لن تملَّ الذات الثائرة من المقاومة، ويبدو ذلك في مشهد الختام، إذ تنهي الشاعرة هذا الصراع باستعادة اللازمة "أريد النبوءة كاملةً يا شقيّ" موحية باقترابها من غايتها، فهي الآن تبحث في الكينونة الذاتية، وترفض المسير في عوالم الوهم، مما يوحي بالتغيير المنتظر الذي ينتشل النفس من غياهب الوهم إلى نور البصيرة:
"أريد النبوءة كاملة يا شقي
لأعرف ما كنته.. أو أكون
وحتام أبقى
على الوهم أمشي
بجرحي الطريّ!" (ص54)
وفي قصيدة "أبواب" تحيلنا الشاعرة إلى مشهد التمني، تمنٍ لن يتحقق، فالشاعرة شكلت النسق الشعري بحرف الشرط لو؛ ليظهر أن الغاية صعبة المنال، فالأبواب هنا مؤصدة، ولا مجال للتجاوز إلا عبر البوح المخاتل، فأكدت لو حتمية انعدام التحقق، حتى عندما بحثت عن ريح يوسف، كان التناص مجبولًا بالمفارقة، فيعقوب ارتد له البصر بريح يوسف، أمَّا هنا فالريح لم تتمكن من فعل أي شيء، لتشيع حالة الإنكار والرفض لكل ما هو محيط بها، ثم تأتي الإجابة مغايرة لكل متوقع حين يتحقّق الحلم بعد فوات أوان المتعة، حين تشيخ الأشجار/ الأحلام:
"لو أنَّ للأبواب صوتًا
أو بكاءً
في الغياب يدلنا
لو أنَّ فيها ريح يوسف
إذ تهب
على مسافة جرحنا
ما كانت الأبواب يوما
ضدنا
لكنَّها الأشجار
حين تشيخ
تركض في انسجام
نحونا"! (ص23)
3. شعريّةُ المراوغة:
تُعدُّ المفارقة ركنًا مكينًا من أركان العمل الشعري المخاتل، فهي "انحراف لغوي يؤدي بالبنية إلى أن تكون مراوغة وغير مستقرة ومتعددة الدلالات، وهي بهذا المعنى تمنح القارئ صلاحيات أوسع للتصرف وفق وعيه بحجم المفارقة،" (شبانة، 2002: ص 46) فيحصر الأدلة ويعلّل الموجودات بحثًا عن المعنى المضمر تلافيًا للوقوع ضحية للمفارقة بفعل سود الفهم.
برعت الشاعرة في بثِّ مفارقاتها في النص، مفارقات توحي بالبساطة لتضمر عمق المعنى، وبراعة الحبك، والحاجة إلى متلقٍ قادح الذهن، قادر على تتبع تجليات المفارقة أينما حلت في نصوصها الممزوجة بنخب التشكيل الفني الذي يوقفنا أمام لوحات فنية يعجز الرسام عن ابتكارها، وتتجلى اللوحة الأولى في بوح يضمر التعطش للأمل، إذ جعلت الشاعرة من الماء/ الخصب فكرة شحيحة:
"الماء في جسدي
يعنون فكرة
ستظل تأكلني
وتمطر شحها" (ص 18)
ينشج البوح في "ناي القصيدة؛" إذ تقدم لنا الشاعرة مفارقة لفظية أفقدت الناي ألحانه، وحرمته من رجع الصدى رامية إلى انعدام قطف ثمار الإنجاز مضمرة تلاشي الحلم، ثم تأتي بنية الهشاشة بكل ما فيها من ضعف لتكسر هذه الذات الحالمة، وتعود بصورة الصوفي البائس الذي يبذل كل ما في وسعه في سبيل غايته، فيعود مخذولاً، أمَّا العاشقون/ الحالمون فقد هموا بالوضوء في إشارة إلى التحرك صوب الحلم، لكن خطواتهم فقدت بوصلتها فكانت باطلة، فتباغتنا المفارقة اللفظية إذ جعلت الندى فاقدًا للطهر فنسفت الأحلام التي تمنوا تحققها، لتتجلى شعرية المفارقة اللفظية على النص الشعري غيثًا يرفع منسوب الجمال، ويغمر المتلقي لذة الوصول إلى الغاية المضمرة:
"لا صوت في ناي القصيدة أو صدى
وهشاشة الأشياء تكسرني
كصوفي
تغشاه الحنين توحدا
فتنهدا
لا صوت في ناي القصيدة أو صدى
والعاشقون توضّؤوا
بالياسمين
فغرّهم
طُهر الندى" (ص59)
وتظهر المفارقة في قصيدة "تشرين" جلية، فالشاعرة تبوح لتشرين بكل ما يعتور النفس من صراعات، وتشرين العاصف الماطر البارد عليه أن يلملم أشتات الجراح، ويجمع ما انفرط من أحلام عله يعينها في إعلان قيامتها من جديد، فيغمر أحلامها بالدفء، ويجلي عنها وهم الضياع، ويرشدها للحقيقة، بهذه الانثيالات وظّفت الشاعرة المفارقة اللفظية في هذا المشهد الشعري الذي يستطيع القارئ الحصيف أن يرى تفاصيله المدهشة:
"تشرين دثّرني
فنصف حقيقتي وهم
وما يبقى.. يحاصرني
كقافية عنيدة" (ص72)
وفي قصيدة "مسافة" تسقط الشاعرة المسافات، وتختزلها في بوح مفارقي؛ فهي عطشة للقاء الحبيب، لكن الشوق له تبلل أمنيات اللقاء واختزال المسافات، فتطلب منه الرفق والتمهل بهذا الحب، لتحوّل سكون الغيم صهيلاً حين اللقاء، في إشارة إلى الالتحام والتماهي:
"عطش أنا.. والشوق فيك مبلل
فارفق بغيم في دروبك يصهل" (ص99)
لنجد بعد تتبع بعض النماذج أنَّ المفارقة وتحديدًا اللفظية أسهمت في إعمار كثافة الشعرية، وخلقت بنى مراوغة تحتاج متلقيًّا ذكيًّا، لديه وعي بالمفارقة، وقدرة على إنتاج النص وبلوغ الدلالة دون أن يسقط في شراك الغموض وسوء الفهم.
4. سطوةُ الأنثى؛ شعريّةُ التصوير:
‌أ. قصيدة "مخاض" بين أنوثة المعنى وقهر التجربة:
امتازت نصوصُ هذا الديوان بسمت أنثوي خاص، أضمر في كوامنه رافدًا شعريًّا أفضت فيه الأنوثة جماليتها على المشهد الشعري، فغدت القصيدة لوحةً فنيّةً تحمل تفاصيل توحي بهمٍّ أنثويٍّ خاصٍ مغمورٍ بشعرية مشهد البوح؛ وفي قصيدة "مخاض" تتجلّى جماليات التصوير بلمسة استعارتها الشاعرة من كينونة الأنثى، إذ وسمت بالمخاض الذي يحيلنا إلى آلام تكابدها المرأة جسديًّا حين ممارستها للأمومة، لكن الشاعرة تأخذنا إلى أفق أبعد، إذ يضمر العنوان تلك الآلام التي تصيب الإنسان خلال عبوره تحديات الحياة، فجعلت مروره بما فيها من تحديات مخاضًا يحيل إلى انبلاج الأمل وتحقيق الغاية.
ثم تشرع الشاعرة بالتعريف بالمخاض الخاص بها، "هو يوم ميلادي إذن؛" فنلمح بـ "إذن" نبرة التسليم دون قناعة بما ترميه السماء عليها من أقدار، ثم تبيّن أنَّ الميلاد الذي قصدته ميلاد القصيدة/ الغاية، فتثبت أنَّ النصَّ الشعريَّ لا يتحقّق إلا بالألم والمعاناة، ثم تبسط بين يدي النص حقولاً دلالية تؤكد أنَّ غايتها قصيدتها/ رسالتها التي تسعى إلى تحقيقها، فكان هذا اليوم امتدادًا لذكرياتها/ المنسي، وآمالها/ الغيبي، وبساطتها/ العادي، وتيهها/ الجدلي، ومقدسها/ المأثور فوق لحظات ميلاد القصيدة، فنجد أنَّ هذه التفاصيل تضفي على المعنى عمقًا وتحديدًا للهم الذي تعالجه القصيدة، عبر إسقاطه على أحد أنماط المعاناة الجسدية التي تعيشها المرأة في ظروف خاصة، فوجّهت هذا المخاض لتصوير المعاناة الإنسانية في تحقيق الذات:
"هو يوم ميلادي إذن
هو يوم ميلاد القصيدة في دمي
هو يومي المنسي، والغيبي
والعاديّ، والجدليّ
والمأثور فوق شهادة الميلاد
أزرق
مثل خاصرة الكلام
وغامضٌ" (ص69)
في الشريحة الثانية يمتدُّ البوح المستمد من تفاصيل الأنوثة، فيغدو لتفتق هذا المخاض معنى آخر مرتبط بالأمومة "حين أوجعها المخاض،" فتغدو الذات صاحبة الرسالة والهم الإنساني ارتدادًا لهذا السحاب/ الهم الجمعي الذي تحمل عاتقه الذات الإنسانية سعيًا للتغيير:
"هو عطر أمي
حين أوجعها المخاض
فأمسكت
روحي بدفء وشاحها
وبكت
لأني لم أكن
غير ارتداد سحابها" (ص70)
ثم ترفع الشاعرة من حدة الخطاب الأنثوي، فتأخذنا في هذه الشريحة إلى تعريف آخر لمخاضها الفكري، تبين سطوته على محيطها، إذ جعلت هذه الأحلام صافية نقية كزهرة الزنبق التي شاع في التراث تدليلها على النقاء، فلا يمكن للأنثوي إلا أن يكون نقيًا صافيًا، لتضفي سمت الأنثوية المحض المتعالي في تحيّز تجليه صورة النرجس في الخطاب الأنثوي لتغدو الأنثى متعصبة متمسكة بكل أنثوي، وهو تمسك ذو امتداد حتى بعد الوت:
"هو زنبق الأحلام
نرجسة المؤنث في الكلام
وما روته الأمهات
إذا استوين على الغمام" (ص70)
وتعزّز الشاعرة هذه الإسقاطات عبر المقطع الأخير من النص الشعري؛ إذ أثبتت علاقة هذا المخاض بالهم الإنساني والذات، ودور القصيدة بالبوح به، فتغدو التفاصيل التي أتت بها الشاعرة في النص معززًا لغايتها في تجسيد الهمِّ الإنساني عمومًا والهمِّ الأنثوي بخصوصيته ليبقى لصيقًا بها، لأنَّها تحمل رسالة تسعى لتحقيقها:
"هو الأنا
في حزنه المخبوء
في جسد القصيدة
وأنا
وريثته الوحيدة" (ص70)
ب‌. قصيدةُ نساء؛ خطابُ التمرد، وشعريّةُ التصوير:
في قصيدة نساء تتحقق شعرية الخطاب الأنثوي جماليًّا، إذ توجّه الشاعرة خطابها للآخر موضحة ماهية الأنثى عبر نبرة جماعية تُجلي ما تكابده النساء في مسيرتهن، إذ توظف الشاعرة ضمير المتكلم للجماعة متحدثة باسم النساء، مبينة كيف يكابرن وجع المحيط اليومي، وكيف يسعيْن إلى غاياتهن رغم شعورهن باقتراب النهاية/ اليأس، إذ تغدو القيامة مشتهاة، وكيف يحيَيْن على بقايا شوق لحبيب أو حلم تبدّد أو مكان لم يبق فيه إلا الجراح، فتبدو نبرة الصوت حزينة رغم مكابرتها، ثم تغلق الشاعرة هذه الشريحة بالتساؤل المغموس بالوجع، محاولة الهرب من آلام الواقع، مسقطة إيّاها على امتداد الجدات رامية إلى القيود السلطوية الأسرية أو المجتمعية التي قيدت حرية المرأة، فالتساؤل لا يبحث عن إجابة بقدر سعيه التهرب من مرارة الواقع:
"ونحن النساء
نكابر أوجاعنا في المساء
نصلي.. كأنَّ القيامة في روحنا مُشتهاة
ونقتات مما تبقى من الشوق
والوجع العاطفي
ألسنا امتدادًا لجداتنا الطيبات؟" (ص 75)
ثم تنتقل الشاعرة إلى صورة أخرى من صور البوح جعلت النساء فيه محور البعد، ومحور القرب، ومحور الهداية، إذ تعكس علاقة المرأة بالرجل؛ فعندما صورت مشهد البعد استعانت بالصمت رامية إلى العزلة المُتَفَتِّقَةِ عن الألم الذي يسببه النرجسي/ الرجل لأذيتها موهِمًا بالحب! لكن إسقاطات المجتمع تفرض عليها الاستسلام لتكون موطن راحة له رغم استبداده تجاهها:
"ونحن البعيدات جدًّا
وفي صمتنا
يرسم النرجسي كلاما
لآلهة الضوء فينا
وفي بوحنا
يستريح المحارب
بعد الشتات" (ص76)
لتغلق الشاعرةُ تشكيلاتِ البوح بصورة البعد والغياب، فالإشراقُ موهومٌ يضمر التعب والمشقة، لكنَّه صراعٌ يفرض على المرأة أن تكون ملاذ النجاة:
"ونحن المضيئات
والمتعبات
نمد لكل الذين استعاروا الحياة
لينجوا من الموتِ
حبلَ النجاة" (ص77)
يتجلى التشكيل الفني في صورة أخرى من صور الولاء للحب، فالشاعرة تخط رسالة تبين فوارق العطاء بين المرأة المحبة والرجل الشرقي المجبول على القسوة واللامبالاة، فتعلي صورة المرأة وهي تزيح الغيم/ الهم/ الألم عن ذات الحبيب من جماليات الحب، ثم تطلب منه أن يكون وفيًّا لهذا البذل اشتباكًا، وتناغمًا، ونلحظ أنَّ النسق النصي بُني على حضور فعل الأمر والأفعال التي اكتست معناه "لا تلمها، فاحمل، امنح، اشتبك، اغرف" مما خلق فاعلية للحاجة التي تلح عليها الذات في أن يكون الحب عطاء تشاركيًّا:
"لا تلمها
إن أزاحت غيمة عن باب صدرك
كي ترد الملح عن شباكها
فاحمل سلال الورد
وامنحها الأغاني
واشتبك بجمالها
واغرف حنينك للوجود
بضحكة الألوان منها" (ص28)
- المصادر والمراجع:
البستاني، بشرى، شعرية العنونة: أسميك بحرًا... أسمّي يدي الرمل أنموذجًا، آداب الرافدين، ع 35، 2002،
جعبور، وفاء، وما من قميص يدلّ عليّ، 2021: خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمان.
شبانة، ناصر، المفارقة في الشعر العربي الحديث، ط1، 2002: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
شبانة، ناصر يوسف، العتبات النصية في الشعر الأردني، المجلة الأردنية في اللغة العربية وآدابها، مج10، ع1، 2014.