"غالب هلسا" والتناصّ

د. سلطان الزغول
كاتب وباحث أردني

في هذه القراءة سأقدم مشهدين دالّين، أولهما من الرواية الأولى لغالب هلسا، وهي رواية "الضحك"، وثانيهما من روايته "ثلاثة وجوه لبغداد"، وما يجمع المشهدين دلالاتهما الواسعة التي تشير إلى ملامح أساسيّة في معمار غالب هلسا الروائي، واتكائه على التناصّ، ونهله من الذاكرة في عمله المختلف والمتميز.
الرحلة إلى الجبال في رواية" الضحك".
يعود الساردُ الكاتبُ في رواية "الضحك" إلى ذكرياته الشخصيّة في القرية، حين كان طفلًا في الثالثة عشر من عمره: "في تلك القرية الجبلية أخذت الشكوك تراودني: هل يوجد إله حقًا؟... ولم تكن الكتب التي أقرأها، بعض أعداد قديمة من مجلتي الهلال والمقتطف، تزيدني إلا ارتباكًا، وأحاديث من حولي كانت تضخّم شكوكي. عند العصر كنت أذهب لأزور القسيس، ففي مثل هذه الساعة يجتمع بعض رجال القرية عنده"( ).
تتساءل "ورنوك": لماذا نقدّر الذاكرة هذا التقدير العالي؟ ما وظيفتها؟ ليس في حياتنا العملية، حيث يبدو واضحا أنَّنا لا نستطيع البقاء دونها، بل في حياة المخيلة، وفي الفن، وفوق كلّ شيء في تقديرنا لأنفسنا. فقد انشغل الفلاسفة التجريبيون منذ القرن السابع عشر بدراسة الذاكرة واختبار تجربة التذكر، فبحثوا في مكوّنات هذه التجربة، وكيفية استخلاص المعرفة منها. وقد أدرك الفلاسفة أنّهم دونَ إضاءة العلاقة بين التجربة التي يمرّ بها الشخص في الحاضر، وتلك التي مرّ بها في الماضي سيعجزون عن تقديم نظرية في الذاكرة تميّز بشكل حاسم بينها وبين المخيلة، رغم التقارب بين الاثنتين غالبًا. وقد حاول "جون لوك" نهاية القرن السابع عشر من خلال "مقال في الفهم البشري" أن يكيّف الفلسفة للحسّ الفطري. وهو يرى أنّ عقل الإنسان ضيق، لأنّه لا يستطيع وضع أفكار متعددة تحت النظر أو التأمل في وقت واحد، لذلك كان من الضروري أن يمتلك مستودعًا يلقي فيه تلك الأفكار التي يمكن أن تنفعه في وقت آخر. لكنَّنا لا نتذكّر كلّ شيء متى شئنا، يقول "لوك": "أحيانا تتلاشى الأفكار في العقل بسرعة، وتغيب عن الفهم تمامًا، وما تتركه من آثار لخطواتها أو رموز دالة عليها لا يزيد على ما تتركه الظلال وهي تطير فوق حقول القمح". أمَّا "هنري بيرجسون" فقد عدّ الذاكرة نقطة تداخل بين كيانين لا يمكن قياسهما بالطريقة نفسها أبدًا، فالذاكرة تؤدي وظيفتها على أساس أنَّها جسرٌ بين عالم العلم المحدّد والعالم الروحي الذي نعيه بالحدس فقط، وليس بوسعنا التعبير عن حقائقه بلغة دقيقة. وهو يرى أنّ إدراكنا للعالم، الإدراك الذي نحاول أن نعبّر عنه بدقة من خلال اللغة، هو ظاهرة فسيولوجية، إلا أنّ إدراك العالم هذا، رغم أنّه فسيولوجي، يكون مشرّبًا بالذاكرة( ).
تقول "إليزابيث انسكومب": الذاكرة ليست ببساطة معرفة الماضي، إنَّها معرفةٌ سببُها الماضي. ويؤكد "توماس ريد" أنّ الذاكرة نوعٌ من المعرفة. لذلك فإنَّنا نحتاج لكي نسيطر على العالم، ونشقّ طريقنا فيه، إن لم نقل نَصِفه، إلى أن تتوافر لدينا الذاكرة. أي أن نمتلك المعرفة التي تؤمّنها هذه الذاكرة. فشخصية الإنسان هي سلسلة التجارب والمواقف والعواطف التي تدخل في خلق شخص ما، وهي تتكون من شظايا صغيرة. وهذه الذات المكوّنة من شظايا يمكن أن تُمنح الوحدة من خلال إعادة عيش الماضي في الحاضر( ).
إنَّ التساؤلات التي يطلقها السارد المتوحّد بالكاتب، والحيرة التي عاشها في مرحلة الطفولة، قد مهّدت لبناء موقفه الفكري من العالم. لم تكن تساؤلاته تجد من يُشبعها، فالقسيس يشنّ حملة عنيفة على الملحدين، لكنّ هجومه يتركّز على نظرية التطوّر التي ينسبها إلى "فولتير"، ما يشي بجهل مطبق وتهافت أي حوار من الأساس. "كنت في تلك السن أفتقد حسّ الفكاهة، ولذا كانت هذه المناقشات تملأني بالغيظ لما تحويه من أخطاء تاريخيّة. وأخذت القرية تبعث الضجر في نفسي، ذلك الضجر الذي جعلني أنظر بعين جديدة إلى الجبال البعيدة. كانت تبدو من بعيد شفافة نقية كأنَّها مصنوعةٌ من ضباب أزرق. وفكّرت بغموض: خلفها تكمن الأحلام والأساطير"( ).
ثم يقوم برحلة إلى الجبال، ممنّيًا نفسه أن يصل إلى أعلى القمم المطلّة على الوادي: "قلت لنفسي: سأغرق بعد قليل في ذلك الصفاء. وسأجد الشعر الذي مات في القرية"( ). ويمضي عبر مسيرة طويلة يصعد سفح الجبل، وكلما شعر بأنَّه اقترب من القمة ازدادت بعدًا وشموخًا، لكنَّه يصمّم على الوصول إلى القمة رغم ارتفاع الجبل، ورغم الخوف الذي أخذ يُنشب مخالبه في نفسه، صار يشعر بوجود شخص يلاحقه، "كان يبدو كضمير اجتماعي يودّ أن يعيدني إلى الحياة العادية المسئمة"( ). وخلال صعوده الصعب لم يكن يجد أي آثار إنسانية، كطريق تتلوّى بين الصخور، أو بقايا طعام، أو آثار نار، كل ما شاهده بعض الزواحف، أو أعشاب نحيلة السوق في الشقوق المظلمة. ثم نظر خلفه:
"بدت القريةُ جميلةً وأنيقةً كأنَّها مصنوعةٌ من ورقٍ مقوّى ناصع البياض، تشبه القرى التي نشاهدها على صفحات التقاويم السنوية. كان ذلك مخيّبا إلى أقصى حدّ. لم أعرف أنَّني اقتربت من القمة إلا عندما وجدت نفسي أقف فوقها... كنت أقف على قمة العالم. كل شيء حولي كان ينحدر متراجعًا. إلى الغرب كان الغور: انحدار جبلي سحيق يزيد على الستين كيلومترًا حتى يصل إلى الوادي الذي يشقّه نهر الأردن. كان النهر أمامي يسير متعرّجًا وسط خضرة ساطعة حتى يصبّ في البحر الميت الذي يشبه مرآة صقيلة تعكس أشعة الشمس المُعمية... الطرف الآخر من الوادي كان يأخذ في ارتفاع متناسق على قمّته تبدو القدس، كان بإمكاني أن أرى شوارع العيزرية... وأحسست بشكل ما أنَّني على وشك تحقيق حلم السفر الذي كان يلحّ عليّ باستمرار. بدت لي المدن والقرى في الجانب الآخر من الوادي كأنَّما انبعثت لتوّها من محيط أزرق مشمس، وأنَّها بانتظار القادم من بعيد. كنت متأكدًا أنَّني إذا ابتعدت عن قريتي بعدًا كافيًا فإنَّني سوف أجد ذلك اليقين الذي أبحث عنه، ذلك الفردوس الذي أخرجتني منه شكوكي وانتظاري لعلامة، وتحوّلت حياتي بعده إلى محاولات مستمرة يائسة لاستعادة ذلك اليقين"( ).
يحاول هلسا أن يفهم مآلات حياته من خلال استرجاع هذه الرحلة، ووضعها في سياق تجربته الغنية خارج القرية، والممتلئة بالخيبات والهزائم والمنعطفات الفكرية والسياسية والاجتماعية، فيصل إلى أنَّ الجنة التي كان يبحث عنها في الخارج هي قريته نفسها. حين تأمل القرية من قمة الجبل أدرك جمالها الخارجي، وحين يتأملها في زمن السرد، وهو موجود في فضاء قصيّ عنها في القاهرة، يجد أنّه خرج من جنّتها مبتعدًا عنها باحثًا عن اليقين، لكن حياته تحوّلت "إلى محاولات مستمرة يائسة لاستعادة ذلك اليقين"، لاستعادة القرية نفسها التي فرّ منها.
هذه النظرة الشاعرية للجبال والسرّ الذي يناله من يخترقها صعودًا، ثم قيامه بالفعل بهذه الرحلة المرهقة التي حقّقت له صفاء منقطع النظير تتناصّ بشكل واضح مع تجربة "نيتشه" في رحلته الجبلية للحصول على الحكمة والمعرفة خلال كتابه الشهير "هكذا تكلّم زرادشت"( ). ويبلغ التماهي بين الرحلتين مداه في تأمله الجمالي لتفاصيل المكان: "كان المنظر في كلّ لحظة يتفتّق عن تفاصيل مدهشة. وكلما أدمت النظر بدا أشدّ حيوية وفتنة"( )، وفي شعوره بالقوة الخارقة: "ازددت أنا إحساسًا بالقوة والثقة... أحسست بأنَّ جسدي أصبح ذا قدرات أسطورية؛ أنني أستطيع أن أصل إلى الجانب المقابل من الوادي بقفزة واحدة. بدا لي أنّ الطيران ممكن. التحليق في السماء الصافية إلى ذلك الجانب الآخر من الوادي الآسر... فكرت أنَّني سيّد العالم، أملك الإرادة، وجسدي وجميع الأشياء التي تحتي سوف تطيع"( ).
لكنَّه سرعان ما يتمايز عن تجربة "نيتشه"، ويفقد الإحساس بالقوة الخارقة، عندما يستحضر الموت، وما يرتبط به من خوف وكآبة، من خلال استعادة مشهد يظهر فيه الهيكل العظمي لعمّه: "رأيت لحيته الكبيرة المستديرة البيضاء ثم ذلك الهيكل العظمي. أشار الحفّار إليه وقال: بقايا المرحوم... كل ذلك مرّ في لحظة وعبر مخلّفًا إحساسًا بالخوف... ثم اكتسى المنظر كلّه بالكآبة والخوف"( ). ثم يدرك الحقيقة الواقعة، حقيقة ضعف الإنسان، فتنتابه مشاعر متناقضة تنتهي بنوبة بكاء: "وفاجأتني محدودية جسدي. إنَّني مجرد هذه الأطراف الضئيلة التي تنتهي عند حذائي. وأخذ شيء كالضحك يثقل صدري ويتحجّر في حلقي، يكاد يمنع تنفّسي. خفت أن أضحك وحدي في هذا الخلاء. ولم يكن ضحكًا. إذ انخرطت في البكاء"( ).
ولعلّ عنوان الرواية يختمر في هذا المشهد، فهو يعبّر عن الإنسان الذي يضحك حين يكون في قمة مأساته، الضحك مقابل البكاء وبديلاً عنه. ثم يؤكّد مركزية هذا المشهد الاستعادي من ذكريات القرية حين يضيف: "ما زلت أرى ذلك الطفل مقرفصًا على الجبل، مستغرقًا في البكاء. أراه من مختلف الزوايا، من سفح الجبل يبدو كشاهد قبر. من الجوّ كطائر حطّ ليستريح، من قمة جبل آخر كتلة ضئيلة مرتعشة وسط شفافية زرقاء. حلمت مرة أنّ قدمه انزلقت فهوى. صحوت مرعوبًا وأنا أراه يرقد داميًا ممزق الثياب في قاع العالم"( ).
تُختزن البيانات المتضمّنة في النصّ، أو التي تدور في فلكه في الذاكرة. وتكمن المشكلة في معرفة أنماط البيانات التي يُحتفظ بها في الذاكرة، وكيف ترتبط هذه العملية بفهم النصّ؛ ما الذي يحدث للمعلومات المختزنة في الذاكرة؟ ثم ما الذي نتذكّره من النصّ بعد سماعه أو قراءته؟ يلعب السياق الانفعالي أو العاطفي للنصّ دورًا ما، فقد نغتبط أو نغتاظ مما نسمع أو نقرأ، لكن المهم في تلقي النصّ هو السياق الإدراكي( ). ولقد أدرك هلسا الرسالة المعرفية لنصّ "نيتشه" ونمطه الجمالي الهائل وتأثّر به، لكنَّه حاول أن يعيد بناء رسالته بالتوازي معها في بعض تفصيلاتها، والانفصال عنها في مآلاتها.
يؤكد "مارك أنجينو" أنَّ التناصّ أداةٌ مفهوميةٌ بقدر ما هو علامة، رواق معرفي يشير إلى موقف، إلى حقل مرجعي. وإذا كان مصطلح التناصّ كأداة صيغية يخضع دون انقطاع لعملية إعادة تحريك وتأويل بوصفه رواقًا، فإنّ مرجعيّته مزدوجة بدورها، بحكم أنّه متبنى من قبل مجموعات كثيرة في أفق توفيقي حينًا، وحصري حينًا آخر، وباستعمال ملتبس طورًا، ودقيق طورًا آخر. وهكذا فإنّ استعمال مصطلح التناصّ قادر على أن يعطي دلالة أولى لدالّ جامع مشترك شديد البداهة. فثقافة الكاتب ومعارفه وقراءاته جزءٌ لا يتجزأ من آفاق نصه وتجلياته. وقد ركّز ميشيل ريفاتير وبول زمتور على عنصري التذكّر والمرجعيات النصّية في مناقشة مفهوم التناصّ. فريفاتير يعدّ مرجعيات النصوص جميعها نصوصًا أخرى. أمَّا بول زمتور فيرى أنّ جدلية التذكّر التي تنتج النصّ وهو يحمل آثار نصوص متعاقبة تدعى هنا بالتناصّ. فالذاكرة أو المقروء الثقافي أو الحضور التاريخي كلها مصادر كامنة في وعي أو لاوعي الأديب، تسهم في تشكيل النصّ الجديد. لكنَّ مشكلة هذه النماذج المثالية الكبرى، والتي هي الأنواع والخطابات والحجج والأفكار المشتركة، أنّها تأتي لتخصّص وتميّز ما كان غائما في الأطروحة التي تقول ببساطة إنّ النصّ هو نقطة التقاء نصوص أخرى( ). وأظنّ أنّ ما فعله هلسا في تناصّه مع نيتشه خلال هذا المشهد الاستعادي، الذي يعيد بناء الذكرى في ضوء زمن ثقافي واجتماعي ومعرفي جديد ومختلف، يؤكّد هذه الأطروحة النقدية.
اللوحة الغرائبية في "ثلاثة وجوه لبغداد"
في رواية "ثلاثة وجوه لبغداد" مشهدٌ دالّ، يصوّر لوحة يتخيّلها غالب السارد على الجدار الكرتوني الذي أقامه مدير المكتبة الوطنية لمنعه من مشاهدة الفتيات العاملات في المكتبة. وخلال ذلك يستدعي لوحة تشكيلية من الذاكرة ليعيد ترتيبها وفق منطق الخوف والرعب الذي تعيشه الشخصيات في الرواية. وهو مشهد لا أعتقد أنَّه يُقرأ بمعزل عن تقنية التناصّ، لأنَّ السارد يصرّح بأنَّه يعيد بناء اللوحة في المشهد نفسه.
لا يتقيد التناصّ بزمان ومكان، فالكاتب يستطيع الرحيل عبر الأزمة والأمكنة ليستحضر من خلالها فلذات غالية من التراث تناسب مضمون نصّه وإنتاجيته الدلالية، معتمدًا في ذلك على مخزونه الثقافي والمعرفي. وعلى هذا الأساس يستعلي النصّ على الزمان والمكان، لأنَّه يستطيع امتلاكهما منذ بدء العالم حتى حاضر النصّ. ويعرّف "فيليب سولرز" التناصّ بأنّه كل نصّ يقع في مفترق طرق نصوص متعدّدة، فيكون في آن واحد إعادة قراءة لها، وامتدادًا وتكثيفًا ونقلاً وتعميقًا. ويميّز "سولرز" بين ثلاثة مستويات للنص: طبقة سطحية هي الألفاظ والجمل والمقاطع المكتوبة التي تُقرأ بوضوح، وطبقة وسطى هي التناصّ أو الجسد المادي للنصّ حيث تتقاطع النصوص وتُحمل إلى نطاق أبعد من حدودها، أمَّا الطبقة العميقة فهي الكتابة أو انفتاح اللغة. ومجموع هذه الطبقات لا يؤسّس موضوعا أدبيًّا، ولكن أثرًا معرفيًّا. كما أنّ النصّ المكتوب لا نهائي، لأنَّه مكوّنٌ من متتاليات لا تأخذ دلالتها إلا من خلال علاقاتها. وقارئ النصّ مرغم على أن يصير طرفًا في النصّ( ).
يمتلك التناصّ قدرة على تجميع تمظهرات متعدّدة للنصوص الأدبية، فيشكّل تقاطعاتها، وترابطها، فالأدب يكتب في علاقته مع العالم، وعلاقته مع نفسه، وتاريخه، وتاريخ إنتاجه، والمسار الطويل لأصوله. ويتساءل "تيفين ساميول": ما الذي يملكه الأدب غير ما يتذكّره عن ذاته؟ فالأدب لم يتوقف يومًا عن التذكّر، وممارسة متعة التكرار، حيث يتأمّل ذاته في مرآته الخاصّة، وعبر الاستعادة الهدّامة أو المسلّية يقوم الإبداع بتجاوز ما سبقه. وهكذا يضعنا مفهوم التناصّ في مجال التفكير حول ذاكرة الأدب، وأبعادها وحركتها، بخاصة ضمن آلية المرجعية والواقعية، أو الربط بين الأدب والواقع، ويصبح ممكنًا تعريف الأدب بحيث لا يبقى التناصّ عملية إعادة كتابة، بل وصفًا لحركات ومقاطع من الكتابة في علاقتها مع ذاتها ومع الآخر. وتتبدّى عندئذ مظاهر التوأمة بين العمل ومجمل الثقافة التي تغذّيه وتخترقه بعمق. ويسمح التناصّ بفهم صفة أساسية للأدب هي الحوار الدائم الذي يجريه هذا الأدب مع نفسه، والذي هو حركة الأدب الأساسيّة( ).
يُعدُّ التناصّ نتيجة تقنية وموضوعية للعمل الدائم والدقيق وغير المقصود أحيانًا لذاكرة الكتابة. ويقوم استقلال الأعمال الأدبية وفرديّتها على علاقاتها المتغيّرة مع مجموع الأدب، كما تحدّد هذه الأعمال موقعها الخاص في حركة الأدب. ويكتسب هذا الموقع تعريفه من خلال ارتباط العمل الأدبي بالتيّارات التاريخيّة، ومن خلال علاقته بالجنس أو الصنف الذي يندرج تحته، ومن خلال الارتباط المتغيّر لهذا العمل مع قاعدة، ومن خلال التعديل الممكن لطبيعة الخطاب في النصّ. وهذا ما يفسّر أنّ ذاكرة الأعمال الأدبية تشكّل حيّزا غير مستقرّ، حيث يسيطر النسيان والذكريات الهاربة والاستيعاب المفاجئ والانمحاء المؤقت. وتنبئنا الآليات التناصّية عن عمل الذاكرة، مشيرة إلى أنّ عصرًا أو مجموعة أو فردًا قد أنتج أعمالًا سبقتها أعمال أخرى، وتعبّر هذه الآليات عن أهمية الذاكرة، وصعوبة عمل من يعرف أنّه يتبع آخر ويأتي بعده( ).
أمَّا المشهد الذي أعنيه في رواية "ثلاثة وجوه لبغداد"، فهو حين يطالع السارد السور الكرتوني، ويراقب بتمعن البقع الرمادية القاتمة عليه، "كانت بعثًا لصورة قديمة احتفظت بها ذاكرتي منذ عهد الطفولة. كانت مرسومة على خشب بالألوان القاتمة للقديس "مارجرجيوس". كان يرتدي خوذة رومانية ودرعًا، يجلس فوق حصانه ويسدّد رمحه إلى الأعماق السوداء لفم التنين، وكان الرمح ينفذ من الفم ليبرز من أسفل البطن. البقعة الرمادية، كما تبيّن لي في تلك اللحظة، إعادة توزيع لعناصر تلك الأيقونة. أصبح التنين نصيرًا لمارجرجيوس، أمَّا رمح القديس فقد توجه إلى مجموعة من الأطفال، من الذكور والإناث العراة. ويواصل الأطفال عبثهم البذيء رغم أنَّ الرمح قد اخترق جسد كل واحد منهم، مخلّفا فراغًا يخترق القلب وينفذ إلى الظهر. أمَّا التنين فقد أشعل بالنار التي ينفثها من فمه شعر الأطفال، فأصبح فوق كل رأس هالة احتراق يتلوى الشعر في داخلها كالأفاعي. ومن مسدس القديس انطلقت رصاصات لتخترق كلّ الأجساد"( ).
يدلّ التناصّ على ما دعاه "لوران جيني" بالتحويلات التي يمارسها نصّ جامع على ما يتشرّبه من خطابات متعدّدة، حيث يُنشئ النصّ علاقة مع نصوص أخرى يستثمرها ويتحاور معها، ما يؤدي إلى تعدّد الوعي في الخطاب. وبذلك يصبح عمل التناصّ علاقة تكرار وتوزيع، أو اقتطاع وتحويل على حدّ تعبير "كريستيفا"؛ فالاقتطاع يعني اعتماد النصّ الجديد على نصوص أخرى سابقة، واستخدامها في بنيته وفق قوانين وآليات خاصة. أمَّا التحويل فهو توظيف النصوص السابقة وجعلها مزيجًا متفاعلًا لتوليد دلالات جديدة منها. فالنصُّ في النوع الأول "جيولوجيا كتابات" على حدّ تعبير "بارت"، وفي النوع الثاني "مزيج كيميائي" على حدّ قول "باختين"؛ أي أنّ العلاقة التي تربط النصوص بعضها ببعض هي علاقة تفاعل( ).
نلاحظ هنا إعادة صياغة للأسطورة الدينية في تناصّ إبداعي معها، فيصوّر هذا المشهد من الرواية الخوف والرعب الذي تعيشه الشخصية الرئيسة، والذي لا يمنعها من المضيّ قدمًا، وهو يقوم بعملية تحويل تُولّد من اللوحة التي تُصوِّر الأسطورة دلالات جديدة في تفاعل غني معها. في هذا التركيب الإبداعي ينزع السارد عن اللوحة دلالاتها المألوفة ليقدم دلالات جديدة. فهو يتكئ على النصّ القديم، المتمثّل في اللوحة التي تصوّر انتصار القديس على التنين الشرير، ليبني نصًّا مفارقًا بعناصر جديدة لها دلالتها الخاصة، فيقف القديس إلى جانب التنين بمواجهة الأطفال، ورغم القسوة التي يتّبعانها، والمتمثلة بالنار والحديد والرصاص الذي يصيب أجساد الأطفال، يصرّ هؤلاء على المواجهة، ويتابعون حياتهم. وبذلك يتشرّب السارد الخطاب الذي تقدّمه اللوحة، لكنّه ينشئ عبر التحاور معه واستثماره وعيًا جديدًا.
الهوامش:


هلسا، غالب: الأعمال الروائية الكاملة (1)، دار أزمنة للنشر، عمان، 2003، ص (177).
ورنوك، ميري: الذاكرة في الفلسفة والأدب، تر فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2007، انظر ص (16) وص (29) وص (30-32) وص (47).
انظر المرجع نفسه، ص (42) وص (74) وص (147) وص (153).
هلسا، غالب: الأعمال الروائية الكاملة (1)، ص (179).
المصدر نفسه، ص (179).
المصدر نفسه، ص (180).
المصدر نفسه، ص (180-181).
نيتشه، فريدريك: هكذا تكلم زرادشت، تر فليكس فارس، دار القلم، بيروت، بلا تاريخ، انظر مثلا ص (226-227).
هلسا، غالب: الأعمال الروائية الكاملة (1)، ص (181).
المصدر نفسه، ص (181).
المصدر نفسه، ص (181-182).
المصدر نفسه، ص (182).
المصدر نفسه، ص (182).
انظر فضل، صلاح: بلاغة الخطاب وعلم النصّ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، آب 1992، ص (244-247).
انظر المديني، أحمد: في أصول الخطاب النقدي الجديد (مقالات مترجمة)، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987، ص (101-102) وص (110).
المصدر نفسه، ص (105). وانظر ساميول، تيفين: التناصّ ذاكرة الأدب، تر نجيب غزاوي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2007، ص (9). وانظر عزام، محمد: النصّ الغائب، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص (21).
انظر ساميول، تيفين: التناصّ ذاكرة الأدب، ص (5-7).
انظر المصدر نفسه، ص (45-46).
هلسا، غالب: الأعمال الروائية الكاملة (2)، ص (391).
انظر موسى، إبراهيم نمر: آفاق الرؤيا الشعرية، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2005، ص (18). راجع جهاد، كاظم: أدونيس منتحلا، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1993، ص (36).