نسيم الصمادي
كاتب أردني
عندما أطلق "آدم سميث" تعبيرُه المجازي Invisible Hand، أي "اليد الخفيّة" وهو يكتب مؤلَّفه الشهير "ثروة الأمم"، وضع أولى لبنات حرية التجارة العالمية والعمل العميق وإدارة المعرفة بمفهومها الحديث. وبعد مرور قرنين ونصف على نشر الكتاب، أرى أنه يمكننا وسم المفهوم بمصطلح Invisible Mind أي "العقل الخفيّ"، بعد أن صار الذكاءُ هو مقياس "ثروة الأمم" وبعد أن تجاوزت القيمة السوقيّة لبعض الشركات الرقميّة الأميركيّة قيمة قارّات بأكملها. فإذا كان بمقدور آليات السوق والتفاعل الاجتماعي والمشاعر الأخلاقية والسلوك المعرفي توجيه جهود الأفراد المبذولة لتحقيق مصالحهم الشخصيّة، نحو تحقيق مصلحة المجتمع، فإنَّ توجيه ذكاء الأفراد في عصر اقتصاد المعرفة سيتحوَّل إلى سلوك إيجابي، وهذه ضرورة تنافسيّة حتميّة في العالم الافتراضي والمجتمعات الذكيّة.
لاحظتُ أثناء دراستي في إحدى الجامعات الأميركيّة أنني صرتُ أستوعب كل ما أقرأ من المرَّة الأولى، فمع زخم القراءات المطلوبة وضغط الوقت وشدَّة المنافسة، لم يكن الوقت يتَّسع لأكثر من ذلك، فتكيَّف المُخ على الاستيعاب السريع، وراح يعمل بتلك الآليّة. ظننتُ في البداية أنَّ هذا السلوك الإدراكي المتطوِّر سيلازمني ويصبح قدرة مستدامة، إلا أنَّ ظنّي لم يكن في محلّه، ولم أدرك سبب تبخُّر قدراتي الاستيعابيّة عندما عدتُ للعمل في الدول العربيّة، إلا بعدما قرأتُ دراسة "جيمس فلين" حول متوسطات الذكاء، وما كتبه "جاريت جونز" عن الذكاء الجمعي.
تبيَّن أنَّ متوسط ذكاء البيض في أوروبا وأميركا يتراوح حول 100 تقريبًا، وأنَّ الشرق آسيويين يتفوّقون عليهم بحوالي 5 درجات، بينما ينخفض ذكاء الأميركيين من أصل أفريقي إلى 85، وجاء أبناء أميركا اللاتينية في الوسط بمتوسط 90، وينخفض معامل ذكاء سكان جنوب الصحراء في أفريقيا إلى 75 في المتوسط. والمُلاحَظ أنَّ متوسط ذكاء الأفريقيين في أميركا يفوق أبناء جلدتهم في الوطن الأم بـ10 درجات، وذكاء الآسيويين المهاجرين من آسيا إلى أوروبا وأميركا، يفوق متوسط ذكاء الماكثين في مواطنهم الأصلية. ولهذا لم يكن غريبًا أن نجد الهُنود يقودون أعظم الشركات الأميركية مثل "مايكروسوفت" و"جوجل" و"ماستركارد" و"بيبسي كولا" وغيرها.
متوسط ذكائنا الفردي يؤثر على إنتاجيّتنا ونتائجنا الإجماليّة، ولكن مستوى معيشتنا وسعادتنا ومُحصلة أدائنا الكلّي تعتمد أكثر على متوسط ذكاء المجتمع والمكان الذي نعيشُ فيه، والأمة التي ننتمي إليها. ولذا يمكننا الافتراض بأنَّ "أحمد زويل" و"محمد البرادعي" لم يكونا ليفوزا بجائزة "نوبل" لو استكمل الأوَّل أبحاثه في جامعة الإسكندرية، وعمل الثاني أمينًا عامًا لجامعة الدول العربيّة، بدلًا من الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة.
يرى "فلين" و"جونز" أنَّ فجوة الذكاء الجيني بين أبناء شعوب الشمال والجنوب، وبين الفقراء والأغنياء تضيق بالتدريج، بسبب الإنترنت والعولمة ووسائل التواصل وتعميق التعاون الإنساني. لكن هذه الفجوة لا تضيق بالسرعة نفسها بين الأمم. فمعدلات ذكاء الأفراد مهما ارتفعت من خلال محو الأميّة والدراسة في الخارج والتعليم، لا تنعكس على ذكاء المجتمع وسعادته وفاعليته، لأنَّ للذكاء الجمعي شروطًا إضافيّةً؛ بيئيّةً وسلوكيّة؛ تُثري أو تَستنزف ذكاء الفرد وتفكيره الإيجابيّ.
في كتابه "الثقة"، تحدَّث "فرانسيس فوكاياما" عمّا أسماه "رأس المال الاجتماعي"، وهو: "قدرة الأفراد على العمل لتحقيق هدف مشترك داخل مجموعات أو في منظمات"، وهذه القدرة التفاعليّة تُسمى "ذكاء الخليّة". فأفراد خلايا النحل والنمل لا تتمتّع بأيّ ذكاء، ولكنها تتفاعل وتتكامل وهي تعمل في جماعات، فترتفع إنتاجيّة المُعامل الإجمالي لذكائها وتتمكَّن من تحقيق فائض إنتاجي يتمّ تخزينه أو تدويره أو تصديره. وبهذا المعنى فإنَّ العمل المنظَّم يُنمِّي المخ التعاوني ويخلق الذكاء الجمعي من موارد فطريّة ومعرفيّة لم تكن موجودة، أو هي -بمعنى أدق- غير ملموسة.
استمعتُ إلى محاضرة لرئيس وزراء مملكة "بوتان" يتحدَّث فيها عن "ناتج السعادة الإجمالي" بدلًا من "الناتج المحلي الإجمالي"، وعن انخفاض الانبعاثات الكربونيّة في "بوتان" إلى الصفر، وانعدام التلوث بسبب الذكاء الحيوي واستدامة البيئة الطبيعية، وقد ربَط بين الأداء الإجمالي لشعب "بوتان" الذي لا يزيد عدده عن 700 ألف نسمة، وبين قرارات الذكاء السياسي واستدامة البيئة الإدارية التي تُلزم الجميع -بمن فيهم ملك بوتان- بالتقاعد في سن الخامسة والستين. ومع انتهاء المحاضرة أيقنتُ أنَّ Tshering Tobgay "شيرنج توبجاي" -اسم رئيس الوزراء- يتحدَّث عن ذكاء الخليّة الفطري، لا عن متوسطات الذكاء الفردي، ويبدو أنَّ لاسم رئيس الوزراء دلالات وعلاقات بالمستوى الرفيع من المشاركة التي تضع "العقل الخفيّ" فوق "اليد الخفيّة".
من المرجَّح أنَّ ذكاء الإنسان العربي الفردي لا يقلّ عن المتوسطات العالميّة. قد لا نُنافس اليابانيين والكوريين الذي يُغذُّون ذكاءَهم الجَمْعيّ بالحرية الشخصية والممارسات الديمقراطية وأخلاقيات العمل واحترام الآخر والتعاون والمشاركة والتفكير العلمي، لكنَّنا لا نقلّ بأيّ حال عن ذكاء البقيّة. أمّا ذكاؤنا الجمعي فهو في الحضيض؛ حيث أدّى الاحتباس الإداري وانحباس الابتكار، وافتقارنا إلى "العقليّة الخفيّة" و"ذكاء الخليّة" واستنادنا إلى القيم الماضويّة، وغياب المؤسَّساتية، وفساد القيادات السياسيّة، واعتمادنا على المساعدات الأجنبيّة، والموارد الطبيعيّة، وسلطة القبيلة الأبويّة، أدّى كل ذلك إلى: استنزاف طاقاتنا الفرديّة، فتاهت الرَّعِيَة بين اللامُساءلة واللامسئوليّة.