في رحيل سنديانة الدراما الأردنيّة الفنّان جميل عوّاد

ذكريات حرب

كاتبة أردنيّة

قدَّم الفنان جميل عوّاد مئات الأعمال المتنوِّعة التي تألّق فيها؛ في المسرح والدراما التلفزيونيّة ‏والسينما، في مواضيع اجتماعيّة وسياسيّة وتاريخيّة، وتميّز بالأداء المُدهش والحضور الطاغي ‏وتجسيده للشخصيّات وتداعياتها، ولم يكن ذلك هو الأثر الوحيد الذي خلّفه جميل عوّاد بعد رحيله، بل ‏هناك إرثٌ مشرِّفٌ يتجسَّد في نضاله السياسيّ- الوطنيّ ورفضه للتطبيع، وفي مبادئه وثقافته وانتمائه ‏العروبيّ، وإيمانه أنّ الفنّ رسالة تنويريّة للارتقاء بالذائقة والفكر العربيّ، والتزامه الأخلاقيّ والفني.‏

‏(عواد: عشتُ أكثر ممّا توقعت، وأنجزتُ أقل ممّا استطعت.. فالأبواب دومًا مغلقة).‏

بين الرَّسم وهندسة الديكور والتمثيل والكتابة والإخراج، وروايته الأولى والأخيرة "رماد الأحلام" ‏التي كتبها وهو في الرابعة والثمانين من عمره، تبلور عطاؤه، وتعدَّدت أدواته، وتنوَّعت إنجازاته. ‏وفي عين كارم وجزين وعمّان تشكّلت طفولته وروحه الفنيّة التي لم يكن يعلم في ذاك الوقت ‏موطنها، مُترنِّمًا بجملة والدته التي كانت تردِّدها: "سيكون لكَ شأنٌ كبير في يوم ما..". ‏

درس جميل عواد هندسة الديكور، مُحتضنًا في ذاكرته اللحظات الجميلة التي عاشها إبان النشاطات ‏المدرسيّة؛ وبخاصة حين طلب منه أحد المعلمين أنّ يُجسِّد أحد الأدوار التمثيليّة، لثقته بقدرة هذا ‏الطالب على التقمُّص. ‏

لكنَّ قرار المرحوم عبدالحميد شرف بتأسيس أوَّل نواة لمؤسَّسة تُعنى بشؤون الثقافة والفن في الأردن ‏عام 1964 شكَّلَ نقطة تحوُّل في حياة جميل عواد (أبي غزوان)، وذلك عندما تمَّ تعيينه رئيسًا ‏لقسم‎ ‎الفنون التشكيليّة، وانضوى في الوقت نفسه إلى مسرح المخرج هاني صنوبر مهندسًا للديكور ‏ومؤدِّيًا لبعض الأدوار البسيطة، لكنَّ والده استهجن الأمر، ورفض حضور أيّ عرض مسرحي له، ‏وعندما لمع اسمه في التلفزيون الأردني عام 1968، وتسارعت الصحف الأردنية في الكتابة عنه، ‏عادت المياه إلى مجاريها بينهما. ‏

أمّا والدته، فكانت تذهب لمشاهدته على المسرح خفية. وقد بقي عواد يشعر بحرقة كلَّما تذكَّر والدته ‏التي لم تشهد نجاحاته، مؤكدًا في كل لقاءاته أنّها أعظم امرأة في العالم، ومُعترِفًا أنّها كبّلته عن كل ‏شرّ أو انحراف عندما قالت له في طفولته: "لا تكذب، وافعل ما شئت..".‏

في 1974 قدَّم الفنّان جميل عواد مسرحية (الغائب) باكورة أعماله الإخراجية، ثم السياسيّة (موتى ‏بلا قبور)، و(الشحادين) التي تعدُّ من أهمّ أعماله، والتي عُرِضت في مطلع ثمانينات القرن الماضي ‏ضمن فعاليّات مهرجان قرطاج المسرحي الأوَّل في تونس، وتوالت أعماله المسرحية، فضلًا عن ‏أعماله المخصَّصة للأطفال. ‏

سطع نجم (أبي غزوان) في التلفزيونات العربيّة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، لا سيّما في ‏الأعمال البدوية التي حققت الكثير من النجاحات في الوطن العربي، نذكر منها: (المطاريد 1981) ‏للمخرج محمد عزيزية، وتدور الأحداث حول معاناة أهل البادية، و(القضاء في البادية 1999)، ‏والملحمة الشعرية (نمر بن عدوان 2007)، و(مخاوي الذيب 2009) الذي تناول قصة فتاه بدوية ‏تحب ابن عمها من طرف واحد، وعندما يقرِّر الأهل الزواج بينهما، تكتشف أنه يحب أخرى من ‏خارج القبيلة، وفي 2010 بدأ تصوير مشاهده الأولى في (أبواب الغيم) مع المخرج حاتم علي، لكنَّ ‏سقوطه عن ظهر الجَمَل في المَشاهد الأولى حال دون إتمام دوره لإصابته بالعمود الفقري، واضطرَّ ‏للعودة إلى عمّان بطائرة عسكريّة خاصة أرسلها جلالة الملك عبدالله الثاني مزوَّدة بالكادر والمعدّات ‏الطبيّة، ولزم المستشفى للعلاج الطبي والطبيعي لفترة طويلة. وفي 2014 شارك في (رعود المزن) ‏المقتبس أحداثه من (روميو وجولييت) للمخرج أحمد دعيبس، وتميَّز العمل بجمال التصوير، ‏وضخامة الإنتاج، ثم (حنايا الغيث 2015)، و(الدمعة الحمراء 2016)، و(العقاب والعفرا 2017) ‏العمل الفنتازي البدوي الذي تناول قصة عفرا التي تبحث عن ثأر والدها الذي قُتل على يد عقاب، ‏ووقوعها في الحب، و(صبر العذوب 2019)، و(رياح السموم 2020)، وغيرها من الأعمال ‏المتميزة.‏

وعن ميوله للدراما البدويّة صرّح جميل عواد في أحد لقاءاته: "البداوة هي الشريان الذي يربط بين ‏أواصر الوطن العربي الممتد من شمال أفريقيا حتى بلاد الجزيرة العربية مرورًا ببلاد الشام ‏والرافدين، فهي الأصالة والفروسيّة والقيم العربيّة، وقصص الحب المتوَّجة بالطُّهر والعفاف، فجذور ‏الوطن العربي تاريخيًّا تعود إلى البداوة والترحال".‏

في المقابل، قدّم رائد الدراما الأردنيّة مئات الأعمال المتنوِّعة؛ الاجتماعية والسياسية والتاريخية ‏والريفية، ومنها: (الرحيل)، و(أبناء الضياع)، و(الرحى والبيدر)، و(هارون الرشيد 1977) من ‏إخراج اللبناني أنطوان ريمي، وجسَّد في هذا العمل شخصيّة يزيد بن مزيد. وفي عام 1979 شارك ‏في (أبو فراس الحمداني)، و(شجرة الدر) الذي قام بكتابته وليد سيف، وأخرجه صلاح أبو هنود، ‏وقدَّم فيه شخصيّة الناصر داوود، و(شمس الأغوار 1981)، و(طرفة بن العبد 1982) مُجسّدًا ‏شخصيّة قيس بن خالد. وفي عام 1985 قدّم (القرار الصعب) و(محاكم بلا سجون) و(هبوب الريح) ‏الذي تناول فترة الانتداب البريطاني ومقاومة الشعب الفلسطيني في أربعينات القرن الماضي، وجسّد ‏عواد دور "داني" أوَّل حاخام قام بزرع المستعمرات في فلسطين، و(وجه الزمان 1988) للروائي ‏طاهر العدوان، ومن إخراج سعود فياض. وفي عام 1992 استثمر عوّاد خبرته في التأليف وقدَّم ‏‏(الكفّ والمخرز) مُلقيًا الضوء على معاناة أهل القرى في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي ‏وتعرُّضهم للظلم والاستبداد وذلك من خلال (أبو صفوح- جميل عواد) الذي يتحكَّم بقوت الناس ‏وأرزاقهم، ويحاول الشباب التصدّي له، لكنه يقتل أحد الشباب، لتتوالى الأحداث، وتصل الذروة ‏عندما يُلقى به في السجن، وتمسك زوجته الثالثة (نورا) زمام الأمور لتنهج أسلوب زوجها في ‏استغلال أهل القرية، والعمل من إخراج نجدت أنزور.‏

ثم شارك جميل عواد في (رياح المواسم 1997)، و(عرس الصقر 1998)، و(البحث عن صلاح ‏الدين 2001) للمخرج أنزور الذي يُبرز في العمل أهميّة الحوار بين الحضارات والأديان، والمزج ‏بين التاريخ القديم والعصر الحديث بواقعه المُرّ، وجسَّد عواد شخصيّة "همفري الأكبر". وفي عام ‏‏2004 قدّم أهم أدواره في (التغريبة الفلسطينية) للمخرج حاتم علي؛ وجسّد فيها دور (أبوعزمي) ‏أحد الاقطاعيّين المنتفعين الذين يتسلّقون الثورة الفلسطينية، والذين لا يتردَّدون في التعاون مع العدو -‏الانتداب البريطاني- لاغتيال ثورة 1936، فيُقتل إثر خيانته على يد زوج ابنته -ابن أخيه في الوقت ‏نفسه- في ليلة عرسهما. ثم قدّم (أبو جعفر المنصور 2008)، و(صدق وعده 2009)، مؤديًا ‏شخصية الخطاب بن نفيل، و(آخر الفرسان 2013)، و(شيء من الماضي 2019) الذي تناول ‏جريمة قتل يُتَّهم فيها العديد من الأشخاص الذين يحاولون إثبات براءتهم. ‏

كما كتب للدراما الأردنية ثلاثة أعمال هي (الشريكان)، و(عيال الذيب)، و(المحروس) الذي استمرَّ ‏في تأليفه عامًا كاملًا. وقد شكّل جميل عواد مع رفيقة دربه جولييت عواد ثنائيًّا متميزًا. أمّا الأعمال ‏الأحبّ إلى قلبه فهي أعماله الثلاثة (الكف والمخرز)، و(التغريبة الفلسطينية)، وفيلم (مملكة النمل).‏

وقد كان لهذه القامة الفنيّة الفضل في اكتشاف الراحل ياسر المصري، حيث قال في أحد لقاءاته: "لقد ‏كان بمثابة ابني، ذهبتُ لمشاهدة فرقة الحنونة للفنون الشعبية، وهي الزيارة الأولى لها، لفت انتباهي ‏إيقاع الراقص الأوَّل وحركاته، وتركيب جسده الفيزيائي، وعندما ذهبتُ مع أصدقائي لمصافحة ‏الفرقة، والتحدُّث معهم، جذبتني نبرة صوته المميَّزة، وطلَّته الهادئة، سألتُه: لماذا لا تفكر بالتمثيل؟ ‏ردَّ عليّ قائلًا: لم تتسنَّ لي فرصة للعمل في التمثيل، فطلبتُ رقمه، ثم رشَّحته لثلاثة أعمال، حتى ‏حقَّق نجوميّته في (نمر بن عدوان)، أشعر أحيانًا أنني المسؤول عن موته المأساوي، لأنني أنا مَن ‏اقترحتُ عليه دخول الفن".‏

لم يتوانَ جميل عواد عن المشاركة في الأعمال العربيّة مؤمنًا أنّ هذه الأعمال ثروة دراميّة غنيّة ‏بتبادُل الخبرات والثقافات، والاطِّلاع على العادات والتقاليد، والتعرُّف على الجمهور العربي في كل ‏مكان، ولم يتردَّد قطّ في رفض أيّ عمل يسيء إلى جوهر الإنسان، والقضايا التي تمسّ العادات أو ‏الدين، والقيم العربيّة والكرامة، وأهمّها على الإطلاق القضية الفلسطينية؛ وفي عامه السابع والسبعين ‏ردَّد مُعاتبًا: "عشتُ أكثر ممّا توقَّعت، وأنجزتُ أقل ممّا أستطيع، لأنّ الأبواب دائمًا كانت مغلقة، أنا ‏لا أساوم، لقد رفضتُ الكثير من الأعمال التي لا تناسب قناعاتي أو مبادئي، لقد جئتُ إلى العالم وأنا ‏أصرخ ثلاثة أيام بلياليها، لم يستطع أحد النوم عند ولادتي، وفي اليوم الرابع كففتُ عن الصراخ ‏عندما أخرجتني أمي إلى ساحة الدار، ولفحتني شمس عمّان، ارتاح الجميع، لكنهم لا يعلمون أنني منذ ‏ذاك الوقت وأنا ما زلتُ أصرخ، وبلغت الثمانين من عمري، وما زلتُ أصرخ لكن لا يسمعون..".‏

على الصعيد السينمائي، جسّد جميل عواد الكثير من الأدوار المميزة منها؛ (بقايا صور 1983) ‏للروائي حنا منا، وإخراج السوري نبيل المالح، وحقق الفيلم نجاحًا لافتًا، فضلًا عن أنّه شارك في ‏العديد من المهرجانات السينمائية العربية والدولية، كما شارك في فيلم (الحذاء 1989)، و(حكاية ‏شرقية 1999) الذي ساهم في كتابته وإنتاجه مع المخرج نجدت أنزور، ويتناول الفيلم نكسة 67 ‏وما أحدثته من شرخ في الوطن العربي، ومحاولة لإعادة توجيه الفكر العربي نحو المطالبة بالحرية ‏ومواجهة القمع الداخلي، وشارك الفيلم في المهرجانات العربية والدولية، ونال استحسان الجمهور ‏والنقاد، علمًا أنّ الممثلين لم يتقاضوا أجرًا بسبب صعوبة الأوضاع الإنتاجيّة. وكان عواد أحد أبطال ‏الفيلم السعودي (ظلال الصمت) للمخرج عبدالله المحيسن، و(الشراكسة 2010)، و(أبو محمود) وهو ‏من أفلام المهرجانات الجادة. ‏

وجسّد (أبو غزوان) المقاومة الفلسطينية في أكثر من عمل ومنها؛ (الفلسطيني الثائر)، و(فداك ‏فلسطين 1970) للمخرج أنطوان ريمي، وشارك فيه محمود سعيد وسناء جميل ويوسف فخري، ‏و(مملكة النمل 2012) من إخراج التونسي شوقي الماجري، وتدور أحداث الفيلم في إطار واقعي ‏يمتزج بالفانتازيا حول الزوجين الشابين (جليلة- صبا مبارك)، و(طارق- منذر رياحنة) اللذين ‏يعانيان من قمع المحتل الإسرائيلي على مدار 12 عامًا بسبب انخراطهما في صفوف المقاومة، حيث ‏يتعرضان للسجن والتعذيب، كما يستشهد ابنهما الذي لم يتجاوز الحادية عشرة برصاصة مباشرة ردًا ‏على إلقائه الحجارة على مدرّعات إسرائيلية في مدينة القدس. والفيلم يقدِّم الكثير من المَشاهد التي ‏تصوِّر اشتباكات مباشرة بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وحياة الفلسطينيين ‏تحت الأرض في مغارات وسراديب في ظلّ الحواجز التي تضعها (إسرائيل) لقطع الطريق ‏والتواصل بين أبناء الشعب الفلسطيني، والتي تتقاطع حياتهم مع حياة النمل. وفيلم (سنعود) وهو ‏إنتاج مشترك بين المنظمة الفلسطينية والجزائر. وشارك عميد الدراما الأردنية في مهرجانات محليّة ‏وعربيّة ودوليّة منها، مهرجان دمشق السينمائي 1970 و1993، ومهرجان أوبرهاوزن في ألمانيا ‏‏1971، ونال جائزتين تقديريّتين عن (الغصن الأخضر) و(السوسنة)، وتسلّم الكثير من الأوسمة ‏والدروع وشهادات التقدير لدوره الرّيادي في الدراما الأردنيّة والعربيّة.‏

لن يكون الأداء المدهش والحضور الطاغي لأبي غزوان وتجسيده للشخصيّات وتداعياتها بكل أبعادها ‏الجسديّة والنفسيّة، متكِّئًا على صوتِه، وعينيه الثاقبتين، وقسمات ملامحه التي تكاد تنطق دون أنّ ‏ينبس بكلمة، وحركة جسدِه ويديه، لن يكون هذا كله هو الأثر الذي خلّفه بعد رحيله فحسب، بل هناك ‏إرثٌ مشرِّفٌ يتجسَّد في نضاله السياسيّ- الوطنيّ، ورفضه للتطبيع، ومبادئه، وثقافته، وانتمائه ‏العروبيّ، وإيمانه أنّ الفنّ رسالة تنويريّة للارتقاء بالذائقة والفكر العربيّ، والتزامه الأخلاقيّ والفنيّ.‏

رحل جميل عوّاد (أبو غزوان) سنديانة الدراما الأردنيّة وأحد روّاد الدراما العربية، لكنَّ أعماله ‏وفكره تظلّ حيّة في ذاكرة عشّاقه الممتدَّة باتِّساع الوطن العربيّ.‏‎ ‎