الساعة الواحدة والعشرون.. بتوقيت الشهيد!!‏

مفلح العدوان

كاتب وروائي أردني

 

 

يحضر بكامل بهائه، وقد كنتُ ودَّعته عند الجسر، هناك قريبًا من النَّهر، قبل أعوام بعد أن ‏أتممتُ زيارتي لفلسطين، لكنه الآن يتجسَّد أمامي فرحًا، أوَّل مرَّة أرى طائر الفينيق بهذه البهجة، ‏وهو يصفق بجناحيه، ويخبط الهواء معبِّرًا عن حالة لم أعهدها منه.‏

قلتُ: سلامٌ على المتجدِّد روحًا لا تغيب.‏

قال: سلامٌ على مَن يحنّ ولا يئنّ، توقًا إلى فلسطين!‏

واقترب منّي، شممتُ رائحته كأنه مسك وياسيمن ورياحين، كأنه مشرَّب بنهر من الطّيب، ‏فاقتربتُ منه، كأنّني أريد أن أسبح في زكيّ عبقه، كأنني أنتظر بشارة منه يريد أن يفرِّح قلبي ‏بها، وينعش روحي، لأحلِّق معه، متشبثًا بجناحيه، فنطير توقًا لتلمُّس فضاءات تنتظر، ومساحات ‏مشوّقة لأن نعاينها محبَّةً وحضورًا.‏

‏***‏

 

بشارة الطائر

الفينيق لا يأتي إلّا بنبأ لم يستطع كتمه، وبخبرٍ قد آن أوانه ولن يرجئه، فبيني وبينه عهد النَّهر ‏والتراب، ميثاق الدم والروح، بيني وبينه وعد بأن أكونَ أوَّل المبشّرين بالخبر اليقين، وها هو ‏جاء يبشِّر، ولا ينفِّر، هو هكذا طائر الفينيق معي رفيقًا قريبًا، شفيف الباطن، حسن الظاهر، ‏جناحاه مظلّة أنس، وقلبه من حرير، ها هو المتجسِّد أمامي بكل عنفوانه، أتى... ومجيء الفينيق ‏دائمًا فيه إشارة وعلامة وبشارة.‏

قلتُ: هل حان الوقت؟‏

قال: بلى.. لقد استيقظوا من نومهم، فتحوا بأيديهم قبورهم، وقاموا بكامل عنفوانهم.‏

قلتُ: هل حقًا قام الشُّهداء.. واستيقظ الجنود، ونهضوا من خنادقهم التي صارت قبورهم طوال ‏تلك الفترة الماضية!‏

قال الفينيق فرحًا: حقًّا قاموا.. حقًّا قاموا!‏

‏***‏

‏ ‏

الشهداء يعودون

تأنَّينا قليلًا قبل أن نلحق بالمستيقظين من نومهم، فالفينيق له روايته التي لم أُحَط بها علمًا، هو ‏الذي عنده خبر من الكتاب، هو المحيط بمعرفة ما كان قبل أن يُدفن الجنود في خنادقهم، وقبل أن ‏تشهد أسوار القدس على معاركهم، هو يعلم أحوال الناس حين كانوا ينتظرون العون والنجدة ‏عندما أحاط بهم الأعداء من كلِّ حدبٍ وصوب. ‏

تأنَّينا قليلًا، وطائر الفينيق، لا يتركني في حيرتي، بل يقرأ هواجسي، ويحنُّ عليّ، يضمّني ‏بجناحيه، فبيني وبينه رفقة محبّة، وعشرة ترحال، ونيّة صافية، وتوق واحد لمعرفة أخبار بلاد، ‏هو حامٍ لذاكرتها وحافظٌ لتاريخها وعارفٌ بحاضرها، وأنا قرين هذا التَّوق خاصة حين يفرد ‏جناحيه فوق بلادنا الأردن وفلسطين، ويسبر بعينيه أحوال البلاد وأخبار العباد هناك وهنا.‏

فرحًا حلَّق بجناحيه حولي، وكان بهيجًا إيقاع حديثه حين قال: ‏

أرأيتَ ذاك الحاجز الذي منعكَ الأعداء عنده من دخول القدس، حاجز قلنديا.. أرأيتَ تلك الأبواب ‏المغلقة في المدينة المقدَّسة.. أرأيتَ الطُّرق المدَّججة بعساكر الاحتلال.. كلها.. كل تلك المواقع ‏تتهيّأ الآن للذين قاموا من خنادقهم، تلك الخنادق هي أمكنتهم التي موّهوها كأنها القبور، وناموا ‏فيها، كأنهم الأموات، غير أنَّها في الحقيقة كانت مساكنهم وهم الأحياء فيها أكثر من كلِّ مَن ‏حولهم، هم الشهداء في الواقع لا الخيال، صبروا وانتظروا، وها هم يعودون، يتهيّأون لفتح ‏الأبواب المغلقة، وتدمير الحواجز القاسية، وبثّ الحياة في الدروب الحزينة، ها قد بدأت قيامة ‏الجنود الذين دافعوا عن القدس، كان مجيؤهم آنذاك في زمن آخر وهم يكبِّرون ويهزجون ضمن ‏كتيبة الحسين الثانية، والحرب هبَّت نيرانها، وعلا أزيز رصاصها.. ها هم الآن، كأنهم ينتظروننا ‏هناك، في حيّ الشيخ جرّاح، هناك عند تلّ الذخيرة، وقد صار اسم كتيبتهم "كتيبة أم الشهداء"، ‏هناك قرّروا أن يكون اجتماعهم، وهيأوا أنفسهم ليعيدوا تموضعهم ووظائفهم ومواقعهم كما كانت ‏في حزيران عام 1967 وقد دعونا لنكون معهم شاهدين وفرحين على عودتهم بعد أربعة ‏وخمسين عامًا على الغياب.‏

‏***‏

 

فوق التلّ

فرحتُ، قبل أن أمتطي صهوة طائر الفينيق، لأزور القدس، وأرى تفاصيل الحياة والبطولة ‏والشهادة هناك.. أخذتني البهجة، ونبض استفزَّ كياني وقلبي وروحي وكلّ جوارحي. ‏

قلتُ: سؤال أخير قبل أن نغادر، قبل أن نعودَ إلى حيّ الشيخ جرّاح.‏

تأمّلني الفينيق، وهو يهزّ رأسه منتظرًا السؤال، كأنه يستعجل حديثي، لنرتحل بعده إلى هناك، ‏حيث الجنود بكامل شهادتهم ينتظرون.‏

قلتُ: وما الإشارة على الموعد، وقيامة الشهداء، ويقينك هذا بأنهم عائدون الآن، ليكملوا معركة ‏تلّ الذخيرة؟

قال مبتسمًا: سأروي لك القصة الآن، سريعًا سأرويها، وبعدها ننطلق إلى هناك، فالإشارة هي ‏بعض تفاصيل الحكاية! ‏

لم يبدأ طائر الفينيق سرد حكايته بـ(كان يا ما كان، في قديم الزمان)، بل حلق بعينيه غربًا، وهو ‏يقول إنَّ هذا يحدث الآن:‏

الواحدة وعشرون دقيقة.. الساعة تشير إلى هذا التوقيت بيد الشهيد حين لفظ أنفاسه الأخيرة!‏

ما قيمة الوقت بعد تلك اللحظة؟ ‏

هل توقفت الساعة ما إن لفظ أنفاسه الأخيرة، أم أنها كانت تشير إلى لحظة ما حمي الوطيس، ‏واقتربت النيران من خندق الجندي المقاتل، وصارت الدنيا كلها أزيز رصاص، وندّية مواجهة، ‏واستحضار كل قوى الإيمان على زناد البندقية، أنْ الله أكبر، فتوقّفت الساعة عند تلك اللحظة ‏كشاهد على آخر لحظات عمر الشهيد!‏

الواحدة وعشرون دقيقة.. ‏

تتكرَّر الأرقام عند هذا التوقيت كل يوم منذ بدء الخليقة، لكن الساعة لم تتوقف كما حدث في ‏توقُّفها بيد الشهيد، هي ساعة كلّ الشهداء السبعة وتسعين الذين سقطوا في السادس من حزيران، ‏هناك في تلّ الذخيرة، تلك ساعتهم جميعًا وإن وُجدت مع رفات أحدهم، هو قد يكون محمد أو ‏سالم أو يوسف أو إبراهيم أو أيّ غيرهم، الاسم لا يهمّ، فكلهم على قلب شهيد واحد، تلك الساعة ‏ساعتهم حيث صمدت عقاربها على مينائها كأنَّها نزفت الزَّمن كما الدّم وهي تدافع عن ثرى ‏القدس، كأنَّها قبل أن تتوقَّف حركة عقارب حياتها، كانت تنبض عزم قتال وهي مرتبطة ‏بالمعصم واليد والأصبع الضّاغط على الزناد وما توقف إطلاق الرَّصاصة الأخيرة، إلّا حين ‏تراخت اليد، وهدأ المعصم، وهمدت عقارب الساعة ممدَّدة على سرير الواحدة وعشرين دقيقة!!‏

الساعة توقَّفت، قلب الشهيد توقَّف، لكن روحه انطلقت عصفورًا يتفقَّد ما حدث لرفاق السلاح ‏حوله، في الوقت ذاته انطلق الزَّمن من إطار الساعة، وتركها عند ذاكرة الواحدة وعشرين دقيقة ‏بيد الشَّهيد، لم يتوقَّف عند تلك اللحظة، والشَّهادة لم تتوقَّف، فالشَّهيد لا يحدّه زمان ولا مكان! ‏

حين ارتفع الشَّهيد فوق أرض المعركة، رأى مع روحه المحلِّقة هناك رفًّا من طيور أرواح شهداء ‏يلوِّحون له، فينضمّ إليهم، كانوا سبعة وتسعين شهيدًا يسيِّجون ببطولاتهم تلًّا في القدس اسمه تلّ ‏الذخيرة!! ‏

‏***