قصة "الفراشة"‏

 

للكاتب نريمان عبد الرحمانلي(*)‏

قيلت هذه العبارة بشكل أثَّر فيه كثيرًا! أو بمعنى أصحّ، لم تنتهِ المرأة من قول هذه العبارة المكوَّنة ‏من أربع كلمات، حتى شعر مسبقًا بما وراء هذه العبارة وإنْ لم يفهم السبب، عجز عن الكلام ‏بسبب غصّة في حلقه؛ وما إن أدرك هذه العبارة، حتى تصبَّب عرقًا من أعلى رأسه حتى ‏أخمص قدميه، وتوقَّف عن التنفُّس تمامًا. "مات زوجي في الحرب...".‏

لسببٍ ما، لم يستطع إدراك هذه العبارة بشكل كامل، ولكن بدأ يشعر باختناق شديد في داخله، كان ‏يرغب في اللحاق بالمرأة التي قالت هذه العبارة فيما عيناها تذرفان الدُّموع، وقد جمعت تلابيبها ‏في يدها واتَّجهت أسفل المدينة، وكان يرغب أيضًا في الاعتذار لها مرارًا وتكرارًا، وأنْ يخرَّ ‏تحت قدميها، ولكنه لا يستطيع أن يتحرَّك من مكانه لأنَّ قواه قد خارت...‏

كانت بداية اليوم جيِّدة، حيث تناول في الصباح إفطارًا من البيض، ولم يتعرَّض للزّحام في ‏الطريق، وما إن وصل إلى الإدارة، حتى سمع أخبارًا عن الراتب من عاملة النظافة، ويبدو أنه ‏سوف يتقاضى الراتب بعد الظهر؛ حقًّا، هذا هو الأسبوع الثالث الذي يسمع فيه هذا الكلام، ولكن ‏لديه هذه المرَّة أمل حقيقيّ لسبب ما، وسيتحوَّل هذا الأمل إلى حقيقة بعد نصف ساعة بناء على ‏تأكيدات المدير.‏

قال المدير هذا الكلام بشكل مؤكَّد، كأنَّ النقود معه، وسوف يُخرجها من جيبه ويوزِّعها. على أيّ ‏حال، قام المدير بالتمَنُّن بشكل يوازي حجم وظيفته.‏

إضافة إلى أنَّ هذا التمنُّن -بجوار النقود- لا يمثِّل شيئًا، ولم يكن يستطيع أن يفسد هذا الجوّ من ‏الأمل. بقي شيء واحد هو انقضاء الوقت بشكل ما حتى الظهر، وإبعاد الأفكار السيّئة المتعلقة ‏بالراتب من الذهن، وقد اعتاد على هذا أيضًا...‏

بعد ذلك انشغل ببعض الأوراق لمدّة ساعة، وعندما أراد أن يخرج إلى الشارع من أجل أن يدخّن ‏سيجارة، اصطدم بفتى كان يسير جارًّا ساقيه، فاستدار من أجل أن يعتذر له، فنظر إليه وحينئذ ‏عرفه من عينيه؛ إنه صديقه في الجيش الذي لم يرَه منذ بضع سنوات؛ حقًّا، لم يتذكَّر الاسم ‏الحقيقي لهذا الفتى الذي كانوا ينادون عليه في الجيش بـِ"رمبو"، ولكن لا علاقة لهذا بالأمر؛ ‏الأمر الأساسي كان هو أنَّ هذا الفتى على قيد الحياة أم لا؟ كان عندما يتقاتل مع رفاقه في ‏الجيش، يتذكّرون الأصدقاء الذين قاتلوا معهم، ولم يكن لدى أحد معلومات دقيقة عن "رمبو"، ‏كان بعضهم يقول إنه بسبب فقده دماء كثيرة مات في الطريق، وبعضهم الآخر كان يقول إنهم ‏رأوه يعمل بالتجارة في محل صغير، وآخرون يتحدّثون بأنه شفي والتحق بالشرطة، ويعيش حياة ‏رغيدة. الآن، ها هو، لقد اصطدم به في منتصف الطريق بعد ما يزيد على خمس سنوات. وقفا ‏وسط الناس وتجاذبا أطراف الحديث. وبدأ الحديث عن السنوات الماضية. حسنًا، لقد انتبه بعض ‏الشيء، وأدرك أنَّ الفتى يعرج وأنه يقف بصعوبة على قدميه المصابتين، فصاحَبَه إلى مقهى ‏قريب، وجلسا وأخذا يتذكَّران الأيام الماضية حلوها ومرّها. وكأنَّ الوجع الموجود في مكان ‏الرصاصة بساقه، والذي كان قد هدأ منذ فترة، بدأ مرّة أخرى، أو بمعنى أصحّ، تحوَّل الوجع ‏الذي كان لا يُعيره اهتمامًا قبل ذلك إلى ألم شديد، بالإضافة إلى شعوره بالاختناق وتغيُّر صوته؛ ‏ولكن دار في عقلِه أنَّ ما هو فيه بالنسبة لِما يعانيه هذا الفتى يُعدُّ شيئًا بسيطًا جدًا؛ فقد مكث الفتى ‏أربعة أشهر في المستشفى وتسعة أشهر وعشرين يومًا في المنزل، وأرادوا أن يبتروا ساقيه من ‏أعلى الركبة، ولكن بلطف من الله، فَقَدَ إحداهما فقط، واستطاعوا إنقاذ الأخرى، والآن يستطيع أن ‏يدير حياته بشكل ما وهو يستند على قدم صناعيّة، ويكفل عائلته المكنوّنة من ثلاثة أفراد من ‏خلال معاش التضامن الاجتماعي الذي يحصل عليه بصعوبة. وعلاوة على ذلك، لم يعتمد على ‏المعاش فحسب، بل يسعى للبحث عن عمل مناسب. سأله الفتى أثناء الحديث إنْ كان متزوجًا أم ‏لا؟ فمازحه قائلًا: "لا أريد الزواج قبل حلّ مشكلة الشقة". وسأله عن شيء آخر متعلّق بهذا ‏الأمر، ولكن لا يتذكَّره الآن. ما يتذكَّره هو أنه كتب عنوانه، وأخذ رقم هاتفه، وأكّد عليه مرارًا ‏وتكرارًا أن يتواصل معه، وغمز بطرف عينه لصاحب المقهى الذي يعرفه ليُعلمه أنه مَن سيدفع ‏ثمن الشاي، وصاحَبَ الفتى حتى المحطة، ثم عاد إلى مكتبه.‏

بعد ذلك قَدِمَتْ "تاج رأس المدير"؛ أي سكرتيرته، وقالت إنَّ اليوم عيد ميلاد "كوبلاك"، وإنه ‏استعدَّ بشكل جيِّد، ويدعو الجميع مع زوجاتهم الليلة. شعر في التوّ بما يحويه هذا الخبر من معنى: ‏يجب أن نجمَعَ من الجميع بقدر المُستطاع لشراء هديّة؛ سوف تأتي (السكرتيرة) مع المدير، ولو ‏لزم الأمر يمكن أن تُحضر معها صديقتها...‏

انظر إلى حظ الناس، يصادف يومُ عيد الميلاد اليومَ الذي استلموا فيه الراتب، لو أنتَ رجل حقًّا، ‏امتنِع عن دفع ثمن الهديّة، سوف توصم بعد ذلك بـِ"البخيل". على أيّ حال السكرتيرة تظلّ مع ‏المدير طوال اليوم، ووجودها مع الموظفين لا يدفع إلى أيّ شك. صديقته قليلة الحياء. الله أعلم كم ‏شخصًا تعرّفت عليه حتى الآن؛ تريد الآن أن ترتبط بشخص ما، ربما بحثت ولم تجد مَن ‏يناسبها. هي خرّيجة جامعة. لديها عمل لا بأس به، إنها ليست جميلة، ولكنها أيضًا ليست ‏بالقبيحة. فقد كانت متوسطة الجمال، وكانت مشكلتها الوحيدة هي أنها ليس لديها منزل، وهذا أمر ‏يمكن التغلب عليه؛ يوجد منزلٌ خالٍ باسم جدَّتها منذ فترة طويلة، وهي رهن إشارة واحدة... ‏ولكن هذا الظالم لا يعطي هذه الإشارة اللازمة، أو بمعنى أصحّ، كان لا يفكر في الزَّواج بامرأة ‏مثلها.‏

لقد تحقَّق نجاح اليوم بالفعل بسبب الحصول على الراتب. الذين ذهبوا بحثًا عن الراتب اتصلوا ‏من البنك بعد الظُّهر وبشَّروا الجميع بوصول الراتب، وبعد ذلك عادوا إلى العمل مرَّة أخرى. ‏حقًا، حتى الساعة الثانية لم تفتح نافذة الصرّاف، كان المدير والمحاسب والصرّاف يعدّون النقود، ‏وقسموا النقود وخرجوا، وبعد أن استراحوا قرّروا توزيع ما تبقّى على العاملين. بالرّغم من أنه ‏كان الشخصيّة الثانية في الإدارة، إلّا أنّه في المسائل المتعلقة بالنقود يصبح في المرتبة الرابعة، ‏أي أنهم كانوا يعطونه قبل باقي الموظفين راتبه أوّلًا (أي بعد أخذ ما يكفيهم) ممّا تبقّى كنوع من ‏الاحترام. عندما لفَّ ثلاث رزم من النقود بكيس بلاستيكي، وضعها في دُرج المكتب ثم استشاط ‏غضبًا؛ أراد فجأة أن يفرش النقود على الأرض؛ من حجرته حتى حجرة المدير، ثم يمسك به من ‏رقبته السميكة، ويجعله يجمع النقود المفروشة على الأرض أمام أعين الجميع. عندما جاءت "تاج ‏رأس المدير" من أجل نقود الهديّة، غيَّر خطّته، فكَّر في أن يعلن أنَّ النقود التي أعطاها لشراء ‏هديّة بمناسبة عيد الميلاد "كوبلاك" خاصة بالإدارة؛ ولكنه -رغمًا عنه- اقتطع جزءًا من النقود، ‏فأخذت السكرتيرة نصيبها وقالت: "سوف آتي إلى عيد الميلاد وحدي، مع السلامة"، وانصرفت ‏في هدوء. ولكن يبدو من حالها أنها متضايقة.‏

في البداية لم يكن لديه رغبة في الذهاب إلى عيد الميلاد، لقد دفع نصيبه في النهاية، ويرغب في ‏أن يبحث عن عذر، ويختفي. لأنه غير معجب بـِ"كوبلاك". فهو شخصية مكروهة، مستغلة، ولا ‏يأتي من ورائه خير أبدًا، يوجد بينه وبين المدير تعاون مشترك يخفيانه عن الجميع، دائمًا يخرج ‏من عند المدير غاضبًا.‏

غيَّر "رأيه" قليلًا في نهاية اليوم؛ فهو لن يذهب مجانًا، لقد دفع ثمن الهديّة، ولا بأس من تغريم ‏‏"كوبلاك"، والضحك عليه حتى ولو قليلًا، فمتى ستُتاح له فرصة كهذه؟ وكذلك في مثل هذا اليوم ‏الموفَّق يجب أن يختمه في مكان ما، إمّا أن يذهب إلى عيد الميلاد، وإمّا أن يجد أحد أصدقائه ‏ويذهب معه إلى حفلةٍ ما...‏

دون أن يفكر كثيرًا، اختار الخيار الأوَّل؛ لكيلا يكون بعيدًا عن زملائه في العمل، وكذلك ليستفيد ‏بأيّ شيء من النقود التي دفعها للهديّة. وعلاوة على ذلك كان متأثرًا جدًا من "تاج رأس المدير". ‏قضى بقيّة وقته بشكل ما، وكان ما يزال متردّدًا حتى ذهب إلى منزل "كوبلاك". ولكن بعد ذلك ‏رأى أنه كان على صواب، كان "كوبلاك" وزوجته يتلألآن في ملابسهما مثل إعلانات الليل، ‏وكادا يجلسانه على رأسيهما. كان الحاضرون واحدًا وعشرين شخصًا. لقد دعا "كوبلاك" إلى ‏هذا الحفل المحترم مَن رآه مناسبًا وليس الجميع. وأكثرهم حضر بصحبة زوجته. جلس المدير ‏و"رأس تاجه" في مكان مناسب، وجلست النساء وكأنهن كُنَّ ينتظرن عيد ميلاد "كوبلاك"، لقد ‏تزينَّ بقدر استطاعتهنّ، وجلسن بجوار أزواجهنّ. كان المدير و"رئيسته" يتهامسان ويضحكان ‏ضحكات خفيفة، كان "كوبلاك" يشعر بفرحة عارمة بسبب تهيئة سبب الرّاحة لمديره.‏

لم يكن الحفل سيّئًا، ومنذ البداية عزف المدير عن إدارة الحفل، هكذا كانت رغبته، أكَّد بشكل ‏حاسم "أنه يريد أن يتحرَّر من قيد القيادة". وفي هذه الحالة شعر بقيد في عنقه جراء اضطراره ‏لإدارة الحفل، ورأى استحالة التخلُّص من هذا الأمر، فوافق على مضض. ونزولًا على رغبة ‏المشاركين في العمل، انتقل بجوار "كوبلاك".‏

وبسبب أنه كان معتادًا على مثل هذا الأمر، استطاع أن يدير الحفل ببعض عبارات المجاملة ‏العامة، وبالاستشهاد ببعض عبارات الفلاسفة التي نذكرها، وبإلقاء مقطوعات شعريّة من حين ‏لآخر، وإعطاء الكلمة للجميع فردًا فردًا ليقول بعض كلمات المجاملة. وقال الجميع كل ما ‏يرغبون في قوله، أي أنهم أخفوا ما لا يرغبون فيه بكلمات معسولة وابتسامات كاذبة، وأسعدوا ‏قلب "كوبلاك"؛ كان يجب عليه أن يتحمَّل كل هذا، كان بين حين وآخر يرغب في ضرب قبضة ‏يده في المنضدة، ولكن بدلًا من ذلك كان يجعل "كوبلاك" يحكي بعض النكات حتى يهدّئ من ‏الغليان الذي بداخله: "ما حكاية ذلك المدير الذي يبحث عن سكرتيرة بمواصفات خاصة؟" عندما ‏قال ذلك كان يرمق المدير و"تاج رأسه"، ويتفقد التفاتتها وضحكاتها خلسة، وسلّط "كوبلاك" ‏نظره نحو المدير منزعجًا وهو يقول: "لا، سوف أحكي نكتة غيرها"؛ "كان هناك شخص أعجب ‏بامرأة..."، كانت زوجة "كوبلاك" التي تجلس بجانبه تنهض من حين لآخر وتذهب إلى المطبخ، ‏وعندما تعود وتجلس، كان طرف فستانها شبه العاري يظهر ركبتيها ناصعتي البياض. كان ‏زوجها مشغولًا بالضيوف، ولم يكن في حالة تسمح له بأن يهتم بمثل هذا الأمر، لفتت المرأة ‏انتباهه مرّة أو اثنتين، ولكنها لم تحرّك ساكنًا؛ كأنها ابتسمت بخجل وضمَّت ركبتيها، ثم بدأت ‏تتحرَّك رويدًا رويدًا وكأنَّ شيئًا لم يكن، وعندما شكَّ بذلك قرَّر أنه من الأفضل ألّا ينظر إلى هذه ‏الناحية.‏

انتهت الحفلة بسلام. وبالنسبة للجميع، فإنَّ أكثر شيء ظلَّ في الذاكرة هو تبوُّل ابن "كوبلاك" ‏البالغ من العمر ثلاث سنوات فجأة بعد أن استيقظ من نومه وهو جالس في حضن أبيه. وعندما ‏عرف الضيوف بالخبر أغشي عليهم من كثرة الضحك، كما انضمَّت إليهم زوجة "كوبلاك" ‏وأخذوا جميعًا في الضحك، وآنذاك رفعت كأسها وقالت مازحة: "لقد أهداكَ ابنكَ اليوم أغلى هديّة ‏بمناسبة عيد ميلادك". ضحك الجميع على هذا الكلام وصفّقوا. وشعر الجميع بضرورة ‏الانصراف وقرّروا ذلك أثناء ذهاب "كوبلاك" وزوجته لتنظيف هذه "الهديّة". حقًّا، لا يذكر مَن ‏صاحَبَ مَن أثناء الذِّهاب، الشيء الوحيد الذي يتذكّره هو أنَّ "كوبلاك" وهو يودِّعه، تحدَّث معه ‏حديثًا طويلًا في شيء ما، وزوجته أيضًا ظلّت يدها في يده أثناء مصافحته تقول له بعض ‏الكلمات المعسولة.‏

عندما رأى أنَّ الجميع انصرفوا وتفرَّقوا، وبعد وصوله إلى محطة الحافلات، أدرَكَ أنَّ الظلام لم ‏يحلّ بعد، أي أنَّ الحفل استمرَّ قرابة ثلاث ساعات. على الرّغم من أنه شرب كثيرًا من الخمر، ‏إلّا أنه ما يزال يستطيع السير بشكل طبيعي، شعَرَ في عقله بما يشبه الضباب الخفيف، وعندما ‏رأى أستاذه بين المنتظرين في المحطّة، اضطرَبَ كثيرًا لدى رؤيته على تلك الحال؛ لقد أصبح ‏البروفيسور الذي كان طالبًا عنده قبل خمسة أو ستة عشر عامًا طاعنًا في السن، ولم يبقَ شيء ‏من علامة الهيبة والقوة التي كان يتمتَّع بها آنذاك، كان يرتدي بنطالًا وسترة شبه حريريّة، وعلى ‏رأسه قبعة من القماش نفسه. كان يضع يده على خصره ويتجوَّل في المحطة من هذه الناحية إلى ‏تلك، كما كان يفعل في قاعة المحاضرات. حاول أن يجبر نفسه على الاقتراب منه، ولكنه لم ‏يستطع، وكأنَّ هذا الرجل هو سبب جميع الإخفاقات التي تعرَّض لها طيلة السنوات الماضية، لو ‏كان سلَّم عليه، لربّما كان على الأقل سوف يكذب عليه؛ "حالي جيدة، وعملي ممتاز، وعائلتي ‏على ما يرام، أنا تحت أمر حضرتك في أيّ شيء..."، جيِّد حافلة الأستاذ وصلت، وأنهت هذا ‏القلق الذي يشعر به...‏

في تلك اللحظة رأى المرأة؛ وقفت بجوار بائع السمك الذي جلس واضعًا سلّته بجوار المحطة، ‏وكانت تقلّب سمكة "حفش" تزن اثنين كيلو جرامًا على جانبيها، وتفتح خياشيمها وتنظر إليها ‏وتشمّها، وكانت تجادل بائع السمك حول السعر. أثناء ذلك ألقى بائع السمك بعض الكلمات ‏الغامضة وهو يبتسم، فلم تردّ عليه المرأة، ولكن لم تشترِ السمكة أيضًا، وابتعدت عنه ووقفت في ‏المحطة تنتظر الحافلة. عند النَّظر إليها، كانت تبدو جميلة من مظهرها؛ فلم تتزيَّن ولم ترتدِ لباسًا ‏كاشفًا أو فاضحًا، وكانت تبدو عليها علامات الخجل. ولكن كانت تبدو أنها تعيش في حالة من ‏اليأس، على أيّ حال، عندما رأى أنَّ المرأة يبدو عليها أنها لا تنوي ركوب أيّ حافلة، خطرت ‏بباله هذه الأفكار: "فرضًا، أنني غير مستعجل للذهاب إلى أيّ مكان، ولا أريد الذهاب والبقاء بين ‏أربعة جدران في المنزل، ولو قابلتُ أحد أصدقائي سوف أجلس معه ساعة أو اثنتين على المقهى ‏وأضيع وقتي، فماذا بكِ أنتِ؟". بعد قليل بدأ شاب صغير السن باثر الوجه يحوم حول المرأة، ‏وما إن سنحت له الفرصة، قال شيئًا ما، وعندما غيَّرت المرأة مكانها كنوع من الاعتراض، دار ‏الفتى مرَّة أخرى حولها ثم انصرف...‏

تلاقت نظراتهما مرَّة أو اثنتين، وعندما التفتت المرأة للمرة الثالثة ونظرت إلى عينيه، فهم ‏بعضهما بعضًا من دون أيّ كلام. حقًّا، في البداية لم يكن في ذهنه شيء آخر، ولكن بعد ذلك فكّر ‏في أنه لا بأس أن يختم هذا اليوم الموفَّق بالتعرُّف على المرأة. لا يتذكّر جيدًا فيما تحدّثا، عندما ‏جلس في الحافلة بجوارها، بدأ يعود لوعيه بعض الشيء. كانت المرأة تتحدَّث عن بعض الأشياء ‏الحميمية من أجل أن تكتم اضطرابها وقلقها، وكانت تجتهد في أن تبعد شكوك الناظرين لهما من ‏الركاب، فكانت تقول إنها خرجت للبحث عن عمل، علاوة على أنَّ طفلها مريض، ويريد ‏السمك، كان يجب أن تشتري له سمكًا، كما قالت أيضًا إنها بصفة عامة لا تحب الخروج إلى ‏المدينة، وتحب الجلوس في المنزل، ولكن لو كانت قد وجدت عملًا براتب مناسب، كانت ستعمل ‏فيه. كانت تعمل حتى نهاية الأسبوع الماضي، ولكن تمَّ إغلاق الإدارة التي كانت تعمل بها، ‏فأصبحت في الهواء الطلق دون عمل، ثم تحدَّثت عن صعوبة العيش وحيدة، وذكرت أنه ليس ‏لديها أيّ مساعدة من أيّ مكان. فكَّر، وهو يصغي إلى كل هذا، في أنْ يتجرّأ ويدعو المرأة لتناول ‏القهوة في المنزل، ويتحيَّن الفرصة بأيّ حجّة، ويضع في حقيبتها النقود التي بقيت بعد هدية ‏‏"كوبلاك"، ثم يتركها تنصرف. كان يشعر أنَّ المرأة تتحدَّث بصدق، ولا تقول كذبًا حتى تبرِّر ‏لنفسها شيئًا.‏

عندما استدارت الحافلة من أحد الشوارع قال: "لقد وصلنا". دفع ثمن التذكرة ونزلا. وبالرغم من ‏أنه شعر بأنَّ حال المرأة التي كانت تتكلم بحميميّة طيلة الطريق تغيّرت تمامًا عندما نزلت، اعتقد ‏أنَّ سبب هذا هو تردُّد المرأة، فقال:‏

‏"هذا هو المنزل، أعيش في الطابق الأوَّل فيه، الباب الأيسر". خطت المرأة خمس أو عشر ‏خطوات كالمريض، وبعد ذلك توقَّفت، ووضعت يدها على جبينها: "لا، لا، لا أستطيع الذِّهاب". ‏كان في صوتها أنين وحزن. عندما سمع هذا تعجَّب وأصابته دهشة، أراد أن يوضِّح لها أمرًا ما، ‏ولكنه شعر في داخله بشيء غريب: "لماذا؟ ماذا حدث لك فجأة؟"، كانت المرأة ترتعد آنذاك، ‏وقالت بصوتٍ باكٍ وهي ترتعد: "مات زوجي في الحرب"، وعادت نحو المحطة وقدماها ‏تتخبَّطان.‏

تجمَّد الدم في عروقه وغرق في عَرَقه. كان الطريق البالغ حوالي خمسين أو ستين خطوة نحو ‏منزله عذابًا ومشقّة وكأنه طريق إلى جهنَّم. كان بداخله ما يشبه الفراغ أو الثقل، كان يريد أن ‏يقضي عليه. لم يتخيَّل أنَّ أحد أيام حياته السعيدة إلى حدٍّ ما ينتهي فجأة بهذا الشكل من العذاب ‏غير المُتوقع. كان عليه أن يتعذَّب على الأقل لمدة أسبوع أو عشرة أيام حتى يتخلّص من ‏الإحساس بالخجل، ويقهر نفسه حتى ينسيه الزمان ما حدث.‏

وقف فترة طويلة أمام الباب وفي يده المفتاح. لم يستطيع أن يدرك ماذا يجب عليه أن يفعل، ثم ‏رأى فراشة حطَّت على ركن أعلى الباب، كانت الفراشة كبيرة وسوداء، فوق أجنحتها نقط ‏ملوّنة، وكان غبار اللقاح الذي يعلوها يلمع تحت الضوء. أراد أنْ يمدَّ يده بهدوء ويمسك ‏بالفراشة، ولكنه تأخَّر، طارت الفراشة فجأة واختفت وسط الظلام. عندما فتح الباب كان ما يزال ‏يفكِّر في الفراشة. لقد سمع في مكان ما أنَّ مَن يمسّ الفَراش الأسود لن يعيش طويلًا.‏

‏- - - - - - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) الكاتب نريمان عبد الرحمانلي (1958م)‏

كاتب، ومترجم، وصحفي، وسيناريست. له عشرات الكتب المنشورة والروايات والقصص ‏القصيرة مثل: "كتاب المستقبل"، و"الإنسان الذي يعيش في الذكريات"، و"العاصف"، و"سفير ‏القلوب"، و"المسافر"، و"الفاسد"، و"الضحية". كما قام بتأليف أكثر من خمسين سيناريو لأفلام ‏وثائقيّة وإبداعيّة. فائز بجائزة "الفن الدولي" عام 2006م، وجائزة "الكلمة الذهبية" عام 2011م ‏من وزارة الثقافة والسياحة الأذربيجانية.‏