قصة "المعطف السميك"‏

 

‏  للكاتب عيسى مُغَانَّا(*)‏ ‏  ‏

فداكَ نفسي، فداكَ روحي، أقبِّل قدميك، يا أستاذ عيسى!‏

أتوسَّل إليك بتذلُّل، احتفظتُ بذلك الحادث في قلبي حتى بلغتُ هذا العمر الكبير، ولم أثق في أحد ‏غيرك، ولم أحدِّث أحدًا به سواك، أكتب تلك الحادثة! داخلي يحترق وقلبي ينفجر، أثناء شرحي ‏الدرس دون أن أنسى أدق التفاصيل، ودون عجلة وفي هدوء كامل، فجأة تغيَّرت حالي، ولا ‏أستطيع أن أتنفَّس. انطلق التلاميذ من مقاعدهم وتجمّعوا عند رأسي، أحدهم يعطيني الماء، ‏والآخر يقيس النبض، والثالث يدلّك يديّ وقدميّ، يتوسّلون لي باكين. العبارات دوّنتها ممّا قالوا: ‏‏"فداكِ نفسي، أيتها المعلمة!"، "فداكِ روحي يا معلمة"، أقبِّل قدميكِ، يا معلمة...".‏

استدعوا الطبيب للكشف عليّ، هزَّ طبيبنا كتفيه: "معلِّمتكم صحيحة البدن تمامًا أيها الأولاد. لا ‏تخافوا، يطرأ على الإنسان مثل هذه الأمور. سوف تمضي إلى حال سبيلها". لا أمضي يا ‏عزيزي! لا أمضي! بل بالعكس... أذهب إلى المنزل وحيدة! تتحوَّل الجدران إلى مكبَس، لتضغط ‏عليّ. ماذا عليّ أن أمثِّل؟ أفتح التلفاز: قناة، اثنتان، ثلاث قنوات، أربع قنوات، خمس قنوات، ‏عشر قنوات! جميعها مملوءة بالعريّ! عُريّ فظيع، عُريّ مقزِّز! إلى أين تذهب هذه الأمّة، يا ‏عزيزي؟ أعتقد أنه لا يوجد شيء صار مقدّسًا بعد! لا تعترض، لا يوجد بالفعل...! أغلق التلفاز، ‏أشعر بطنين في أذني. أقرأ كتب "تولستوي"، "دوستويفسكي"، و"بالزاك". كم يمكن القراءة؟ ‏يتعقّبني مرّة ثانية الحادث الذي حدَّثتكَ عنه. آه! اختفَتْ تمامًا مدرِّستكَ ذات الشعر الأبيض هذه، ‏وتحوَّلت، وأصبحت الفتاة التعيسة ذات الاثنين والعشرين عامًا عام 1942م! انظُر كم مرَّ على ‏ذلك الوقت: أكثر من نصف قرن! ثمانية وخمسون عامًا بالتمام! ولكن لا أستطيع أن أنسى تلك ‏الليلة، وذلك الرجل! مَن كان؟ مِن أين؟ ماذا كان اسمه؟ كيف كانت هيئته؟ هل تتذكَّر ما قلتُه لك؟ ‏أعتقد أنكَ نسيتَ. ثمانية وخمسون عامًا! أنتَ الآن لست تلميذي القديم، مَن بقي من رفاقك الآن؟ ‏لا أحد! أنا وحدي التي أعرف ذلك الحادث، وأنتَ أيضًا، إن لم تكن قد نسيت بعد. اكتُب! اكتُب! ‏كان هناك شيء يسمى الكهرباء، أو الإضاءة، كان يوجد فقط أضواء خافتة أحيانًا تكون حمراء، ‏وأحيانًا أخرى خضراء على امتداد خط السكة الحديد "باكو- تفليس". أمّا الدُّنيا فكانت مغمورة في ‏الظلام. اكتُب أنه كانت لا تشعل لمبات الكيروسين العادية في المنزل بعد غروب الشمس في تلك ‏الدنيا المظلمة. وكان لا يُسمح أيضًا بإشعال موقد في فناء المنزل. لأنَّ الطائرات المملوءة بالقنابل ‏كانت تحلِّق في السماء الحالكة المدلهمّة، وبين كل هذا، كانت توجد معلمة تسمى "عزيزة" يطلق ‏عليها الجميع "جميلة الدُّنيا" أثناء الساعات المُشرقة بالنَّهار. كما في الأساطير تمامًا، كانت تقول ‏للشمس لا تُشرقي، سوف أُشرق أنا، وتقول للقمر لا تظهر، سوف أظهر أنا، فنور وجهي يكفي ‏لضياء الدنيا. كان لا يوجد أحد بين الأساتذة يناديني "عزيزة" في الأماكن التي أذهب إليها أو ‏أتردَّد عليها -في المدرسة أو في البلدة- كان الجميع ينادونني "جميلة الدنيا"، صدِّق، صدِّق أنه ‏كان لا يوجد أحد من "الفتيان" ينظر إليّ بسوء، كانوا يحترمونني احترامًا شديدًا يا "أستاذ ‏عيسى"! وكنتُ أفخر بالفتيان الذين يحترمون الجمال. وكنتُ أفخر بأمَّتي! ولكن كان يوجد في ‏قلبي قلق يشبه الخوف والرُّعب، لأنه كما تعلم، لم أصادف عبدالله يرتاح إليه قلبي حتى الآن. ‏أقراني -الشباب، والرجال حتى سنّ الخمسين- جميعهم على خط الجبهة! لم يبقَ سوى الأطفال، ‏وبعض الشيوخ. عندما كنتُ أختلي وحدي بين الجدران، كنتُ أتوسَّل إلى الله: "يا إلهي، يا مَن ‏قبضتَ روح أمي الجميلة، أريد أن أحِبُّ وأُحَبُّ وأن أطرح عن كاهلي الوحدة! سخِّر لي إنسانًا ‏يرتاح له قلبي يا الله!".‏

ذات يوم تملَّكني اليأس، لم يكن هناك أحدٌ ليتسلَّم رواتب المعلمين من الإدارة التعليميّة، لماذا؟ لا ‏أعرف. كل واحد ذهب إلى حال سبيله. وكان مديرنا -هل تتذكَّر؟- رجلًا مسنًّا، علاوة على أنه ‏كان مصابًا بالملاريا وقال لي: "لو سمحتِ اذهبي أنتِ هذه المرَّة، يا جميلة الدنيا، سوف يسلّمك ‏الرواتب دون الانتظار في الدَّور، وستجدين وسيلة النقل، وتأتيني بسرعة". ليتَ لساني قد انقطع ‏عندما قلتُ له: "على العين والرَّأس". يا ليت قدمي قد كُسرت عندما ذهبتُ إلى المحطّة... أغلقتُ ‏جيدًا ياقة سترتي المطرَّزة الرقيقة في برد الشتاء القارس، وربطتُ أطراف شالي على رقبتي ‏بقوّة، وكما يُقال، دعوتُ الله أن ألحق بقطار "تفليس- باكو" الذي يمرّ في الساعة السابعة صباحًا، ‏وأصل حوالي الساعة الثانية عشرة، وأتسلّم النقود، وأملأ بها حقيبتي، وأعود قبل غروب ‏الشمس. وهنا بدأت التعاسة، فقد وصل قطار المستشفى المملوء بالجنود الجرحى بدلًا م قطار ‏‏"تفليس- باكو"، وتوقّف في محطتنا. وبعد ذلك جاء قطار "خانة" وتوقف، ولكن كان هو الآخر ‏مملوءًا بالجرحى. وفي النهاية، بعد منتصف النهار، أعطيتُ نقودًا لسائق وذهبتُ بمقطورة، ‏واستلمتُ النقود والخزينة على وشك الإغلاق، وبمساعدة الصرّاف ربطنا النقود في بطانة سترتي ‏وبلوزتي، حتى لا ينتبه الناظرون إلى "جميلة الدنيا"، ولا قدَّر الله يطمع الطامعون.‏

كنتُ فرحة عندما وصلتُ إلى محطة قطارات المحافظة؛ أوَّلًا لأنَّ "رزم النقود فئة المئة ‏الضخمة" جعلتني أشعر بالدفء ولا أشعر بلسعة البرد. والأمر الثاني، هو أنَّ قطار "باكو- ‏تفليس" جاء وتوقَّف في المحطة. ولكن مجرَّد أن وصلتُ إلى محطتنا، ساءت حالتي فجأة. كان ‏الوقت في نهاية شهر فبراير، كان الثلج وكذلك الرِّياح تضرب في نافذة عربة القطار، وكما ‏يُقال، أصبحتُ في قمّة الانتباه. فحظّ اليتيم أسود، فمَن يقع في ورطة ماذا يعمل سوى التوسُّل إلى ‏الله؟ "إلهي، سخِّر لي أحدًا من البلدة" ماذا سيفعل الإنسان هنا؟ كان يوجد مقعدان خاليان فقط في ‏حجرة الانتظار الصغيرة بمحطة القطارات. رأيتُ على أحد المقعدين جنديًّا وجهه ملطّخ بالنّفط ‏الأسود، عليه غطاء رأس مملوء بالأتربة، ويرتدي معطفًا طويلًا سميكًا خاصًّا بالجنود، كان ‏صدره وظهره وعنقه داخل شاش قطني سميك ملفوف، ويبدو منه فقط أنفه "أفطس"، وشاربه ‏الأصفر، وعيناه شديدتا الزُّرقة أيضًا. ظننتُ ربّما يكون من منطقتنا، لأساله، حتى أعرف مَن ‏هو. لم يُصدر صوتًا المسكين. ربّما كان فكُّه مصابًا بشدّة، فقال هامسًا:‏

‏- لم أرَ في حياتي جميلة مثلك! أنتِ ملاك، مَن أنتِ أيتها الفتاة؟

أقول عنه "المسكين"، أي مسكين؟! كانت عيناه محدقتين من الدهشة وتلمعان. بشكل تلقائي ‏التفتُّ، ونظرتُ للخلف. لم يكن هناك أحد سوى ذلك الشخص المغطّى بالنفط الأسود. ضربت ‏الرياح الباب فانفتح للداخل ثم للخارج مرة ثانية. مضى القطار. لم يظهر من المحطة سوى إشارة ‏المرور الحمراء. أرخى الظلام سدوله على نفسي: "لقد ضعنا، يا "عزيزة"! نصيبك إلى هذا ‏الحد".‏

انتابتني قشعريرة، وقلتُ له مداهنة:‏

‏- يا لها من إصابة شديدة يا ابن الوطن! من أين أنت؟ ولماذا أنت هنا؟

قال: "حُمّل ألف جريح إضافي في قطار المستشفى في تفليس. وزَّعوا نقودًا على الذين ‏يستطيعون السَّير أمثالي، وقالوا، اذهبوا أنتم بأنفسكم إلى باكو، إلى المستشفى. ركبتُ قطار ‏‏"تفليس- باكو"، ولم أجد مكانًا للنوم. منذ أسبوع وأنا لم أذق طعم النوم، كدتُ أموت. نزلتُ في ‏هذه المحطة حتى أنام. والآن أنتظر لأعرف بأيّ وسيلة سأذهب...".‏

نظر إليّ وأمعن النظر قائلًا:‏

‏- لا تخافي منّي. ولا تقولي إنَّكِ جئتِ صُدفة، ما الصُّدفة؟ امرأة جميلة بهذا الشكل في ‏مثل هذا المكان المهجور! ماذا تعملين وحدك في هذه الساعة من الليل في هذه الخرابة؟!‏

توكَّلتُ على الله، وحكيتُ له ماذا حدث لي. وقلتُ:‏

‏- معي نقود رواتب المدرِّسين. لا أعرف ماذا أفعل؟

سوف أذهب بشكل أو بآخر بمحاذاة خط السكة الحديد. ولكن أخشى أن تبتلّ النقود، ولا تعود ‏صالحة، وسوف تجوع أسر المدرِّسين في ظلِّ هذه المأساة! لا أستطيع الانتظار حتى الصباح. ‏المنطقة مملوءة باللُّصوص وقطّاع الطرق! مجاعة...‏

لا أستطيع أن أنظر إلى عينيه. لأنَّ عينيه أصبحتا تلمعان أكثر بشكل واضح. بدأ في إخراج إحدى ‏ذراعيه من المعطف السَّميك الطويل، وفتح حزامه.‏

خرجت روحي من مكانها، ماذا أفعل؟ أين أهرب؟! كنتُ أترنَّح وأرتعد، واسودَّت الدنيا أمام ‏عينيّ. ولم أفق إلّا في اللحظة التي ألبسني فيها معطفه الطويل، وربط حزامه أيضًا على ‏خصري...!‏

قال: "هذا المعطف الطويل سميك، لا يتسرَّب الماء إلى داخله، سوف تصلين بالنقود جافة تمامًا. ‏ولكن... تقولين إنَّ هذه المنطقة مملوءة باللصوص وقطاع الطرق، مجاعة... وأنتِ ملاك... ألا ‏تخافين أن تسيري وحدك في هذا الوقت من الليل؟!".‏

الأمر الغريب أنني لم أخفِ شيئًا مطلقًا عن الرجل الغريب ثانية.‏

فقلت:‏

‏- الخوف، ما الخوف، أنني أرتعد.‏

تردَّد بعض الشيء، ونظر إلى صدره، ونظر إلى ذراعيه، ومرَّر يده الوحيدة ببطء فوق فكّه:‏

‏- جسدي مملوء بالشظايا. لقبل أربعة أيام انفجرت بجواري عبوة ناسفة. لقد جفّت ‏الضمّادة الملفوفة عليّ والتصقت بي. لولا هذا المطر والثلج الملعون، كنتُ أوصلتكِ حتى باب ‏منزلك.‏

قلتُ:‏

‏- لا، لا، ماذا تقول؟! هل يمكن الخروج بهذا الجُرح الشديد تحت المطر؟!‏

نظرتُ إلى جسدي وقلتُ:‏

‏- وكذلك كان يجب ألّا تُلبسني المعطف. سوف تُصاب جروحك بالبرد، وتتورَّم لا قدَّر ‏الله!‏

فتحتُ الحزام، وخلعتُ المعطف، ووضعتُه على كتفه.‏

قلتُ:‏

‏- اجلس، الوقوف ممنوع لكَ تمامًا، اجلس!‏

غشى تلك العينين اللامعتين حزنٌ شديد، يا أستاذ عيسى! حزن لدرجة أنَّ قلبي تمزَّق. لم أرَ في ‏حياتي نظرة شوق وحُبّ كهذه.‏

قال:‏

‏- أتوسَّل إليكِ، لو تريدين، فلأخُرَّ تحتَ قدميكِ أقبِّلهما، أيتها الملاك! خذي المعطف... ‏والبسيه... البسيه بنفسك... زادَ وجعي. لا أستطيع أنْ أتحرَّك.‏

لم ألبسه. أمسكني من معصمي، وألبسني المعطف بصعوبة وهو يتأوَّه من الوجع. وربط الحزام ‏بصعوبة أيضًا.‏

قال:‏

‏- اذهبي، اذهبي وسوف أوصلكِ لمسافة قصيرة.‏

ماذا عليّ أن أفعل؟ كنتُ أبكي: "يا إلهي، ما هذا الإنسان!".‏

قلتُ:‏

‏- لا تخرج، سوف تُبلّ الضمّادة الملفوفة على الجروح!‏

لم أفلح في منعه من الخروج. خرجنا. وكان الأمر معاكسًا، حيث كانت الرياح عاتية وتهبّ، ‏وكذلك يرطمنا المطر والثلوج والبرد الشديد لدرجة أنني كنتُ لا أستطيع فتح عينيّ. وكان الظلام ‏حالكًا لدرجة أنني كنتُ لا أرى أمامي خطوتين. خطوْتُ خمس أو ست خطوات بمحاذاة السكة ‏الحديد حتى علقَ كعب حذائي بقضيب السكّة الحديد، فوقعتُ على الأرض.‏

كم تأوَّه المسكين! وكم تأوَّه عندما أمسكني من ذراعي ورفعني. فقلتُ:‏

‏- لا أرى! لا أرى شيئًا! لا أستطيع الذهاب!‏

كانت يده ممسكة بمعصمي.‏

قال:‏

‏- تعالي، أنا أرى. سوف أصحبكِ.‏

سخَّنت يده معصمي، شعرتُ بهذا أيضًا، سحب يده بسرعة، وقال:‏

‏-‏ أمسكي طرف قميصي، أمسكيه جيدًا، وسيري خلفي، لأبيِّن لكِ الطريق... تعالي!‏

سرتُ خلفه كما قال لي، كنتُ أتشبَّث بالطرف الخلفي لقميصه، وذهبتُ ببطء. ثم... حدث أمر ‏مدهش يا عزيزي. فجأة شعرتُ أنَّ يدي تسخن، وشعرتُ أيضًا بالدم الذي يسيل من بين أصابعي ‏مثل الماء المغلي.‏

‏- كفى! لا تذهب! الدم يسيل من جرحك! كفى!‏

هل زاد ألمه؟ ماذا حدث؟ لا أعرف، التفتَ إليّ منحنيًا وقال:‏

‏- حسنًا... اذهبي بنفسك، لو تستطيعين الذهاب، وعندما يطلع النهار تحضرين المعطف، ‏أو من الأفضل أن ترسليه مع شخص ما.‏

بعد أن تركتُ طريق السكة الحديد، كيف وجدتُ طريق بلدتنا؟ وكم سقطتُ على الأرض؟ وكيف ‏ذهبتُ؟ كلّ هذا لا يهم. ما إن وصلتُ إلى المنزل وفتحتُ الباب أمسكتُ بالمصباح الموجود أمام ‏النافذة. وملأتُ المدفأة بالحطب، وسكبتُ نصف نفط المصباح فوق الحطب وأشعلتُه. وسحبتُ ‏الكرسي بجوار المدفأة، وخلعتُ المعطف، ونشرتُه على مسند الكرسي، كان قد جفّ في الصباح، ‏فوضعتُه تحت إبطي وخرجتُ من المنزل.‏

لم يتوقف الثلج والمطر. تجمّدَت الأرض، وغطّى الثلج البرك. كنتُ أسرع دون أن أغوص في ‏الوحل والطين، عندما وصلتُ وجدتُ في صالة الانتظار خمسة أو ستة أشخاص واقفين دون ‏حراك في هدوء تام، كانوا ينظرون إليّ تارة، وتارة أخرى إلى المقعد. ممدَّد على ظهره على ‏المقعد. لقد تجمَّد الدم الأسود بدلًا من الشاش الأبيض على صدره وذراعه وفكّه.‏

سقط المعطف من تحت إبطي. وانعقدت ركبتاي. تمالكتُ نفسي ولم أدع عيني تذرف الدموع، ‏رأيتُ شريطًا من الشاش معقودًا فوق رأسه: فتحتُ العقدة، وكشفتُ عن وجهه منتزعة الشاش من ‏الجروح الجافّة. وبإصرار رفعتُ جفون عينيه فغمرني إحساس غامض، وفتحتُ عينيه. وكنتُ ‏أقول: "يا إلهي، يا إلهي، لمَ منحتني ما كنتُ أنتظره منذ سنوات طوال، ولمَ حرمتني منه، يا ‏إلهي!".‏

نزل ثلاثة أو أربعة أشخاص من قطار المستشفى، وقدموا، وضعوه على نقّالة، ووضعوا معطفه ‏على وجهه، وحملوه بعيدًا...‏

على الأقل، كنتَ قد أخبرتَني عن اسمك يا ابن الوطن. فليظلّ اسمك "ابن الوطن"، أيها الطاهر ‏النقي...!"‏

اكتُب هكذا يا تلميذ "عزيزة" العزيز. أليست دنيانا العارية معطفًا طويلًا؟

‏- - - - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) الكاتب عيسى مُغَانَّا (1927-2014م)‏

مؤلف وسيناريست وكاتب سينمائي أذربيجاني. حصل على لقب "كاتب الشعب الأذربيجاني"، ‏ولقب "خادم الفن القدير الأذربيجاني"، أوَّل مَن حصل على جائزة "نسيمي".‏

له عشرات الروايات والقصص الطويلة والكتب مثل "القلب المحترق"، و"الناس القريبة ‏والغريبة"، و"التلجرام"، و"صوت البندقية"، و"آثار في عمري"، و"المحش"، و"المثالية" ‏و"المثابر"، و"جهنم".‏

تُرجمت أعماله إلى اللغات الروسية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والعربية ‏والفارسية والتركية وجميع لغات شعوب الاتحاد السوفييتي السابق.‏