قصة "رصاصة الخائن"‏

 

‏        للكاتب إسماعيل شيخلي(*)‏

ترجمة: د.أحمد سامي العايدي(**)‏

 

عندما كان شيخ البلد "نفتلي" يغيِّر لجام الحصان، وحينها أراد أن يغيِّر سرجه كذلك. وكعادته ‏أراد أن يغسل ظهر الحصان من العرق بماء الترعة، ولكنه تراجع عن فكرته. كان لجام الحصان ‏طويلًا يقترب من مجرى الماء. وكان "نفتلي" يعرف أنَّ الجوَّ حارّ، وأنَّ الحصان غارق في ‏عرقه، ولكن لا يوجد حلّ لهذا! أراد أن يربط الحصان في أيّ مكان، ويغيِّر لجامه حتى لا يعرق، ‏ويرفع عنه السرج كي يستطيع أن يأخذ نَفَسه. أمّا الحصان فكان عليه أن يأكل، أو يصهل، أو ‏ينزع الوتد ويذهب إلى الحظيرة. كان "نفتلي" لا يشبع من النظر إلى حصانه اللامع ذي العينين ‏الجاحظتين، وحتى إلى مؤخرته، وإلى شعر رأسه الناعم الذي يشبه شعر الفتاة. وكان في أحيان ‏كثيرة يقبض على شعر الحصان، ويمتطيه، ويذهب به إلى نهر "كور" ويحمّمه، وكان في أحيان ‏كثيرة ينام على شعر رقبته، ويقفز إلى الجانب الآخر. آنذاك لم يكن لديه أو لدى الحصان أيّ ‏خوف. كان شابًا عاديًا.... ولكنه الآن -بعد أن أصبح شيخ البلد- صار يعيش حياة مضطربة...‏

صعد إلى التل الصغير بخطى وئيدة. قفز من على مجرى الماء ووقف تحت ظل الأشجار. سلّط ‏عينيه نحو حقول القمح الممتدّة في الآفاق. كانت هناك رياح تهبّ. وكانت أعواد السنابل السوداء ‏تصطفق. كما كانت أشجار "الحور" الممتدّة وسط هذه الصحراء الرمادية الواسعة التي ذبلت ‏حشائشها منذ زمن بعيد تصطفق هي الأخرى. كان مجرى الماء النابع من أعماق هذا الشجر الذي ‏غرسه أحد الموتى من أجل الثَّواب يُصدر خريرًا. نظر شيخ البلد "نفتلي" إلى السجّادة والوسادة ‏المُلقاتين في الظِّل. كان دائمًا عندما يأتي لزيارة المزارعين يستلقي هناك ويستريح. والآن مرَّ من ‏فوق السجّادة وأراد أن يتكئ على الوسادة. وبالرغم من أنَّ الجو خانق، إلّا أنه لم يخلع نعليه ولم ‏يضع عن كتفه بندقيّته ولم يلقِ عكّازه. ولكنه رأى أنَّ هذا الوضع مستحيل، فالعرق يكاد يُغرقه. ‏علاوة على ذلك فممَّن يخاف؟ فربَّما "كرم"(1) الآن في ناحية "ديليجان"، مستحيل أن يكون ‏‏"كرم" هنا في حرّ هذا الصيف. ‏

حتى ولو كان موجودًا، لا يخشى ذلك. لأنه لم يطلق رصاصة طيلة حياته على شخص أعزل. ‏كان يحتاط فقط من ذلك الفتى (أيْ كرم)، فبعد أن بدأ "كرم" في مناهضة السلطة والإقطاعيين، ‏كان يتجوَّل في هذه الأماكن والمراعي....‏

أسند بندقيّته على الشجرة، وخلع نعليه، وفتح أزرار قميصه ذي الياقة الحريرية، واستلقى على ‏السجّادة، واستند إلى الوسادة. كانت مناجل المزارعين الذين ربطوا مناديل الجيب على رؤوسهم ‏تصدر أزيزًا، فيختلط صوت هذا الأزيز مع أصوات المراعي. كان المزارعون منهمكون في ‏العمل. يريدون أن ينهوا أعمالهم بسرعة، ليتقاضوا أجورهم، وليذهبوا بالقمح لأولادهم في ‏المراعي الصيفية(2). لذلك كان شيخ البلد "نفتلي" يُسرع هو الآخر، لأن الناس ولجوا منذ فترة ‏إلى المرعى، مع أنه كان قد أجَّل رحيله إلى المرعى الصيفي. والحق أنه كان يخشى من البقاء ‏وحيدًا في القرية. هناك أشقياء كثيرون... أحدهم هو "مرشد الغريب".‏

كان لا يعرف أحدٌ في القرية جذور هذا الغريب، الشيء الوحيد الذي كان معلومًا منذ زمن بعيد ‏أنَّ غلامًا كان يقف أمام منزل أسرة "نفتلي" مُهلهَل الملابس، يعتصره الجوع، ذا نظرات مريضة ‏مطأطأ الرأس. كانت في يده عصا، وعلى ظهره "شوال" قديم، وعلى رأسه قبعة متهالكة. شعث ‏شعر وجهه وجفَّت شفتاه من شدة البرد. كانت عيناه تبرقان بصعوبة كماء في غياهب بئر عميق.‏

خرجوا على صوت الضجيج بعد أن نبحت الكلاب على الواقف أمام الباب، متسائلين: "أيها ‏الصغير، من أنت؟" وضع والد "نفتلي" معطفه المصنوع من الفراء على كتفه، واتَّجه هو وابنه ‏نحو باب حديقة المنزل. نظر بتعجُّب إلى هذا الذي قدم من مكان ما، وفهم أنه ليس من أهالي هذه ‏البلدة. سرعان ما أصبح لجوء بعض الغرباء إلى القرية أمر متكرِّر في الآونة الأخيرة، حيث يلجأ ‏مثل هؤلاء للقرية إمّا بعد أن يكون أحدهم قد قتل عدوّه وجاء ليختبئ في هذه القرية، وإمّا أن ‏يكون هائمًا على وجهه في هذه المناطق من أجل كسرة خبز. تفقَّد الرجل الفتى من رأسه إلى ‏أخمص قدميه وقال في نفسه: "لا، هذا الفتى لا يشبه مَن قتل شخصًا وهرب، ربّما في الأمر ‏شيء آخر". في الحقيقة لم تُعجب الرجل عينا الفتى العميقتان.‏

كأنَّ الغريبَ شعر بهذا، وفطن إلى أنه سوف يصدّه عند الباب ويطرده والشتاء في بداياته، فجعل ‏في صوته بعض الشفقة: ‏

‏-‏ أنا لاجئ أيها الخال، وليس لي أحد مطلقًا.‏

نظر الرجل لابنه. أمّا "نفتلي" فركَّز عينه على إصبع قدم اللاجئ التي خرجت من حذائه ‏المتهالك.‏

‏-‏ من دلّك على هذا المكان؟

‏-‏ لا أحد. جئتُ من نفسي. أستجيرُ بكم. ‏

نظر الوالد إلى الابن، والابن إلى الأب.‏

‏-‏ ما اسمك؟

‏-‏ مرشد.‏

أكان يقول الصدق؟ الله أعلم، ليس معه أيّ مستندات، أو دليل على هويّته. كان شخصًا غريبًا. ‏ومنذ ذلك اليوم وهم يطلقون عليه في القرية "مرشد الغريب".‏

في البداية كان يرعى الماشية، ثم ذهب إلى المزارع. وأصبح صديقًا لـ"نفتلي"، بل أصبحا ‏أخوين. وبعد أن مات والده، أعطاه "نفتلي" أرضًا.‏

تعاونوا وبنوا له منزلًا صغيرًا. وأعطاه نصيبًا أيضًا من الماشية، وأهداه حصانًا أيضًا. وتزوَّج ‏إحدى بنات الأقارب وفتح بيتًا. كان "مرشد الغريب" ماهرًا. بعد أن بدأت الأموال تجري في يده، ‏اتجه إلى "تفليس" و"غنجة". وتحسَّنت معيشته. بل تحسَّن هو الآخر من حيث البنية والصحة ‏والمنظر العام.‏

سمع "نفتلي" ذات يوم أنَّ "مرشد" يضايق زوجته. لم يعجبه هذا. فدعاه إليه. وانتظر يومين أو ‏ثلاثة، ولكن لم يأتِه أيّ خبر من "مرشد". وذات يوم تقابلا في الطريق.‏

‏-‏ لماذا لا تظهر؟

‏-‏ ماذا حدث، هل من الضروري أن أظهر؟

‏-‏ ربما لديّ بعض الكلام لك؟

‏-‏ أيّ كلام من الممكن أن يكون لديك لي؟

‏-‏ آه، كم تتحدَّث بتعالٍ؟

‏-‏ أأصمت؟ ‏

زمجر الحصانان وشدّا لجامهما. وتواجها واقفين على أرجلهما الخلفية وأصدرا صهيلًا. علا ‏غبار الطريق إلى عنان السماء.‏

‏-‏ آه، ربّما، تملّكك الغرور؟ ما أسرع ما أصابك من غرور أيها الفتى؟

‏-‏ لا تتحدَّث كلامًا فارغًا، هات ما عندك!‏

كتم "نفتلي" غضبه بصعوبة:‏

‏-‏ لو سمعتُ مرَّة ثانية أنكَ رفعتَ يدكَ على زوجتك وأولادك، سوف أفعل معكَ ما ‏ينبغي فعله، فهمت؟!‏

‏-‏ أنت تخطئ، ما زلتَ تتذكَّر الماضي!‏

‏-‏ آه، أيها الوغد الغريب، أتردّ عليّ؟!‏

تزامن ضرب السوط في الهواء مع سقوط "مرشد" بجوار حوافر الحصان. وكان "نفتلي" قد ‏ضربه بالسوط وهو على ظهر الحصان. غضب الحصان هو الآخر مثل صاحبه، ودهسه تحت ‏أقدامه. لم يهدأ غضب "نفتلي"، فقفز ونزل من على السرج. أمسك بتلابيب "الغريب" الممرَّغ في ‏التراب، وجرَّه إلى جانب الطريق. وسلَّ خنجره.‏

‏-‏ لقد أخطأتُ، ونسيتُ ماضيّ، يا "نفتلي". لا تقتلني، أولادي مساكين. بحق قبر والدك، ‏اتركني لصغاري، تكسب خيرًا.‏

تركه "نفتلي". نظر بكراهية إلى عين "مرشد" التي كانت تشبه مياهًا تلمع في غياهب جبّ، وترك ‏مجامع ثيابه.‏

‏-‏ اذهب، أترككَ من أجل أسرتك.‏

نهض "مرشد" دون أن يتفوَّه بكلمة. نفض التراب من على جسده، وأمسك اللّجام وقفز على ظهر ‏الحصان صامتًا. اتَّجه نحو القرية وكأنَّ على رأسه الطير. وفجأة شدَّ اللجام، والتفت وراءه.‏

‏-‏ حسنًا، يا "نفتلي"... لن أكون رجلًا لو لم أقتصّ منكَ بسبب هذا. ستأتي وتأخذ الحمارة ‏التي ابتليتَني بها.‏

أصدر الحصان صهيلًا وهزَّ رأسه حينها عاد "نفتلي" إلى وعيِه. ركب "نفتلي" الحصان، وأدار ‏بندقيّته، وغاب عن الأنظار في هذا الطريق المغبرّ. وفي اليوم التالي سمع أنَّ "مرشد" أخذ أشياء ‏وهرب من المنزل...‏

بعدما تولّى "نفتلي" شياخة البلدة، بدأ الناس في الغضب منه بسبب أو من غير سبب.‏

مهما حاول الابتعاد عن المشاكل، وتجنُّب رؤية ما يفعله الناس من أخطاء، كان لا يفلح. كان ‏الناس يبحثون عنه ويجدونه ويلقون اللوم عليه (لماذا لم تقبض على اللص؟ لماذا قدّموا الطعام ‏إلى الهارب الفلاني؟ لماذا جعلتَ الشاطر "كرم" يعبر من نهر "كور")؛ ماذا كان سيفعل؟ ‏ولكن... أمثل هذه الأمور تدفعه لقطع علاقاته بالناس؟ المنصب مثل النير المعلَّق في عنق ‏حيوانات الجرّ، فهم يضعون هذا النير على عنق الحيوان ويركبون على ظهره، ويقودونه إلى ‏الاتجاه الذي يريدونه. فإمّا عليكَ أن تصبر، وإمّا عليكَ أن تجاريهم!‏

كان الجوُّ شديد الحرارة. وكان السَّراب المتصاعد من المراعي يلعق الهواء كنار الموقد، ويعلو ‏التلال الرماديّة وينتشر فوق القرية، ويَعبر من هناك فوق نهر "كور" الذي تتلألأ مياهه ويحرق ‏أشجار غابة "قارايازي". كانت اليعاسيب الملتصقة بجذوع الأشجار التي يتمدَّد شيخ البلد "نفتلي" ‏تحت ظلِّها تُصدر صريرًا يجعل أذن الإنسان تُصمّ. لقد ضاق "نفتلي" ذرعًا بالحَرّ وصرير ‏اليعاسيب. أرادَ أن يضع قدميه في الماء ليرطّب جسده ويبلّل صدره ورأسه ويستريح قليلًا. ‏نهض على قدميه، وخلع سترته واقترب من مجرى الماء، وجلس القرفصاء. مدَّ يده في الماء. ‏ولم يرَ الفرسان القادمين من الطريق الترابيّ المتَّجه نحو التلّ بجوار المقابر والممتدّ ناحية نهر ‏‏"كور". ولم يسمع صهيل الخيول وصوت ركابها أو حتى وقع أقدام الخيول؛ لأنَّ صرير ‏اليعاسيب أصمَّ أذنه. لم يشعر سوى برصاصة أصابت ظهره. سحَبَ يده من الماء واستقام، ‏والتفت إلى الخلف، فرأى أحد الفرسان قد سحب لجام فرسه وأسرع، واستدار صارخًا في ‏شخص آخر، وضرب بالسوط محدثًا صوتًا:‏

‏-‏ أيها الوغد الخائن!‏

لم يسمع شيئًا بعد ذلك. ضعف فجأة وتلاشى صوت القش، وهمس أوراق الأشجار، وخرير ‏مجرى الماء وصرير اليعاسيب، وأصبحت كل هذه الأصوات لا تُسمع. وملأ السراب المتوهّج ‏عينيه كأنّه جمر، وتموَّج أمام عينيه، وتحوَّل إلى ضباب، وغشى الضباب كلّ شيء...‏

قفز "كرم" من الحصان، وألقى بنفسه تحت الشجرة، أخذ رأس "شيخ البلد نفتلي" على ركبته. ‏أصابت الرصاصة ظهره وخرجت من صدره.‏

كانت عيناه مغلقتين. وعُرف فقط من خلال اهتزازة خفيفة لشفتيه أنه لا يزال على قيد الحياة. لم ‏يره "كرم" عن قرب هكذا منذ أن نشب بينهما العداء. لقد تغيَّر الرجل كثيرًا. وأصبح سمينًا بعض ‏الشيء، وامتدَّ قليلًا شاربه الكثيف. وابيضَّت جبهته بعض الشيء. وظهرت بعض التجاعيد حول ‏عينيه. رأى "كرم" أنَّ "شيخ البلد نفتلي" ينزف دمًا. فأسرع، ومدَّ عينه وفتح له أزرار القميص، ‏ولم يعرف كيف يساعد الرجل. وكأنَّ "نفتلي" شعر بهذا فتحرَّك قليلًا، فُتحت عيناه بعض الشيء. ‏نظر إلى وجه "كرم" بدقّة. هدأت -كماء راكد- حدقة عينه التي أصبحت مثل الشبكة، وفجأة ‏اتَّسعت. شعر "كرم" أنَّ بدن "نفتلي" انتفض، كأنَّ الرجل أصابته لفحة برد. فانتفض جسده هو ‏الآخر، وأصابه الضيق:‏

‏-‏ ماذا أفعل لك الآن يا "نفتلي"، لا أستطيع الذهاب إلى مدينة "غنجة" أو حتى إلى ‏‏"تفليس" وماذا أفعل لِما أصابك؟

سمع "نفتلي" الصوت، فأصابته الدهشة في البداية، ثم أفاق، ورفع رأسه قليلًا، وركَّز عينيه ‏المغرورتين في وجهه الشخص الواقف أمامه. ربَّما أدرك فوق ركبة مَن يستند رأسه. في البداية ‏انفعل. فشعر "كرم" بخروج شرر من عينيه. وهدأ فجأة بمجرَّد أن تلاشى هذا الوميض الذي ‏خفت كمصباح يوشك على الانطفاء. حرَّك شفتيه:‏

‏-‏ كرم؟

‏-‏ توقُّعك في محلّه، أنا كرم.‏

‏-‏ حسنًا، وجودكَ أمر جيد.‏

هزَّ هذا الكلام "كرم"، وكأنَّ الذي يحتضر على قدميه ليس عدوّه اللّدود، بل صديقه الحميم. وكأنَّ ‏هذا الشخص ليس هو الشخص الذي كان يتعقَّبه دومًا في الجبال والوديان ويتحيَّن الفرص ليقضي ‏عليه. قبل هذا العداء بفترة طويلة، كان الاثنان رفيقي طفولة وكاتمي أسرار بعضهما بعضًا، ‏حيث كانا يلعبان معًا ويسبحان في نهر "كور" ويعبران إلى غابة "قارايازي" ويرقصان بالخيول ‏ويتسابقان وسط القرية، ويذهبان معًا للقاء الفتيات اللائي ينظرن لهما خلسة. وأمّا الآن فيتحسَّر ‏الاثنان على بعضهما بعضًا.‏

كان الإنسان قديمًا شديد التسلُّح. كان لا يستطيع أن يقترب من "كرم"، وكذلك "كرم" لا يستطيع ‏الاقتراب منه. أخذ "كرم" بندقيته، وهام على وجهه في الجبال، وكان يقضي حياته على ظهر ‏الحصان. كان ينتقل مع العصابة التي معه من "تفليس" إلى "غنجة"، ويُقيم ميزان العدل في وادي ‏‏"وليحانه"، ويتخطّى الجبال ويعبر نهر "آراز"، وكان صيتُه يذيع أحيانًا في "إيروان" (عاصمة ‏أرمينيا حاليًّا) وأحيانًا أخرى في "إيران". أمّا شيخ البلد "نفتلي"، فكان يعيش في منزله وسط ‏أقاربه في نعيم. تغيَّر تمامًا بعد أن أصبح "شيخ بلد"، أرسل له "كرم" رسائل عدَّة مرّات، لكيلا ‏يضايق الناس أو يؤذيهم، ولكن لا فائدة. كان "كرم" يبحث عنه، كان يبحث عنه منذ فترة طويلة ‏حتى يحذِّره.‏

‏-‏ هل في عصابتكَ أحد جديد؟

تأخَّر "كرم" في الردّ على هذا السؤال الذي سمعه بصعوبة:‏

‏-‏ نعم.‏

‏-‏ من؟

‏-‏ مرشد.‏

‏-‏ ذلك الوغد؟

انطلقت هذه الكلمة كرصاصة أصابت قلبه، وكأنَّ عينيه غلّفهما السواد. جُرح جرحًا ‏عميقًا.‏

‏-‏ لجأ إليّ، ماذا أفعل؟

‏-‏ لجأ إلينا نحن أيضًا، والنتيجة كما رأيت.‏

تأوَّه الرجل. واعتقد "كرم" أنَّ السَّبب في تأوُّهه ليس الوجع من الجرح، بل الوجع من ضياع ‏فضله وخيبة ظنّه.‏

عمّ وجه شيخ البلد "نفتلي" عرق بارد، وتجعَّد وجهه، ثم بعد ذلك علا وجهه ما يشبه الابتسامة ‏بدلًا من الوجع والمعاناة.‏

‏-‏ الآن أستطيع أن أموت مستريحًا... الحمد لله، خاب ظنّي... وإلّا كنُت سأرحل عن هذه ‏الدنيا حزينًا. الشكر لله يا "كرم"، إنكَ لم تسقط من نظري... ارفع رأسي لأعلى قليلًا. ‏

أمسك "كرم" به من تحت إبطيه وأسنده على فخذيه. تمالك "نفتلي" وجعه وهدأ. وتسرَّبت من ‏وجهه ومضة حياة خفيفة تشبه أنفاس الطيور. نظر إلى الآفاق. شعر "كرم" بأنَّ عينيه اللتين ‏تشبهان الشبكة تنظران إلى الضفة الأخرى من نهر "كور"؛ نحو غابة "قارايازي" الممتدة بطول ‏ساحل النهر بداية من سهل "جبران جول"، ونحو منازل القرية الموجودة على مسافة بعيدة، ‏وكذلك نحو المزارع، والمراعي، وإلى أكوام أعواد القمح المجمَّعة، وإلى الأطفال الذين يرعون ‏الماشية. جفَّت المزارع في أماكنها. هبَّت رياح خفيفة مرَّة أخرى، فأصدرت أعواد القمح ‏خشخشة ثانية، وسُمع خرير الماء الجاري بمجرى الماء، وكانت اليعاسيب هي الأخرى تصدر ‏صريرًا من جديد. مرَّ من أمام عيني شيخ البلد "نفتلي" سراب متموِّج يشبه الحرارة الصادرة من ‏الموقد. ولكنه لم يكن يستطيع أن يميِّز هل عيناه متشابكة، أم هذا سراب؟

انتفض فجأة وحوّل وجهه صوب الفرسان من حوله. تفقَّد بنظراته رفاق "كرم" واحدًا واحدًا. وما ‏إن وقعت عيناه على "مرشد" حتى اقشعرَّ بدنه، وازداد ضيقه. رأى "كرم" أنَّ حال الرجل تغيَّر ‏فجأة، وكأنَّ حمرة حلَّت بخدَّيه. كانت هذه الحمرة هي حمرة آخر قطرات دم ضخَّها القلب الذي ‏يدقّ آخر ضرباته إلى عروقه. ركَّز "نفتلي" عينيه اللتين تنطفئان إلى وجه "كرم".‏

‏-‏ كرم، لديّ طلب أخير منك...‏

‏-‏ قُل، لأرى ماذا تريد...‏

‏-‏ اخرج مسدَّسك، واضربني في جبيني.‏

‏-‏ ماذا تقول؟

‏-‏ فليقُل الناس، إنَّ الشاطر "كرم" قتل "نفتلي"...‏

الرجل يقتل رجلًا يا أخي، وليس الوغد.‏

‏-‏ يدي لا تطاوعني.‏

‏-‏ إنْ لم تفعل ما أطلبه منك، تكون ابن حرام.‏

علا صدر "نفتلي"، وهبط رويدًا رويدًا.‏

تكدَّر "كرم". وبلع بصعوبة ريقه الذي تجمَّع في حلقه. بحث بعينيه على "مرشد"، فوجده. هزَّ ‏يده، وأراد أن يصوِّب البندقية في المكان نفسه، وأن يلطِّخ دم "نفتلي" بدم هذا الخائن القابع مثل ‏الثعلب. ولكنه غيَّر تفكيره قائلًا في نفسه: على أيّ حال لن يتركه أقارب "نفتلي" حيًّا، وكذلك لم ‏يرد أن يلطّخ يده بالدماء.‏

‏-‏ خذوا بندقيّته وحصانه، ودعوه، فليذهب إلى الجحيم! انزل من على الحصان، وعلِّق ‏بندقيتك في السرج. لو أمطرونا بالرصاص، لا دخل لكَ بنا، لا تحرِّك ساكنًا. سوف ‏نذهب إلى القرية. ‏

قرَّر "كرم" أن يذهب بنفسه ويسلِّم جثة "نفتلي" إلى القرية. سيحمله بين يديه، وسوف يأتي ‏حصان "نفتلي" خلفه، وسيضع رفاقه ألجمة الخيول على رقابها وسيسيرون خلف الجنازة في ‏صمت. كان يعلم أنَّ هذا أمر صعب. سوف يعترضهم أهل القرية، وستعلو صرخات النساء ‏والأطفال، ولطماتهم، وسوف يشددن شعرهنّ، ويولولن، بل ربّما أيضًا يطلقون عليهم ‏الرصاص. وسوف يوجد من بينهم مَن يتكلّم كلامًا فارغًا، وكذلك مَن سيبلّغ الشرطة. ولكن كان ‏لا يصدق هذا، لا يصدق أنه يوجد في القرية خائنون بهذا الشكل. هو كان على ثقة من أنهم ‏سوف يحملون الجثة بهدوء وسط القرية حتى منزل "نفتلي". وأنهم سوف يستقبلونهم طبقًا لعادات ‏القرية، حتى ولو كانوا في ذهول واندهاش. وسوف يشارك "كرم" وعصابته في مراسم الدفن. ‏وبعد مرور اليوم الثالث على وفاة "نفتلي"، سوف يقدِّمون واجب العزاء إلى أقاربه، وينصرفون ‏ويتوجَّهون نحو الجبال.‏

شعر "كرم" ببرودة فوق ذراعيه وفخذيه، فهمَ أنَّ بدن "نفتلي" يبرد. ولكنه ينتظر شيئًا ما في ‏أعماق عينيه الشاحبتين المسلّطتين نحو وجهه.... وضع يده بهدوء على جراب المسدس. وفتح ‏الزرّ وأصابعه تهتزّ...‏

‏- - - - - - - - - - - - - - - ‏

 

‏(*) الكاتب إسماعيل شيخلي (1919- 1995م)‏

كاتب أذربيجاني حصل على لقب "كاتب الشعب الأذربيجاني"، وعُرف أيضًا بـ"خادم اجتماعي ‏مرموق"، حصل على جائزة "ميرزا فتح علي آخوندوف" الأدبيّة. له العشرات من المؤلفات ‏الأدبية مثل "في مياه كرتش"، و"الجبال تنادي"، و"الطرق المنفصلة"، و"نهر كور المجنون"، ‏و"منافسي"، و"سنوات تعود للذكرى"، و"لا تفقدوني"، و"طرق الجبهة" وغيرها من المؤلفات. ‏تُرجمت أعماله إلى اللغات الروسية والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية وجميع لغات شعوب ‏الاتحاد السوفييتي السابق. شغل منصب "الأمين الأوَّل" لاتحاد الكتاب الأذربيجانيين (1981- ‏‏1987م)، ومنصب "أمين اتحاد كتاب الاتحاد السوفييتي السابق (1981- 1987م). كما ‏حصل على وسام "علم العمل الأحمر" عام (1979م)، وشهادات فخرية من اللجنة العليا للاتحاد ‏السوفييتي السابق. كما حصل على جائزة الدولة عن رواية "نهر كور المجنون".‏

 

‏(**) ترجم هذه القصة عن اللغة الأذربيجانية الدكتور أحمد سامي العايدي- أستاذ مساعد ‏كلية الآداب جامعة عين شمس. كما قام المترجم نفسه الدكتور أحمد سامي العايدي بترجمة ‏القصص الثلاث التي تتبع، وهي: قصة "الفراشة" للكاتب نريمان عبد الرحمانلي، وقصة ‏‏"المعطف السميك" للكاتب عيسى مُغَانَّا، وقصة "لا بدَّ أنْ ينفطرَ قلب" للكاتب فرمان كريم زاده.‏

 

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ يُقصد بـِ"كرم" هنا الشاطر "كرم"؛ ويسمّى في اللغة الأذربيجانية "قاجاق كرم"، وهو شخصية ‏شعبية في الأدب الأذربيجاني تعمل على مناصرة الفقراء في القرى، وتحاول منع ظلم الإقطاعيين ‏ومَن يمثلون السلطة في تلك الحقبة التاريخية. وهذه الشخصية دائمة الصراع مع السلطة ‏ويصاحبها عصبة مكوَّنة من العديد من الأشخاص الذين يعاونونها في تحقيق هدفها المتمثل في ‏سلب أموال الأغنياء والإقطاعيين وتوزيعها على الفقراء (المترجم).‏

‏(2)‏ ‏ بسبب الطبيعة الجبليّة في أذربيجان كان الناس في الشتاء يجلسون في الوادي، وفي الصيف ‏يصعدون إلى المراعي الصيفيّة أعلى الجبال حيث الجوّ المعتدل هناك (المترجم).‏