العولمة الثقافيّة بين الحلم والواقع

أنوار البطوش

كاتبة أردنية

 

ظهرت العولمة الحديثة بعد الحرب العالميّة الثانية وارتبطت بالولايات المتحدة الأميركيّة وبالثقافة ‏الغربيّة بشكل خاص، وهي لا تشبه تلك العولمة القديمة التي بالفعل أغنَت الشعوب فكريًّا وسلوكيًّا ‏وجعلتهم يستفيدون من بعضهم بعضًا؛ فكانوا يأخذون ما لا يُخالف مبادئهم الأساسيّة وقيمهم ‏الثابتة، بينما في العولمة الحديثة فإنَّ الولايات المتحدة سعَت إلى تصدير الثقافة الغربيّة على أنَّها ‏الثقافة الأكثر عدلًا وحريّة، والتي تحترم الإنسان وحقوقه وتمنح كل إنسان اختياراته في هذه ‏الحياة دون قيود أو ضوابط، فقدَّمت ثقافتها على أنَّها الثقافه الأسمى والأكثر مواءمة لجميع الناس ‏باختلاف أديانهم وعقائدهم وأعراقهم.‏

 

‏"تبادُل الثقافات، والعادات والتقاليد، والأفكار، بين الشعوب في دول العالم المختلفة، وأخْذ النّافع ‏منها والمتوافق معنا والعمل به، ونبذ السيئ والمُخالف منها وتجنُّبه"؛ هذه هي الصورة الورديّة ‏بين سطور الكتب والمؤلَّفات عن العولمة الثقافيّة، ولكنَّ الواقع شيء آخر، فالعولمة الثقافيّة التي ‏حدثت وتحدث ما هي إلّا مسخ لثقافة الشعوب العربية والإسلامية، ومحو لموروثهم وعاداتهم ‏وتقاليدهم ومبادئهم من صلة الرَّحم، إلى إكرام الضَّيف، إلى احترام الكبير، وبرّ الوالدين، ‏والترابط الأسريّ، إلى حشمة المرأة وتكريمها عن كل ما يمسّ حياءها، إلى وإلى وإلى جميع ‏عناصر الثقافة العربية التي تكوَّنت عبر آلاف السنين، فلكلِّ ثقافة خصائص تميِّزها عن غيرها؛ ‏سواء باللغة أو باللهجات المحليّة والأمثال الشعبيّة والفلكلور الشعبي والطعام، وحتى العادات ‏الخاصة بالأفراح والأتراح، وكل ما يعطي شعبًا معيّنًا هويّة خاصة به هو ثقافة، فجاءت العولمة ‏الثقافية لتوحِّد العالم أجمع بصبغةٍ واحدة.‏

ويعدُّ مصطلح "العولمة" مصطلحًا دقيقًا حديث النشأة، وقد بدأ بالظهور بعد الحرب العالمية الثانية ‏حين انتصرت دول المحور بدعم الولايات المتحدة الأميركية؛ فبدأت عندها الولايات المتحدة ‏بتصدير بضائعها ومنتجاتها وثقافتها أيضًا إلى جميع دول العالم وعلى جميع الأصعدة: ‏الاقتصاديّة عبر الشركات المتعدِّدة الجنسيّات والاستثمارات الضخمة حول العالم، والسياسيّة ‏التي تنتشر فيها الأخبار والأحداث السياسيّة عبر وسائل الإعلام التي تديرها هي، والعولمة ‏الاتصاليّة التي جعلت من العالم قرية صغيرة، وأخيرًا العولمة الثقافيّة محور الحديث هنا، وهي ‏من أخطر أنواع العولمة، حيث إنَّها تغزو الفكر والثقافة والتاريخ، تغزو العقل والمبادئ والقيم ‏التي تمتاز بها كل ثقافة وكل أمّة عن غيرها.‏

ولكنَّ فكرة "العولمة" أقدم بكثير من الحرب العالميّة الثانية، فتبادُل الثقافات والتجارة الدوليّة ‏العابرة للقارات ونقل السلوكيّات والعادات، بل حتى والكلمات بين الشعوب، هو أمرٌ حدث في ‏قديم الزمان، وأوّل مَن بدأ به هم العرب عبر تجارتهم؛ حيث إنهم نقلوا البضائع عبر البحار ‏والقارات، فمثلًا أتوا بالحرير من شرق آسيا وبالبهارات من جنوبها، وصدَّروا إلى كل العالم ‏العطور والبخور واللبان والأحجار الكريمة وبعض أنواع الخشب، إضافة للثقافة، نعم لقد صدَّر ‏العرب جزءًا كبيرًا من موروثهم والذي ما زالت بعض الشعوب حول العالم متأثرة به، وربّما ‏دون أن يعلموا، وعلى سبيل المثال لا الحصر فلنتحدَّث عن فرنسا مثلًا، يتفاخر الفرنسيون ‏بانحدارهم من شعب الغال، الذي كان يعيش في فرنسا منذ أكثر من ألفي سنة، وبكون لغتهم ‏الفرنسية خليطًا من اللاتينيّة والغاليّة، ولكن ما لا يدركه أكثرهم هو أنَّ الكلمات ذات الأصل ‏العربي أكثر في اللغة الفرنسيّة من الكلمات ذات الأصل الغالي، وفقًا لكتاب (أجدادنا العرب... ما ‏تدين به لغتنا لهم) والصادر عن مطبوعات دار "لاتيس" في العام 2017، والذي يحلّل فيه ‏‏"جون بريفو" البريفيسور في تاريخ اللغة الفرنسية في جامعة "سيرجي بنتواز" 400 كلمة ‏فرنسيّة ذات أصل عربي، ويسرد من خلال كتابِه تاريخ استعارة اللغة الفرنسيّة من العربيّة في ‏مختلف الحقول اللفظيّة، ومن بينها كلمات دارجة ومعتادة يستخدمها الفرنسيون يوميًّا، ويعتزّون ‏بها كونها تمثل جزءًا من الثقافة الفرنسيّة.‏

ولكنَّ العولمة الحديثة، والتي ظهرت بعد الحرب العالميّة الثانية والمرتبطة بالولايات المتحدة ‏الأميركيّة وبالثقافة الغربيّة بشكل خاص، لا تشبه تلك العولمة القديمة التي بالفعل أغنَت الشعوب ‏فكريًّا وسلوكيًّا وجعلتهم يستفيدون من بعضهم بعضًا؛ فكانوا يأخذون ما لا يخالف مبادئهم ‏الأساسيّة وقيمهم الثابتة، بينما نجد العولمة الحديثة، والتي سعت فيها الولايات المتحدة إلى تصدير ‏الثقافة الغربيّة على أنَّها الثقافة الأكثر عدلًا وحريّة، والتي تحترم الإنسان وحقوقه وتمنح كل ‏إنسان اختياراته في هذه الحياة دون قيود أو ضوابط، الثقافة التي ستجعل البشر أكثر حضارةً ‏وتطوُّرًا، وستصنع منهم علماء ومفكرين ومبدعين، إنَّها الثقافه الأسمى والأكثر مواءمة لجميع ‏الناس باختلاف أديانهم وعقائدهم وأعراقهم، الثقافة التي ستنصر المظلومين وتحرِّر المرأة ‏وتحمي الطفل وتمنح الشباب الانطلاقة والسعادة، وبالطبع هذا الهراء غير صحيح البتة، وما هو ‏إلا زيف وكذب عملت الولايات المتحدة على إقناع العالم أجمع به عبر كافة الوسائل الممكنة؛ ‏فتارة تجد هذه التلميحات في كتب المستشرقين المنتشرة بين أيدينا، وتارة نجدها في الأفلام ‏والمسلسلات والبرامج، وصولًا اليوم إلى وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات والمنتديات ‏الإلكترونية. وقد أثَّرت هذه التلميحات، المزروعة بخبث بين المشاهد والنظرات والكلمات، أثَّرت ‏على المجتمعات العربيّة أيّما تأثير، فتفكّكت العشيرة واستقلَّ الأبناء عن الآباء، ولم تعُد للعائلة ‏سلطتها ودفؤها، وأصبحت العادات والتقاليد تخلُّف ورجعيّة، وأصبحت التعاليم الإسلاميّة ‏خرافات وأساطير، وذهبت مع أدراج الرِّياح القيم والسلوكيّات التي تجعل من العربي عربيًّا!‏

وقد تبدَّلت المسمّيات؛ فأصبح الزواج المبني على تعارُف العائلات باحترام ومحبّة أصبح زواجًا ‏تقليديًّا، وأصبحت الأم التي تفرغ حياتها لتربية أبنائها ورعاية أسرتها أصبحت أمًّا جاهلة وغير ‏قادرة على إنتاج جيل مواكب للعصر، وتفشَّت بين شبابنا مشكلات وظواهر جديدة وغريبة دخيلة ‏علينا كالمثليّة الجنسيّة والإعلان عنها، بل والتَّباهي بها والمُطالبة بإعطائهم حقوقًا في ممارستها ‏بشكل قانوني ومشروع!‏

والمطالبة بمساواة المرأة بالرجل بدلًا من الدَّعوة إلى إعطاء كلّ منهما حقوقه التي هي في إطار ‏ما منحه إيّاه الله عزّ وجلّ من قدرات، فالله من صفاته العدل وليس المساواة، والعدل يتمثَّل بمنح ‏كل شيء ما يستحقّه ويتوافق معه ويناسبه، فليس من العدل أن أسقي شجرة الزيتون المعمّرة ‏كأساً من الماء مساواة لها بزهرة القرنفل الصغيرة المعلّقة في أصيص على نافذة البيت فقط ‏لأنَّهما نباتين!‏

إنَّ مخاطر الانسلاخ والخروج عن موروثنا وثقافتنا أكبر بكثير ممّا نتصوَّر، وتتعدّى ما قد نفكِّر ‏به اليوم، لأنّنا سنصبح كالغراب الذي قلّد الحمامة؛ لا نحن تمسّكنا بموروثنا ومبادئنا وثقافتنا ‏العريقة الضاربة جذورها في غابر السنين، ولا نحن استطعنا التفريق بين ما يصلح وما لا يصلح ‏لنا من الثقافة الغربيّة، فنصبح نسخة مشوَّهة لشعب آخر، وبهذا نمحو صفحات مشرقة كتبها ‏أجدادنا بدمائهم وأرواحهم، بشِعرِهِم ونثرِهِم، بمعاركهم وفتوحاتهم، بنوها وعملوا عليها حتى ‏نباهي بها العالم، لا حتى نخجل منها ونُداريها، فالثقافة العربيّة من أعرق وأقدم وأكثر الثقافات ‏غنىً بالشعر والنثر والقصص والحكايا، والأمثال الشعبية، والأطعمة، والملابس، والسلوكيّات، ‏والترابط، والمحبّة. ولا أظنُّ أنه من التحضُّر بشيء أنْ نستبدل "بونجور" بـ"صباح الخير"، ولا ‏أن نستبدل "أحبُّك" بـِ"آي لوف يو".‏