فايز محمد الحميدات
كاتب وشاعر أردني
الشُّهداء الأبرار؛ مناراتٌ عاليةٌ وقبابٌ منيفةٌ وبيوتٌ مشرعةٌ يخرجونَ في أيامِ الوطنِ زرافاتٍ ووحدانًا يقلِّبونَ حجارتَهُ ويكتبونَ سيرتَهُ ثمَّ يَطويهمْ غَبَشُ الذِّكرى قصصًا وأناشيدَ تتلوها الأمّهاتُ على مسامعِ الأطفالِ، فيحملونَها في حقائبِهمْ وينشدونَها في ساحاتِ مدارسِهمْ حتّى يخضلَّ النّدى وتخضرَّ الأرواحُ.
قصائدُ فخرٍ وأناشيدُ بطولةٍ تنشدُها الحناجرُ في كلِّ صباحٍ من صباحاتِ الوطنِ فتردِّدُ معهم الأشــجارُ والأحجارُ: خالدونَ، خالدونَ، خالدونَ.
إنهم الشُّهداء نَثيثُ الفجرِ وأُرجوانُ الضُّحى ونَفْحُ الخُزامى وزهرةُ الصبرِ ووردةُ الدمِ ومفتاحُ السُّؤال.
فهنا في القدس وعلى أفقِ النَّدى تتألقُ أرواحُهم، ومن فوقِ مآذنِ المساجدِ ترفرفُ بأجنحَتِها النّورانية، تقطعُ دروبَ الوطنِ شرقًا وغربًا ثمَّ تنهلُّ ثلجًا أبيضَ يكسو قممَ الجبالِ بحلَّةِ الوقار. يطلعونَ من ترابِ الأرضِ زيتونًا وريحانًا ووردًا مختلفًا ألوانُـهُ وأشكالُـهُ يزيّنُ خضرةَ الربيعِ بأعناقهِ المتفتحةِ، ويعطِّرُ أجواءَ الوطنِ بشذى نجيعهمْ الطّيبِ الطّاهر.
إنهمْ شهداءُ الجيشِ العربي على ثَرى القدس، إنهمْ فرسانُ كتيبةِ الحسين "أم الشّهداء"(*) التي ظَلَّتْ تَزهو على الكتائبِ باسمِـها ورسمِـها وشهدائِـها الأبرار، وما زالَ فرسانهُـا من بواسلِ الجيشِ العربي يحرسونَ ثغورَ الوطنِ لكي لا يمرَّ طامعٌ، فهمْ على عهدِهم الأوَّل "وما بدَّلوا تَـبْدِيلا".
فُرسان كتيبةِ الحسين في القدس: حكاياتٌ وراياتٌ ورؤىً ورماحٌ وبساطٌ من الحريرِ نسجَـهُ الرّجالُ بأفعالهم لا بأقوالهم: سُدَاهُ من الشّجاعةِ وَلُحْمَتُهُ من التضحية.
فرسان كتيبة الحسين: صورٌ من البطولة، وأحرُف من ذهبٍ في كتابِ الرّجولة، وقصصٌ محفورةٌ في ذاكرةِ الوطن، منقوشةٌ على جدرانِ التّاريخِ تحضرُ ببهائِها ونقائِها كلّما قيلَ "الجيشُ العربيّ".
فرسانُ كتيبةِ الحسين:
كلُ واحدٍ منهمْ سيفٌ "كأنَّ في يدِ جَـبَّارِ السَّمَاواتِ قَائمَهُ" يحضرونَ في هذا اليوم تسطعُ بطولاتِهم "كالشَّمس التي لا تَخفى بكلِّ مكانِ" تستعصي أسماؤهُم على النسيانِ "فمثلُهمْ لا يُـنْسى ومثلُنا لا يَـنْسى" وَمَنْ يَستطيع أن يَـنسى الملازمَ الشهيد كمال جرادات ضابطَ الملاحظةِ الأماميةِّ في تَـلْ المدَوَّرَة وهو يعطي موقعَـه كهدفٍ لرمايةِ المدفعيّةِ بعد أن حاصرَهُ العدوّ.
وهل يَنسى الزمن قتالَ السَّريةِ الثانيةِ في تَـلْ المدَوَّرَة وهي تُدافعُ عن خَنادِقِها ببنادِقِها لكي يَبقى هناكَ مُـتَّسَعٌ من الوقتِ لصلاةِ الفجرِ في رحابِ الأقصى.
الشُّـهداء: أحمد حسن مهدي، وعلي عبدالله مناور، وفلاح محمد دحيلان، ولافي عايد ضبعان، وزملاؤهمْ من فرسانِ كتيبةِ الحسين قَاتلَ كلُّ واحدٍ منهم قتالًا عنيفًا ليسَ من السَّهلِ وَصْـفُهُ، كانوا يحرسونَ حلمَ الأمةِ بإمكاناتِهم المتواضعةِ، يسعفونَ ضعفَها بشجاعتِهم النَّادرة، ويمسكونَ ميزانَ التَّاريخِ لكي لا يميل. خرجوا من قُراهم وبواديهم بملامحهمْ الأردنيةِ السَّمراء، وكوفيّاتِهم الحمراء، يدافعونَ عن القدس التي:
يَحنُّ إلـيـهَا كلُّ قلبٍ كـأنَّـمَا
تُــشَــــــادُ بِــحَـبَاتِ القـلـوبِ رُبُـوعُهـا
خرجوا لا يحملونَ إلا إيمانَهم وأسلحتَهم البسيطةَ، يقاتلونَ الشَّرَّ لكي لا يَطغى الطُّوفَانُ، ولكي تبقى القدسُ مدينةَ السَّلام، فَطَرَّزوا في سِفْرِ التَّاريخِ أروعَ الصفحاتِ وأبهى الكلمات، فما كتبوا فيه صفحةً سوداء، ولا سَوَّدوا صفحةً بيضاء، وظلَّ التَّاريخُ يذكرُهم وينحني إجلالًا كلَّما قيلَ "شُهداءُ الجيشِ العربيّ".
يقودهم ضابطٌ محترف، وعابدٌ متبتل، يتقنُ الخشوعَ في المحراب، فمنحه الله الشموخَ في ميادين المعركة، إنه الرائد الشهيد منصور كريشان؛ تعرفه القدس جيدًا: إن اقبلَ اشتاقت إليه، وإن غاب اخضَلَّتْ عيونُها بالدموع أعطتْهُ مفاتيحَ قلبِها فعرفَ أحزانها وآلامها وظلَّ يحارب على أسوارها يحاول أن يفتح "بابًا يعيد الحقولَ إلى أوَّلِ القمح" إلى أن خرجَ منها بعد نكسةِ حزيران وظلَّ يخوِّض في هشيرِ الموت يلبسُ لباسَه ويطلبه في كلِّ معركةٍ فاختارهُ الله إلى جواره "مع النبيينَ والصديقينَ والشهداء وحسنَ أولئك رفيقا".
فرسانُ كتيبةِ الحسين: كانوا في عَشِـيّـةٍ من عَشايا حزيران عامَ سبعةٍ وستين يُراودونَ الليلَ لكي لا يَـغْفو على أسوارِ المدينةِ المقدَّسةِ، عيونُهمْ يَقْظَى، وأعصابُهُمْ مُـتَحَـفِّزَةٌ، وأيديهمْ على الزِّناد. ينامُ الليلُ ولا تنامُ عيونُهم، ويصحو النَّهار وما غفتْ لهم عَينٌ، يراقبونَ تحرُّكاتِ العدو، ويشدّونَ عزيمةَ الأهلِ ثمَّ يَمِيلُونَ على أسلحتِهم "رُكَّعًا وسُجَّدًا" لا يبتغونَ عرضَ الحياةِ الزَّائلة.
كلَّما سَمعوا صَوتًا طَاروا إليهِ يَتسابقونَ على الموتِ كأنَّهم يتسابقونَ على الغنائمَ وصدى صوتٍ يملأُ المكانَ خشوعًا وجلالًا: "من المؤمنينَ رجالٌ صَدقوا ما عَاهَدوا اللهَ عليه" فكانوا من الصَّادقين: إنْ هَزُّوا نخلةَ القدسِ تَساقطتْ عليهم سكينةً ورحمةً، وانْ عَطِشوا سَـقَـتْهم من نَدى مآذنِهَا راحةً وطمأنينةً، فَسَقَوْها من رحيقِ أعمارِهم ما يُـبقيها حيّةً على مَدى الزَّمن، كانوا يسندونَ أسوارَها بأجسادِهِم، ويوسِّعونَ آفاقَها برؤى أحلامِهِمْ النَّهضويةِ، وحينَ ترتفعُ مآذنُها يَشْمَخُون، وإنْ ردّدتْ "اللهُ أكبر" يُـقبلونَ، تُـنادي على التّاريخِ من خلفِهم فيستندونَ إلى جبلٍ عظيمٍ من التّضحيةِ والفداءِ، ثمَّ تَـمدُّ الأرضَ تحتَ أقدامِهم، فينطلقونَ من خندقٍ إلى خندقٍ ومن شارعٍ إلى شارعٍ ومن تلّةٍ إلى تلّةٍ تحلقُ من فوقِهم الطّائراتُ وهي "تأخذُ العاشقَ من حُضنِ الفراشة" لكنَّهم يَتقدّمونَ ولا يَـنثنونَ؛ تَنْثَني من فوقِ عزائمِهم جنازيرُ الدّبابات، ويوقظُ أزيزُ رصاصهمْ وَدَوِّيُ مدافعِهم نائماتِ الهمم، وتطيرُ في المدى الأرجواني عصافيرُ أرواحِهم، فهمْ شُهداءُ القدس، كانوا يرتفعونَ من شوارعِها شهداءَ كلَّما ارتفعَ منهمْ شهيدٌ تفتحتْ أبوابُ السَّماءِ، وكلَّما فُتِحَ بابٌ توافدوا إليه: "فَرِحِين بما آتاهمْ اللهُ من فضلِهِ ويستبشرونَ بالَّذينَ لم يَلحقوا بهمْ من خلفهم ألا خوفٌ عليهمْ ولا هم يحزنونَ".
فرسانُ كتيبةِ الحسين:
رجالٌ "تُحْصى الحَصى قبلَ أن تُحصى مَآثرُهم" لم يلتزموا بسوى الأرضِ فهي أمُّهم الرؤومُ وهمْ أبناؤها البَرَرَةُ، وها نحنُ اليومَ نَمحو رُكامَ السِّـنين عن بَواسِقِ أفعالِهم وطيباتِ أعمالِهم ولأنّنا نحبُّهم نجلسُ بينَ أيديهمْ وَاجِمِيْنَ "فآخرُ مَنزلةٍ في الغَرامِ الوجُوم".
فرسانُ كتيبةِ الحسين:
أبناءُ الأرضِ، وحُرَّاسُ الذَّاكرةِ، وبستانُ الوطنِ، حديثُ الذّكرياتِ وذكرى الصَّامدينَ الصَّابرينَ. إنَّهمْ الخالدونَ في ذاكرةِ القدسِ، والباقونَ على أسوارِها العتيقةِ نُقوشًا لنْ يَمْحُوها الزَّمنُ ولن تَنساها الأيامُ.
محطة للذاكرة:
من فلسطين الى عمّان وفي فجر يوم الاثنين الثاني عشر من كانون الثاني عام الفين وستة عشر تم نقل جثمان أحد شهداء الجيش العربي من مقبرة الشهداء في موقع النبي صموئيل في القدس وقد كان جثمانه يرقد إلى جانب زملائه، والذين بسبب ظروف الحرب حينذاك، دفنوا دون أن يكون هناك تعريف لأسماء بعضهم.
وفي مراسم عسكرية ينطلق موكب الشهيد من ميدان الرّاية في الديوان الملكي الهاشمي إلى أعلى ربوات عمّان؛ إلى صرح الشهيد، حيث أعيد افتتاحه مجدّدًا محمولًا على عربة المدفع ذاتها التي حملت جثمان المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال طيَّب الله ثراه، ملفوفًا بالعلم الأردنيّ، ترافقه كوكبة من الفرسان وتشكيلة من الآليات العسكرية الحديثة.
ويصطفُّ الجنود من مختلف صنوف ووحدات القوات المسلحة الأردنية- الجيش العربيّ، والأجهزة الأمنية، مجموعة منهم ترتدي لباس القدس، الذي يرمز إلى المعارك التي خاضها الجيش العربيّ في فلسطين.
وتحلِّق فوقهم الطائرات العامودية التي تحمل راية الثورة العربية الكبرى، وعلم المملكة الأردنية الهاشمية، وعلم القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية- الجيش العربي، وتطلق المدفعية إحدى وعشرين طلقة تحيّة للشهيد. ويُحمل الشهيد على أكتاف النشامى من الضباط وضباط الصف في مراسم عسكرية استثنائية، لأنه يرمز إلى جميع الرتب العسكرية، وإلى شهداء الوطن منذ انطلاق الثورة العربية الكبرى حتى وقتنا الحاضر.
ويصطفُّ حملة النَّعش أمام جلالة الملك عبدالله الثاني، القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتصطفُّ أرواحُ الشهداء في موكبٍ مهيبٍ وهي تعزفُ سمفونيّةً خالدةً:
"لأنَّنا وجذورُ الشَّمسِ في يدِنا.. نُقاتلُ الحَلَكَ الباغي.. سَننتصرُ".
وفي مثوى الجندي المجهول، الذي يتوسط البناء الداخلي لصرح الشهيد، وفي أجواء تستحضر قيم الإيمان والشهادة، يُوارى جثمان الشهيد، وقد صُمِّمت القاعة لتعمِّق رمزيّة التضحية والفداء. وروعي في تصميمها الهندسي أن يدخل النّور فوق القبر مباشرة عبر نجمة سباعيّة ترمز إلى السّبع المثاني، فيما تتوسّط خارطة العالم الجدار خلف القبر لتظهر الأماكن التي استشهد فيها أبطال الجيش العربيّ دفاعًا عن القضايا العربية والمبادئ الإنسانية وقيم العدل والسلام.
إنهم فتيةٌ أوقدوا زيتَ أرواحِهم لقناديلِ القدسِ ضياءً، وكلَّما أوغلَ الزّمنُ، تفتحتْ شقائقُ النُّعمانِ من دمِهمْ على أسوارِها، وتألَّقتْ من فوقِ مئذنةٍ من مآذنها العتيقة "ولا تحسبنَّ" وسارتْ إليهمْ حشودٌ من الصَّـبرِ والكبرياءْ.
إنَّهم فتيةٌ عُلِّقتْ أرواحُهم في حواصلِ طيرٍ خُضر، تقطعُ الدّروبَ ما بين القدس وعمّان، وتطوفُ في كلِّ المدنِ والقرى، وكلَّما مرَّتْ بشجرٍ أو حجرٍ أَوْمَأُ الشَّجرُ والحجرُ إليهمْ، وسادَ المكانَ خشوعٌ جميلٌ جليل.
وبعدها بأشهر قليلة في الخامس من نيسان عام ألفين وسبع عشرة استيقظ ثلاثة من شهداء الجيش العربي الذين استشهدوا على ثرى فلسطين عام سبعة وستين، ونُقلوا من (صور باهر) في القدس الشريف، إلى مقبرة شهداء الجيش العربيّ/ أم الحيران، التي تقف شاهدًا على تضحيات الأردنيين وبطولاتهم.
وتسلَّم ذوو الشهيد سليمان موسى سالم المطيريين الذي تمَّ التعرُّف على اسمه من خلال هويّته المعدنيّة التي وُجدت معه علم المملكة، فيما تسلّم رئيس هيئة الأركان المشتركة علمين تكريمًا للشهيدين اللذين لم يتمّ التعرُّف على هويّتيهما.
سليمان وزملائه من شهداء الجيش العربي:
فرسانِ يحملون عَبقَ القرى ورائحةَ القمحِ، وصوتَ العصافير، وقد استيقظَوا ممتطينِ صهوةَ جيادهم لأنَّهم يدركون:
"أنَّ الخيولَ تُعاني بفطرتِها من العشقِ أيضًا
وتعرفُ معنى الفِراقِ ومعنى الشَّجنْ
وتقرأُ مثلَنا جميعًا... كتابَ الوطن".
فيا سليمان، لو أستطيعُ جعلتُ القلبَ قنطرةً لِتُبْلِغَكَ المشقر، التي انتظرتك لتراكَ مقبلًا من أوَّلِ الدّربِ، فإذا بكَ تطلعُ من السَّماءِ بدرًا مُكتملَ البهاء.
ويا رفاق سليمان فرسانَ الجيشِ العربيّ الباسل، لو أستطيعُ لجعلتُ أصابعي شموعًا تضيء بيتًا عتيقًا افتقدَ ضوءَ أعينكم، فأنتم أوَّلَ الدّمِ وآخرَ الكلامِ.
فسلامٌ على كل شهيدٍ ووحيدٍ بقي من بعد الشهيد.
وسلامٌ على مَن خاضَ غمارَها وهو يرى أنَّ المنايا مشرئبٌ فاها.
سلامٌ على كلِّ أمٍّ أودعتْ الأرضَ مهجتَها ثم انثنتْ على دمعةٍ حرَّى ممزوجةٍ بفرحٍ باطنٍ كلما قيلَ لها يا أمَّ الشهيد.
سلامٌ على جنود الجيش العربيّ الباسل الذين أيقظَ صهيل خيلهم رموسَ الثَّرى فاستيقظَ المجدُ وانسابتْ العاديات.
سلامٌ على وطنٍ جُبٍلَ بدماءِ الشهداء.
- - - - - - - - -
(*) قال أنور الخطيب محافظ القدس للعقيد عطا علي يثني على قتال كتيبة الحسين الثانية: "لكَ عليّ كلما ذُكر الجيش الأردنيّ أمامي في أيّة مناسبة أن أحني هامتي إلى الأرض إكرامًا لِما شاهدتُ منكَ ومن رجالكَ من بطولة".