كاتب وناقد فلسطيني- القدس الشريف
أصوات مارَّة، عبارات تأتي وتختفي لأطفال يضحكون، ونساء مهمومات بشيء ما، وشباب يسيرون مسرعين إلى العمل، سيّارات تمرُّ كأنَّ لا شيء هنا. هدوء متقطِّع، تكسره أصوات المارّة والسيارات...
ما هذا؟ لأصغِيَ قليلًا لهم، لكن ما جدوى ذلك؟
سأصغي.
أطفال يذكرون المدرسة ويشتمونها، وكبار يذكرون أسماء أماكن.. لكن مهلًا! ما هذا؟ أصوات صراخ: "هذي بيوتنا من زمان، ما حدا بقدر يطلِّعنا منها". أصوات أفهمها وأخرى لا أفهمها، ما هي هذه اللُّغة؟ هنا مَن يصرخ بها، لكن ماذا يقول؟
- ما هذا؟ وأين أنا؟ ما هذا الهدوء العجيب؟ لِمَ الناس يسيرون هكذا وكأنَّ لا حرب هنا؟ غريبون هم.
- ...............
- مرحبًا؟ إلى أين؟
لا أحد يردُّ عليّ. وهناك، ما هذا الجيب العسكريّ؟ إنه غريب الشَّكل، لماذا يقف هكذا؟ ولِمَ الجنود لا يخافون؟ وما هذا الذي بين أيديهم ينظرون فيه؟
جيش إسرائيلي! كيف دخلوا هنا؟ سأنال منهم؟
لكن.. ما هذا؟ كأنَّهم لا يسمعون طلقات البندقيّة؟ اقتربتُ أكثر حتى صرتُ قربهم، نظرتُ في وجوههم؟ كأنَّهم لا يرونني، يكملون أحاديثهم ويشربون القهوة، هذه لغتهم العبريّة، لا أفهم ما يقولون، ولا يبدو أنهم يرونني!
تحسَّستُ نفسي؛ أنا هو أنا بملابسي العسكرية، فتحتُ عبوة الماء وشربتُ. أيُّ حلم غريب! تركتُ المكان، ورحتُ أتمشى باتجاه باب العامود. كل شيء هادئ؛ لا صوت إطلاق نار. هذا مسجد الشيخ جراح، وهنا.. ما هذه الأبنية المرتفعة هناك..؟ أسيرُ باتِّجاه شارع صلاح الدين، مارًّا بالمحافظة، لكن لا جنود هنا، ولا عَلَم، ما هذا، هذه أعلام إسرائيليّة، هنا عرب وهنا يهود، منهم مَن هو بملابس عسكريّة، وبعضهم بزيِّه المدنيّ. أسير وبندقيّتي، لكن لا أحد يحفل بي، حتى هؤلاء الجنود الغرباء.
ما هذا؟ أعرف المكان ولا أعرفه... ها هو مسجد سعد وسعيد، ثم لمَ هذه الباصات هنا؟ أحاول الحديث مع الناس، لكن لا أحد يحفل بي. ها هو باب العامود، كم أحببتُ هذا المكان؟ لأشترِيَ جريدة.. ما أسماء هذه الصحف؟ اقتربتُ لأقرأ، لكنَّ الأخبار غريبة، لولا أنَّ باب العامود أمامي لقلتُ إنَّني في مكان آخر.
- 12/8/2021!!
- ...............
عدتُ أنظرُ في شخصيّتي؛ أنا هو أنا.. هذا أنا.. وهذه القدس.. لكن هذا زمن في المستقبل. هل أحلم؟ وأيّ حلم طويل؟ سأنزل من هنا، يا إلهي حتى درجات باب العامود تغيّرت، لكن السور هو نفسه.
الحمد لله ما زلتُ في القدس. الله ما أجمل النسمات الباردة في هذا اليوم الحار! لا أجمل من سوق القدس، هو هو، لكن الوجوه تغيَّرت. دقائق وإذْ بي في ساحة المسجد المبارك، أقتربُ من المُتوضَّأ، تغيَّر قليلًا، قربه متوضّأ آخر. أُلقي السّلام على المتوضّئين، لكن لا أحد يردّ. أسرعنا إلى صلاة الجماعة. بعد الانتهاء مددتُ يدي نحو المصلّي جانبي، لكنّه تركني ومضى. حين صعدتُ درجات باب العامود الجديدة، لم يلتفت اليَّ أحد، حتى أولئك الجنود الغزاة الذين ينظرون في بطاقات الشباب. غريب! أين السور الذي كان هنا بين القدس والقدس الغربيّة المحتلة؟ ثم ما هذا القطار الذي يمرُّ هناك! لا بد أنني أحلم.
عدتُ إلى كتيبتي في الشيخ جراح، لكن لا أحد هناك، وحدي هنا. كُنّا هنا قبل قليل:
الشيخ جراح.. نحن في معركة.. تلّ الذخيرة، وحولي الجنود الأبطال، ما أشجعهم..! أصوات المدافع تملأ المكان، والطائرات الغازية تقترب وتُلقي قنابلها. ما أروع خوذات الجيش العربي الأردني، إنَّها تحمي رؤوسنا. "إذا اقترب العدوّ ونفدت ذخيرتي، فسأعالجهم بهذا الخنجر. لكنَّ علبتي مليئة بالرصاص. وهناك علب أخرى.
نار ودخان وصراخ، لم أعُد أرى..
جنود أبطال يقاومون العدوّ، لكن هناك جنود مصابون..
هذا هو اليوم الثاني، لم ننم طوال الليلة السابقة، تُرى ماذا سنسمّي هذه المعركة؟
- ..............
- معركة "تلّ الذخيرة"!
- كم هي الساعة الآن؟
- إنها الواحدة..
تحسَّستُ خاتم الزَّواج، عندما سأعود سالمًا إلى الأهل، سنذهب أنا وزوجتي في زيارات ونستمتع بالطبيعة الجميلة.. أمامي الذخيرة، ليس عليَّ إلّا أن أفرِّغها في صدور الغزاة. زاد عدد الشهداء.. هل سأكون أحدهم!
الرشّاش لا يتوقف، لكن الطائرات المغيرة ما إن تذهب حتى تعود لتُلقي حممها علينا، مدفعيّات هناك في أكثر من مكان تقصفنا، تُرى ما أخبار الجنود في ساحة الأقصى وعلى السور، لقد تنافسوا مَن يتمّ اختياره.
لولا أنني أرى بعيني لما صدَّقت. مَن سينقل للناس هذه البطولات؟ إنَّنا نمنع تقدُّم الغزاة، على الرّغم من كل هذه النيران التي تنصبّ علينا، إنهم لا يصدِّقون، يذهبون فيعودون محمَّلين بالنار. وهؤلاء إخوتي يبتسمون، فأجد نفسي أبادلهم الابتسام. قال أخي أحمد مبتسمًا: "سنقاوم حتى الرَّصاصة الأخيرة، نحن الجيش العربي، لن نهرب ونترك القدس. فقط إلى السماء". أشار بيده ثم صاح "الله أكبر"، فإذا بقذيفة تحصدنا، لكنّني لذتُ بالخندق أمامي.
بعض الهدوء الحذر، لكن لم يتوقَّف القصف، تفقَّدنا بعضنا بعضًا، لقد استشهد كثيرون، "سنبكي فيما بعد إن عشنا".. يا ترى كم بقي من إخواني الجنود والضباط؟ كُنّا مئة في كتيبة "الحسين الثانية"، كان لنا الفخر أن نحمل اسم جلالة الملك.
يا لفخرنا على الرّغم من سقوط الشهداء والجرحى، كم أفخر بكُم يا أبناء كتيبتي، نحن مَن نواجه العدوّ بصدورنا، يا له من عدوّ يخاف الحرب، فلا يقابلنا حتى الآن وجهًا لوجه، فقط عن بُعد يقذفون حِممهم، ومن طائراتهم.
لقد تحَصنّا نحن الجنود الأردنيون في خنادق حفرناه بأيدينا داخل التل لمنع تقدُّم قوّات العدوّ نحو القدس القديمة والمسجد الأقصى. لم نكن متأكدين فعلًا أنها ستفيدنا ونحن نعلم أنَّ العدوّ لديه طائرات. قتلنا الكثير منهم، وهذا ما أثار جنونهم، بوركتِ يا مدفعيّتنا كم أنتِ رائعة، لقد بارككِ الله...
لا أدري بعدها، ثمّة طائرات ما زالت تلقي بحقدها. يبدو أنَّ العدو جنّ، كل هذه الطائرات المغيرة على هذا الموقع؟
إنهم يريدون منّا الاستسلام.
لن نستسلم.. لم يبقَ الكثيرون، استشهد آخرون من النشامى. نظرنا تجاه بعضنا بعضًا، كأنَّنا نتعاهد على الشهادة، فلم نكن لنقبل بتقدُّم الغزاة تجاه القدس ومسجدها، ولا نرفع رايات بيضاء.. نحن كتيبة الحسين.
ما زال معنا قاذفات للصواريخ "البازوكا"، لقد ساعدتنا في صدّ الغزاة، نسمعُ إطلاق النار عند جنودنا البواسل على سور القدس وساحات المسجد الأقصى، وباب الجديد والخليل والنبي داود وصور باهر وبيت صفافا. أكاد أراهم، لأنني أعرف كثيرين منهم. لا بدَّ أن نشدَّ أزر بعضنا بعضًا.
بعد الغارة الأخيرة، وعلى وهج الضوء، نظرتُ خلفي، استشهد نشميّ آخر قربي، نظرتُ في وجهه، عرفتُه، دهشتُ لأنَّ أصابعه ظلَّت ممسكة بمقبض القنبلة التي ألقاها على العدوّ حتى بعد استشهاده.
"إنْ عشتُ سأروي لأهلي وشعبنا ما رأيتُ هنا، وإنْ استشهدتُ، فيمكن لآخرين أن يَرووا ما فعلنا من بطولة، لكن يبدو أنَّنا سنستشهد جميعًا".
لم أرَ في حياتي مثل هؤلاء الأبطال، أنا فرحٌ لأنني هنا بينهم، إنهم أبطال حقيقيون، لا هَمَّ لهم إلّا الدِّفاع عن القدس. ازدادت حركة الطائرات المجنونة، وأكادُ أسمعُ صرير جنازير دبّابات العدوّ.
لهيب حزيران وطائرات العدو رفعت من درجة الحرارة هنا، كأنَّنا ننصهر.
كم الساعة؟
إنَّها الواحدة والثُّلث.
إنه يتقدَّم، ما أصعب ذلك.. لم أعُد أرى ولا أسمع.
ثمّة هدوء.. لا أدري كيف مرَّت ريح غريبة هنا، صور كثيرة، ابتسامات، وروائح لم أشمّها من قبل.
لم أعُد أرى فعلًا.. ولا أسمع.. هل هذا وقت النَّوم!
ها أنذا هنا ثانيةً، في زمان آخر، حلم آخر. هذه القدس لم تتغيَّر كثيرًا، أقترب من الصوت، هناك.. أنظر حولي، اختفت ثكنتنا نهائيًّا، ولا أدري إلى أين سأعود، فهؤلاء البشر هنا لا يرونني.
ما زلتُ أحملُ بندقيّتي، وأرتدي زيّي العسكريّ، تحسّستُ نفسي، لم أُصَب بسوء، لكن تفوح مني رائحة عطر، ولا أدري من أين هذا العطر جاء.
أعرف هؤلاء الناس؛ "مقادسة"، نظرتُ في الوجوه، لم أعرف أحدًا. لكن هناك تشابه في هذه الوجوه مع وجوه عرفتُها. رحتُ أستمعُ لهم، ومعي صحافيون بكاميرات صغيرة وكبيرة، بعضها صغيرة جدًا يصوِّرون بها، ويتحدَّثون بها مثل أجهزة اللاسلكي.
يريد العدو أن يطردهم من بيوتهم، ما زلتُ متذكّرًا هذه البيوت، كنّا نمرُّ بالقرب منها، وكان أهلها يدعوننا لشرب الشاي. هنا شربتُ الشاي مرَّة، أذكر أنَّ صاحب البيت له بيت آخر استولى العدوّ عليه.
في اليوم الأوَّل من الحرب، جاء الأهالي بماء وطعام. قُلنا لهم معنا ما يكفينا. بعد ذلك لم نعُد نرى أحدًا، كانت أصوات الطائرات القريبة مخيفة. وفي الليل أطفأ أهالي الشيخ جرّاح ووادي الجوز والطور وسلوان النّور. كان الأطفال وقتها أمام البيوت يشاهدون الحرب كأنها لعبة، فيُنادي الكبار عليهم.
تذكَّرتُ أصحابي، تمَّ توزيعهم في القدس وحولها، في قرى بدّو والسواحرة وبيت سوريك والطيرة، وأسماء قرى أخرى، وهناك مَن ذهبوا إلى معسكرات جيشنا في جنين ونابلس وقلقيلية وطولكرم والخليل.
هل سنلتقي ثانية؟ وهل سنرى الأهل مرَّة أخرى؟
خفتت الأصوات هنا، كأنني دخلتُ في حلم آخر. وجدتني طفلًا صغيرًا في مدرسة الكرك الابتدائية. كان ذلك في بداية الأربعينات. أرى نفسي طفلًا صغيرًا، أرى الطلاب والمعلمين، انتهى اليوم الدراسي. رنّ الجرس، تدافعنا، مشينا إلى البيت. إنني أرى نفسي كما لو أنني في فيلم سينمائي. ها هو بيتنا، ها هي أمي تنتظر عودتنا. إنني أكبر قليلا، صرتُ فتى، فشابًا، فعريسًا، فجنديًّا في كتيبة الحسين، فمجاهدًا هنا في القدس.
انها الساعة الواحدة والثلث..اليوم الثاني للحرب..
إنني الآن هنا، في القدس قرب السور، أرى نفسي عريسًا جميلًا، من جديد. طيور بيضاء من كل الاتجاهات، طارت حولي، لها وجوه بشريّة.. هذا غريب؛ أرى وجوه أبناء كتيبتي. لماذا يقتربون. هبط الحمام حولي صار الحمام بشرًا. لوّحوا لي. لوّحت لهم. سمعتُ أصوات جلبة في المكان. ردَّدوا اسمي: محمد كريم الطراونة. أنا هو!
قرأت هنا: "المقبرة اليوسفيّة". ما الذي أتى بنا هنا جميعًا. وجدتُ نفسي أترك نفسي، أصير طيرًا في السماء، أتنقل ما بين الكرك والقدس بسرعة، أرى أكثر من مكان، وأعيش في أكثر من زمان. فقط ما إن أنام قليلا حتى أصحو. أتعجَّب أحيانًا، لكن عجبي سرعان ما يزول.
الآن في بيتنا، أرى الملك الشاب ابن مولاي الملك حسين، يزورنا، وددتُ أن يسمعني، اقتربتُ منه:
مولاي الملك إنني من كتيبة الحسين الثانية.
كانت الابتسامات تزيِّن المكان، مرَّة أخرى أصير عريسًا في بيتنا.
ربّاه أحمدك، فهذا العرس يبدو أنه لن ينتهي.
طرتُ ثانية.. عدتُ إلى رفاقي، لدينا موعد مع أعراس مستمرَّة.