سيد الوكيل
روائي وناقد مصري
رئيس تحرير سلسلة إبداعات قصصية بالهيئة المصرية العامة للكتاب
كان الحراك الواسع نحو الثقافة خلال العقدين السابقين أمرًا ضروريًّا، وكأنَّ ميكانيزم التطوُّر البشري كان يتدرَّب خلال هذين العقدين على الخطوات الأولى التي تنقلنا من تاريخ الكتابة، إلى مستقبل الرقميّة، تلك التي وضعت الثقافة في أفق افتراضي عام وواسع شديد التفاعل. مثل هذه التحوُّلات وضعت مفهوم الدراسات الثقافيّة على القمّة، ومهما كان إحساسنا بالقلق تجاه تراجع التخصُّص العلمي، فإنَّ الدراسات الثقافيّة واعدة بتحوُّلات جديدة من أبرزها ما نتعارف عليه بمصطلح (الصناعات الثقافيّة) الذي نجح في إدراج التجلّيات الماديّة للحضارة تحت المعنى الثقافي.
المطّلع على كتاب طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر- 1936م) يمكنه ملاحظة أنَّ مفهومه للثقافة مركب، ومترابط يجمع بين الحضارات والأديان، والظواهر المعرفية والمادية للشعوب، أي أنه مفهوم واسع ومرن، قابل لتحوُّلات مستدامه. ومع ذلك، فإنَّ شواهده اكتفت بالتراوح بين العقلين: الإغريقي والمصري القديم. صحيح أنَّ العلاقة بينهما متشابكة إلى حدّ كبير وواضح، لكن لا يمكننا تجاهل المؤثرات التي تركتها حضارة بلاد الرافدين على العقل الإغريقي، حيث يذهب كثير من الباحثين، إلى أنَّ (أفروديت) الإغريقية، هي النموذج المطوَّر لإلهة الجمال (إنانا) هذا في سياق الأديان القديمة متعدِّدة الآلهة. وفي سياق مقابل، نلاحظ تمسُّك الحضارة الإغريقية بفكرة تعدُّد الآلهة تلك، على الرّغم من مقدّمات فكرة التوحيد، التي نجدها عند المصريين القدماء ممثلة في (أوزوريس) إلى حدّ تشابهها مع الثالوث المسيحي المقدّس. إذْ كان الثالوث الفرعوني مرتهن برباط الدم، فأوزوريس هو الأخ والزوج لإيزيس، وفي الوقت نفسه هو الأب لحورس.
مثل هذه الملاحظات تشير إلى أنَّ قيام حضارة جديدة في مكان ما، لا يمكن لها أن تخلو من محمولات ثقافيّة لحضارة أخرى سابقة أو متزامنة. إنَّها آليّة التطوُّر الطبيعي للحضارة البشرية، التي تحبط النزعات العنصريّة للمفاضلة بين حضارة وأخرى، فعلى الرغم من أننا نشير إلى كلّ حضارة باسمها لنميّزها عن غيرها، إلا أنَّ النَّظر لمسيرة الحضارة البشرية بوصفها حراكًا واحدًا ومتصلًا، تبدو أكثر موضوعيّة لفهم الظواهر الثقافية المترتبة عليها، ومدى ارتباطها بأساليب الواقع المعاش، وما يناسبها من مظاهر ماديّة. الواقع أنَّ المظاهر الماديّة هي التجليات الممثلة لطبيعة كل حضارة، وفي هذا يقول طه حسين: "من الحق أنَّ الحضارة الأوروبية عظيمة الحظ من المادية، ولكن من الكلام الفارغ والسخف الذي لا يقف عنده عاقل أن يُقال إنَّها قليلة الحظ من هذه المعاني السامية التي تغزو الأرواح والقلوب"(1).
هذا المدخل يقودنا إلى تصوُّر واسع للحضارة البشرية يجمع بين المادي والمعنوي، فعلى الرّغم من صمت طه حسين عن حضارات وفلسفات سابقة في بلاد فارس وبلاد الرافدين مثلًا، لكن اللافت في رؤية طه حسين، هو اعتراضه –المُضمَر- على الفصل بين مظاهر التطوُّر المادي للحضارة، وبُعدها المعنوي الذي يسكن في القلوب والأرواح بحسب تعبيره الشعريّ. في الواقع إنَّ المظاهر المادية هي التجلّي الملموس للحضارة، حتى يمكننا القول إنَّ الحضارة ليست سوى تجسيد لهذه العلاقة التفاعلية بين المعنوي والمادي في حياة البشر، فكل منهما يدعم الآخر وينمّيه. ولا شكّ أنَّ شيوع أدوات الاتصال التكنولوجي، التي اختزلت المسافات الزمنية والمكانية، بإمكانها أن تقارب، بين المفهومين المادي والمعنوى الذي انحصر في تصوُّر ذهني لثنائيّة ضديّة، تقارن بين حياة دنيا حسيّة وماديّة، وأخرى روحيّة في عالم آخر (طوباوي) نراه الأرقى والأبقى.
لقد ألقت مثل هذه الثنائيّات بظلالها على العقل البشري في مراحل تطوُّره، وتجلَّت في كثير من مظاهره، بما في ذلك العلم والفلسفة، وقد ظلَّ الفصل بين الروحي والمادي سلوكًا ميتافيزيقيًّا مماثلًا للفصل بين السماء والأرض، ليشير في المقابل إلى ماهيّتين متناقضتين: المقدَّس والمدنَّس، وبهذه الطريقة نحن لا نمايز بين الحضارات فحسب، بل نمايز بين الحضارة والمدنيّة، وكأنَّ المدنيّة يمكن أن تتحقق بمعزل عن الحضارة. يذكِّرنا هذا بثنائيّة منهجيّة راوحت بين الكليّانية، والفردانيّة. والواقع أنَّ كل منهما تأسَّس على مقاصد أيديولوجيّة أكثر منها إنسانيّة.
في مقولة طه حسين بصيرة مستقبلية، تظهر في عنوان الكتاب، وبالتحديد في كلمة "الثقافة"، التي تضفي تعبيرًا جامعًا بين الحضارة والمدنيّة بوصفها التجلّي المادي للحضارة، فالثقافة لا تتجلّى في الجوانب المعرفية والمعنوية فحسب، بل تظهر في طرائق توظيفنا للوجود المادي أيضًا، بل وطرائق إنتاجه، والتعاملات الناشئة عليه من نظم وأعراف وقوانين، إذ لا يمكننا إغفال أنَّ تاريخ الفلسفة الذي استغرق قرونًا عديدة -قبل إعلان موتها على يد الفيزيائي "ستيفن هوكينج"- هو الذي قاد العالم إلى التنوير والعلم، وتجلياتهما منذ الثورة الصناعية. كما إنَّ الفلسفة هي درَّة التاج لتاريخ الكتابة المهدَّد بالانقراض مع بزوغ المستقبل الرقمي وهيمنة الصورة عليه، وهي التي مهَّدت الحضارة البشرية لبزوغ التفكير العلمي الذي استبدل الاعتماد على المرجعيّات والمصادر المعرفية التي تراكمت عبر الأساطير والمرويّات، بالإثبات التجريبي والمعملي على نحو ما نجد لدى "كوبرنيكس" و"جالليو"، وحتى نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن العلم في شواهده المادية، بمعزل عن الفلسفة. بما يعني أنَّ كل الظواهر الثقافية تتراسل فيما بينها، وهذا التراسل هو المحفز الحيوي لاستمرارية الحضارة البشرية، مهما بدت تحوُّلاتها فادحة.
ولستُ أدرى سببًا واضحًا للوصمة التي دأبنا على إلصاقها بالمدنيّة وشواهدها الماديّة، والتي كانت أكثر وضوحًا في الخطابات ذات المرجعية الميتافيزيقية، وثمة واقعة كنتُ شاهدًا عليها، في نهاية الستينات من القرن الماضي، عندما أُذيع خبر إطلاق سفينة الفضاء (أبولو 11) استشاط إمام المسجد الكبير في بلدتنا غضبًا، وراح يندِّد بما وصلت إليه الحال من كفر، واجتراء شياطين الأرض على اقتحام ملكوت الله/ السماء، مؤكدًا أنَّ هلاكهم سيكون على يد رب العالمين رجمًا بالشُّهب.
ويبدو أنَّ هذه الطريقة في التفكير، أثَّرت بطريقة أو أخرى في خطابنا الثقافي عمومًا، لتشير إلى حالة من القلق الداخلي للإنسان المعاصر، على نحو ما نجد عند (أحمد حسن الزيات) من قلق وتردُّد في وصفه للمدنيّة الماديّة، على الرّغم من موقفه التنويري الواضح في مجمل المقال نراه لا يتردَّد في الإشارة إلى اتِّهام المدنيّة ومظاهرها في إفساد بعض مكارم الأخلاق: "كذلك لا نستطيع أن نتَّهم المادية والمدنية، فإنهما -وإن جنتا على بعض الأخلاق الكريمة كالإخاء، والإخلاص والمروءة والرحمة- فلم تجنيا على نزعات السرور في النفوس، ولم تقضيا على غرائز اللهو في الطباع، بل ازداد الناس بهما في ذلك شراهة وحدّة"(2).
على أيّ حال، لقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ارتيابًا في قيمة الحضارة، والتباسًا كبيرًا بينها وبين المدنيّة، وازداد الأمر حدّة، بعد أن دخل العالم في حربين عالميتين غمرته بالأسى مع بداية القرن العشرين. أفضت الحرب الأولى إلى أكثر من عشرة مليون من القتلى، لكن قتلى الحرب الثانية تجاوز ذلك إلى خمسة وثمانين مليونًا، فماذا لو قامت حرب ثالثة؟ هكذا بدا مستقبل البشرية مربكًا وضبابيًّا، ومنذرًا بنهاية العالم على نحو ما تمثِّله السينما الأميركية. توغَّل الشكّ في كل خطوة حضارية تخطوها البشرية إلى الأمام. ولو فحصنا ردود الأفعال التي واكبت؛ وما زالت تواكب وباء (كوفيد-19) سندرك أنَّ حجم القلق تجاه الحضارة البشرية يتزايد، لتصبح هي المتَّهم الأوَّل في تعاسة البشر.
ربَّما من قبيل المصادفة أن رحل "سيجموند فرويد" عن عالمنا في العام نفسه الذي شهد بداية الحرب الأولى (1939م) لكن ليس من قبيل المصادفة على الإطلاق، أن لاقى كتابه (قلق الحضارة- 1929) هذا الاهتمام، وتلك المراجعات التي لجأ إليها الأطباء النفسيون أملًا في تفسير الكثير من الحالات النفسية التي رافقت البشر، وارتبطت -ليس بالحروب فقط- بل وبالكثير من التحوُّلات الحضارية ومظاهرها المادية، ولا سيما تلك التي يعجز البشر عن اللحاق بها، أو فهمها. الأمر الذي أصاب الكثيرين بالإحباط، بعد أن عجزوا عن السيطرة على الإيقاع المتسارع للشراهة المادية ومظاهرها، فتحوَّل صراعهم مع الخارج، إلى صراع داخلي بين الأنا والأنا العليا، أفضى إلى المزيد من القلق الوجودي للإنسان.
كان العالم ممتلئًا بتوتُّرات ونزعات عنصريّة تنذر بالدّمار، وهو ما تحقَّق بعد سنوات قليلة من صدور هذا الكتاب باشتعال الحرب العالمية الأولى، وقد كان سؤال "فرويد" الرئيس في الكتاب هو "لماذا لا يحظى الإنسان بالسعادة التي ينشدها مهما قارب أن يكون إلها؟"(3)، وانتهى إلى أنَّ الظواهر الحضارية تقع خارج الأنا بوصفها موضوعًا مهدِّدًا لها، ممّا يفضي إلى صراع وجودي، على نحو ما أسماه "جابريل مارسيل" (1989- 1936م) عضّة الواقع، تلك التي تنتج عن تحوُّلات شاردة في صورة الواقع، لا تألفها الأنا، ومن ثم تشعر باغترابها، وعلى الرّغم من أنَّ "فرويد" قدَّم أفكاره عبر مقاربات نفسيّة بالأساس، إلا أنه كان سابقًا في التعبير عن القلق الذي يعتري الإنسان تجاه التحوُّلات المتسارعة التي أنتجتها الحضارة البشرية على إثر الثورة الصناعية.
لهذا فإنَّ فترة ما بعد الحربين العالميتين، شهدت مراجعات قاسية لكثير من المفاهيم، التي بدت ملتبسة أو متناقضة، مثل مفهومي الحضارة والمدنيّة، الأنا والآخر، الذات والموضوع، الوجود والعدم، والأصالة والمعاصرة، المعنوي والمادي أو الروح والجسد. إنها أسئلة فلسفية، ربّما لم تعُد ملحّة الآن، ولكنها أضاءت الكثير من جوانب الحضارة البشريّة، ومسيرة التطوُّر التي قطعها الإنسان منذ البدائيّة الأولى إلى انتصار العقل العلمي وفقًا لـ"ستيفن هوكينج" الذي بشَّر بموت الفلسفة.
جدير بالذِّكر أنَّ رحلة الحضارة لم تصل إلى مجدها بالتفكير العلمي البحت فحسب، لقد احتاجت إلى التكامل بين الحقول المعرفية المختلفة في العلوم الإنسانية، فليس علم النفس فحسب، بل أيضًا علوم الإناسة، وجوانبها الحفريّة، فضلًا عن دراسات عميقة في الأديان والميثولوجيا، بحثًا عن الجذور الأولى لنشأة الحضارة الإنسانية ومظاهر تطوُّرها. كما يمكن الإشارة إلى الطبيعة التفاعلية بين العلوم الإنسانية أيضًا، فدراسة الميثولوجيا والأدب لهما دور فاعل في تطوُّر علمي النفس والاجتماع. لقد أفضى التوسُّع في العلوم البحتة والإنسانية، إلى سياق تفاعلي للمعرفة ينمّي كل منهما الآخر، فلم يعد ثمة مبرر للفصل بينهما، فكثير من المعارف التي قامت على الاستنباط الفلسفي تأكد صحتها بالتجريب المعملي، بما يستدعى التوافق على حقل معرفي واسع، وقادر يحتوي ميراث المعرفة الإنسانية.
جاءت الدراسات الثقافية بمثابة الحقل الواسع لاستيعاب مثل هذه التناقضات والالتباسات سعيًا إلى تفكيكها، والوقوف على عناصرها الأولى، بما يعيننا على فهم أوسع للإنسان، وتوزُّعه المؤلم بين غرائزه واحتياجاته من ناحية، وبين عقله وأحلامه المثاليّة من ناحية أخرى، هكذا جمع مصطلح (الثقافة) بين معارف وعلوم شتى، بل أصبح كل فرد يمتلك قدرًا من الموثوقية المعرفية مثقفًا، بعد أن دعمت المعلوماتية المتاحة على شبكات الإنترنت يقيننا المعرفي، أو بمعنى آخر حرَّرت المعرفة من سلطة المؤسسات الأكاديمية، على نحو ما يذهب إليه (إدوار سعيد) في الدَّوْر العام للكُتّاب والمثقفين(4).
ربّما يكون من المناسب أن نبدأ بمراجعة المفهوم ذاته، نعني مفهوم المثقف، مَن هو المثقف؟ وما هي طبيعة العمل الثقافي؟ وهل يجوز لجهة ما، أو فرد مهما كان عظيم الشأن، أن يرسّم بوصفه مندوبًا ثقافيًّا ساميًا؟
ذات مرّة، دعت مجلة أميركية إلى مؤتمر للكُتّاب المناهضين لسياسة "ريجان"، وكانت النتيجة أن حضرت أعداد كبيرة من الناس لا يجمعها سوى شيء واحد: "مناهضة سياسة ريجان"، كانوا خليطًا من الأدباء والفنانين والنقاد ورجال الدين والأكاديميين والحقوقيين والإعلاميين ونشطاء في مجالات المجتمع المدني: البيئة وحقوق الإنسان والمرأة والطفل وبرامج التنمية البشرية والإغاثة وإدارة الأزمات وخبراء التربية.. إلخ.
ويرى "إدوارد سعيد" في مقاله (الدَّور العام للكُتّاب والمثقفين) أنَّ هذا التجمُّع هو أبلغ ردّ على مجموعة المقالات والكتابات التي راحت تبشِّر بموت المثقف، معتمدة على أنَّ انتهاء دور المثقف المتوحِّد الرومانسي يعني اختفاء كلمة ثقافة من الوجود، كما يلاحظ أيضًا أنَّ المعنى المفهوم لِما هو كاتب وما هو مثقف أصبح مشوَّشًا، وفضفاضًا، بحيث يمكنه احتواء الكثير من التخصُّصات والمُمارسات التي تندمج في سياق كبير يطلق عليه (المثقف العام)، وهذا المثقف الجديد يتخذ من (الحقل الثقافي العام) مجالًا واسعًا لنشاطه الذي يتوجَّه -في الأساس- إلى دور مقاوم لصور الهيمنة الجديدة، إنهم معنيّون بألا يفقد المجتمع البشري إنسانيّته في مواجهة آليّات التنميط والتشيُّؤ. هكذا تصبح الثقافة حقلًا واسعًا في مراقبة حركة التطوُّر بين كل من: الحضارة والمدنيّة.
إنَّ دخول الدراسات الثقافية في حقول المعرفة المعاصرة سواء كانت نظرية أم تطبيقية، أصبح واسعًا وعامًا، بحيث بات من المستحيل تحديده على نحو جامع مانع، ومن ثم فالثقافة والمثقف هما أكثر المصطلحات تداولًا في العصر الحديث، في مقابل تراجع ملحوظ في الدراسات المتخصصة، التي بدأت تتَّجه إلى ما يسمى بالدراسات البينية تأكيدًا للطبيعة التفاعلية للمعارف والعلوم والفنون المعاصرة في بوتقة واحدة تسمى الدراسات الثقافية. وظنّي أنَّ هذا الحراك الواسع نحو الثقافة، كان ضروريًّا، وكأنَّ ميكانيزم التطوُّر البشري، كان يتدرَّب خلال العقدين السابقين على الخطوات الأولى التي تنقلنا من تاريخ الكتابة، إلى مستقبل الرقميّة، تلك التي وضعت الثقافة في أفق افتراضي عام وواسع شديد التفاعل، مثل هذه التحوُّلات وضعت مفهوم الدراسات الثقافية على القمّة، ومهما كان إحساسنا بالقلق تجاه تراجع التخصُّص العلمي، فإنَّ الدراسات الثقافية واعدة بتحوُّلات جديدة من أبرزها ما نتعارف عليه بمصطلح (الصناعات الثقافية) الذي نجح في إدراج التجلّيات الماديّة للحضارة تحت المعنى الثقافي.
لسنا في حاجة إلى تأكيد أنَّ الثقافة في تعريفها تدور في مفهوم واسع وعام يشمل كل أشكال النشاط الإنساني، في الماضي والحاضر والمستقبل، ويتبيَّن لنا هذا من أبرز تعريفات الثقافة على نحو ما نجد عند "روبيرت بيرستيد" في كتابه (النظام الاجتماعي- 1963) بقوله: "إنَّها ذلك المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نمتلكه، كأعضاء في المجتمع"(5) لندرك أنَّ بصيرة (طه حسين) انتبهت -على نحو مبكر- إلى رؤية أكثر اتِّساعًا للثقافة عن تلك التي وجدها في عصره.
وهنا ينبغي الالتفات إلى طبيعة المتغيِّر الذي طرأ على مفهوم المجتمع نفسه، ففي عصر السماوات المفتوحة، وتعدُّد وسائط الاتصال التي جعلت العالم قرية صغيرة واحدة، تتماهى فيها الحدود الزمانية والمكانية، بحيث يبدو كل شيء يحدث هنا والآن، لم يعُد من الممكن الكلام عن ثقافة مجتمع ما، بمعزل عن مدخلات ثقافيّة أخرى تؤثر فيه، إنها مدخلات يمكنها أن تتجاور مع تلك التي اعتدنا عليها، ومثلت خصوصيّتنا الثقافية، أو أسهمت في تشكيل هويّتنا، فعلى سبيل المثال، سنجد أنَّ انتشار ثقافة (الديلِفَري، والتيك أواي) في الأطعمة، وما يرافقها من ذائقة غربيّة، لم تتمكَّن من إزاحة تقاليد الطعام في المناسبات المتجذِّرة في هويّتنا، ولا سيّما تلك المرتبطة بمعتقداتنا الدينيّة، أو عاداتنا وتقاليدنا مثل: شهر رمضان وعيد الفطر، والعيد الأضحى، بل وشمّ النسيم...إلخ.
لم تعُد الثقافة إذن، مجرَّد أداء ذهني وفردي كالأدب والفن والفلسفة، إذْ إنَّ وسائط الاتصال الحديثة أوجدت أنماطًا من الممارسات الثقافيّة لم تكن موجودة من قبل، وتتميَّز بطابع أدائي وعملي، يرقى إلى مستوى الصناعة، وقد وضع تعريف اليونسكو للثقافة في اعتباره هذا المتغيّر الكبير(6) وهو يشير على نحو واضح إلى منتوجات ثقافية مثل: الإعلانات، والعمارة، والحرف، وتصميم الأثاث، والملابس، والطعام، والأفلام، والفيديو، والبرمجيات، والتلفزيون، والأنتيكات، والكتابة والطباعة، وفنون العرض المختلفة سواء المنقولة عبر وسائط الاتصال الجماهيري، أو الحيّة كالمسرح والأوبرا والرَّقص، والرياضات الروحيّة والبدنيّة، والمتاحف ذات العمق الحضاري والتراثي. وفي هذا السياق، يمكننا ملاحظة، أنَّ اليونسكو حرصت -خلال فترات الذروة لوباء كوفيد 19 المستجد- على حثّ المؤسسات الثقافية الكبرى لتفتح مواقعها على الشبكة العنكبوتية كوسيلة داعمة لضرورة العزل الطبي، بمعنى أنَّ التزام البيت لا يعني عزلتك عن العالم. لقد استطاع أيّ فرد في العالم وفي أيّ مكان، أن يطّلع على مواقع الأفلام والقنوات التلفزيونية، وعروض المسرح، والإذاعات الخاصة، والمكتبات، فضلًا عن إمكانية زيارة المتاحف العالميّة من خلال برامج المحاكاة (السيمولوجيا) لتقدِّم واقعًا بديلًا للواقع المعاش، هو الواقع الافتراضي أو الواقع المعزّز. لقد نجحت آليات الاتصال والوسائط التكنولوجية، في الحدّ من تأثير القلق الوجودي المرافق لكوفيد -19، وفي الوقت نفسه عزَّزت درجات الوعي الصحي بها.
على كل ما سبق، لم يعد التفكير في رسم استراتيجيات ثقافية شأنًا محليًّا، أو قوميًّا فحسب، بل عالميًّا بالضرورة. كما أنَّ الممارسات الثقافية لم تعُد شأنًا فرديًّا، بل جماهيريًّا يقوم على عمليات من التفاعل الواسع عبر أدوات الاتصال الحديثة، التي جعلت العالم قرية واحدة؛ ومن هنا جاء التفكير فيما أطلق عليه "الصناعات الثقافيّة". بعدما تأكَّد أنَّ المُنتَج الثقافي الواحد تقوم عليه أطراف متعدِّدة، ويخضع لآليات عمل تمثل خطوط إنتاجه. وإذا كان هذا يبدو واضحًا في السينما والتلفزيون، فهو بلا شك، موجود في كل المعطيات الثقافية التي أشرنا إليها سالفًا. بل هو قائم في إنتاج عمل أدبي. فنحن نعرف أنَّ غلاف الكتاب الذي يخضع لفنون الجرافيك وبرامجه أصبح عتبة نصيّة تدخل في التناول النقدي والقرائي له، بل وعتبة بصريّة إلى أسواق الكتب، ليصبح جزءًا من آليات التسويق التي أصبحت ضرورة في صناعة الكتاب.
لعلَّ التفكير على هذا النحو يدخل في نطاق سياسات العولمة التي بدأت كلمة سيّئة السمعة، ثم أصبحت واقعًا لا يمكن تجاهله، وهو متغيّر يفرض علينا اعتبارات جديدة في رسم السياسات الثقافية، لا أظن أنها تتعارض مع السياسات القديمة ذات الخصوصيّات المحليّة، بل ربما تتفاعل معها وتدخلها في سياق تنموي وعالمي، إذْ إنَّ ثقافة ما بعد الحداثة التي تميّزت بحضور أداتي، عبَّرت عن سيولة ثقافيّة، يتداخل فيها الماضي والحاضر والمستقبل على نحو ما يذهب "زيجموند باومان"، "وديفيد ليون"(7)، كما أنها تجمع بين أنماط وأساليب الحياة، ومنتجاتها الثقافية. غير أنَّ هذا الجمع هو الذي يؤكد مفهوم الهويّة، باعتبارها مكوِّنًا ثقافيًّا بالأساس، ولكنه مفهوم فضفاض: "إذ تمتدّ جذوره وتتشابك مع روافد تاريخية وحاضرة وأصيلة تنتمي إلى مجتمعه، وواردة انتقلت بفعل التأثير والتأثر، ويصل الإرباك مداه في محاولة التعمق الرأسي، حيث يمكن أن تندرج تحته، العديد من السمات المتشابهة فيما بينها أو بين هويّات أخرى"(8). إنَّ الملاحظات التي يطرحها الباحث هنا، تثير كثيرًا من القلق تجاه الثقافة، يذكِّرنا بقلق الحضارة عند "فرويد"، ولا سيّما فيما يتعلق بسؤال الهويّة، الذي ارتبط بالثقافة إلى حدّ كبير.
لقد ظلَّت الهوية مصطلحًا متداولًا وحائرًا بين معانٍ عديدة، كالتاريخ والجغرافيا، والمعتقدات الدينية، والعادات والتقاليد، واللغة، بل ومرتبطة بقيود سياسية وقانونية كالجنسية والانتماء الوطني، والأنظمة الحاكمة، لكن العالم الآن، بدأ يتكلم عن الهوية العالمية، التي تُبنى عبر برامج تنموية توافق الأعمار المختلفة تستهدف بناء الشخصية العالمية.
لكن ما المقصود بالشخصيّة العالميّة؟ وهل يتعارض مع مفاهيم أخرى مثل الانتماء، والخصوصيّات الثقافيّة، والهويّات المجتمعيّة؟
إنَّ المعطيات التي تبرِّر وجود الشخصية العالمية هي نفسها التي تبرِّر أهمية الالتفات إلى الهويات المميّزة للمجتمعات، غير أنَّ التفكير في رسم سياسة ثقافية موائمة لمستجدّات العصر، عليها أن تضع في الاعتبار مفهومًا أوسع للهويّة، قائمًا على الاتصال بالمنتج العالمي للثقافة.. مفهوم يمكن أن نطلق عليه (الهوية الثقافية)؛ إذْ إنَّ التعريف الواسع للثقافة، يكاد يغطي كل جوانب الكرة الأرضية، وشعوبها بغضّ النّظر عن خصوصيّاتها الثقافية، أي أنَّ المنتج الثقافي الذي حققته التكنولوجيا، لا يتعارض مع الخصوصيات الثقافية، بل يدعمها، ويعمل على إدخالها في فضاء عالمي. وبمعنى آخر يصبح مفهوم الهويّة لشخص ما أو مجتمع ما، جزءًا من المفهوم الثقافي الواسع للعالم الجديد.
تبني الهوية على ثلاثة مستويات:
الأوَّل: فردي، مميّز للذات الإنسانية في كل وأيّ مجتمع، وهذا التميُّز لا يظهر إلا عبر ممارسات من التفكير الإبداعي، فالشخصيات المميَّزة في المجتمع لا تملك هذه السمة إلا من خلال طرائق من التفكير الجانبي غير النمطي شأن كبار الكتاب والفنانين والمثقفين، وهذا الأمر يستوجب مساحات أوسع من حريّة التفكير والتعبير والاختلاف، إنها فضاءات تؤكِّد الهويّة الفرديّة لتميِّز نفسها في محيطها الاجتماعي.
والثاني: جمعي، وهو ما يدخل في نطاق الثقافة الشعبيّة لمجتمع ما.. فالهويّة الفرديّة ليست بمعزل عن هويّة مجتمعها، بمعنى أنَّ تميُّزها داخل مجتمعها لا يُخرجها عن خصوصيّتها الثقافيّة مثل: اللغة، والمعتقدات والعادات والتقاليد، بل يغذّي وينمّي كل منهما الآخر، ومع الوقت يبرز أثر الثقافة السابقة في اللاحقة.
أمّا المستوى الثالث فهو: الهويّة الثقافيّة.
إنَّ أمر الهوية الثقافية لا يأتي عبر عمليات دمج نظري أو قانوني كالجنسية أو حقوق المواطنة فحسب، بقدر ما يأتي عبر مشاركات وأنشطة تنهض على تبادل الخبرات وتنمية المهارات العملية لترقى إلى المستوى العالمي(9)، ومن ثم تصبح جزءًا من الثقافة العالمية دونما رهاب من ذوبان هويّتنا الثقافيّة الخاصة. بل على العكس، فإنَّ الهويّة الثقافيّة العالميّة تتَّسع للهويّات الفرديّة أو المجتمعيّة الخاصة، وهو ما حرص شُرّاح ما بعد الحداثة على تأكيده، باعتباره عودة للأصوليّات توصم عصرنا الآني. لكن الجانب المضيء الذي يتجسَّد في الهوية الثقافية ذات النزعة العالميّة، أنَّ الآخر أيضًا سيتحرَّر من الرّهاب عندما يتمكَّن من التعرُّف على ثقافتي، بمعنى أنَّ ما يُخيفنا من ثقافة الآخر ويحفِّز مشاعرنا العدوانيّة تجاهه هو اغترابنا عنه، أي عدم وجود فواعل مشتركة بيننا وبينه.
إنَّ هذه الفواعل المشتركة هي التجسيد المستهدف لمفهوم الهوية الثقافية للإنسان المعاصر، فالمسلم الذي يدخل مطعمًا فرنسيًّا، ويجد لافتة ترشده إذا ما كان الطعام مصنوعًا من لحم الحنزير أو لحم البقر، سيشعر بألفة لكون طهاة المطعم يحترمون عقيدته، ويضعونها في الاعتبار.
كما أنَّ اللاعب العربي الذي يلعب لصالح الفريق الإنجليزي لا يتردَّد في السُّجود إذا أحرز هدفًا لفريقه الإنجليزي دونما امتعاض من جماهير اللعبة العالميّة، ذلك أنَّ الممارسات على هذا النحو تتحوَّل مع الوقت إلى ثقافة عالميّة تسعى لقبول الآخر وتعزِّز بناء الشخصيّة العالميّة.
وعلى ما تقدَّم من متغيرات في الحراك الثقافي وطبيعته، اتخذت المنظمات المعنيّة بالثقافة توصيات بأهميّة التنمية الثقافية المستدامة عبر ما يُعرف بالصناعات الثقافيّة.
تشير نوال المسيري(10) إلى محورين أساسيين لطبيعة الصناعات الثقافية:
الأول: اعتبار الثقافة في صورتها المعاصرة منتجًا، يرتبط بشروط العرض والطلب، ويضمن عائدًا اقتصاديًّا يسهم في تنميتها، ويدخل في هذا الباب صناعة السينما والدراما التلفزيونية والمسرح وصناعة الكتاب.
الثاني: أن تتحوَّل الثقافة من مجرَّد القيمة الرمزية إلى القيمة العملية على نحو ما نجد في: فنون الجرافيك والبرمجيات، والحِرَف اليدوية وتصميمات العمارة والأثاث والملابس والمنتوجات الجلدية التي تحمل الخصائص الثقافية لمجتمعاتها.
ووفقا للمحور الأوَّل، يشعر الكثير من المثقفين بالقلق، لدخول الثقافة في أنماط استهلاكية تتحكّم فيها الكيانات الرأسماليّة، ومن ثم تعمل على طمس الخصوصيات الثقافية للمجتمعات، لهذا تشير الباحثة "نوال المسيري" إلى أنه ينبغي الاهتمام بالعمق التراثي لكل ثقافة لتمثِّل نفسها في مصنوعاتها الثقافية، كما ينبغي أن توضع خطط متكاملة للمجتمعات التي تتشارك في أنساق ثقافية واحدة أو متشابهة. وجدير بالذكر أنَّ هذا يمكن تحقُّقه بين الدول العربية على نحو ممنهج ومنظَّم يبرز التراث كقاسم مشترك بينها. كذلك تسويقه عبر معارض متعدِّدة لتحقيق أكبر عائد ثقافي مشترك يمكن تحقيقه.
• الهوامش:
(1) طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، طبعة دار المعارف، القاهرة، 1996.
(2) أحمد حسن الزيات، مجلة الرسالة، العدد 7، 1933.
(3) سيجوند فرويد، قلق في الحضارة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للباعة والنشر، بيروت.
(4) إدوارد سعيد، الدور العام للكتاب والمثقفين، مجلة الكرمل، فلسطين (رام الله)، العدد 68.
(5) حسام فازولا، السياسات الثقافية- النشأة، التطور، العقلانية، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، القاهرة.
(6) إعلان مكسيكو للثقافة، منظمة اليونسكو، 1982.
(7) زيجموند باومان، وديفيد ليون، ترجمة: حجاج أبوجبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017.
(8) محمود الضبع: الثقافة والهوية والتكنولوجيا، مكتبة الإسكندرية، مصر، 2015.
(9) سعيد يقطين: تجسير الثقافات والوسائط موقع http://bilarabiya.net/9280.html (ملف الدراسات) تموز/ يوليو 2019.
(10) نوال المسيري: الصناعات الثقافية المصرية (بحث محكم)، دورية الفنون الشعبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، عدد (كانون الثاني- شباط- آذار)/ (يناير- فبراير- مارس)، 2019.