د. أحمد الزعبي
ناقد وأكاديمي أردني
تعود رواية "السيّد والحشرة" إلى طرح ظاهرة الصِّراع الطبقيّ أو صراعات: السيّد والعبد، الغنيّ والفقير، الظالم والمظلوم... إلى آخر هذه الصّراعات والصّدامات التي رافقت البشريّة وشوّهت العلاقات الإنسانيّة على مرّ العصور. إلّا أنَّ هذا الطرح للصِّراع يأخذ بُعدًا جديدًا في الرِّواية من حيث التقنيات الفنيّة وأساليب الحداثة؛ إذْ يوظِّف الكاتب محمد بن جرش ترميزات اللامعقول وإحالات البنية الغرائبيّة وانسيابات تيّار الوعي ودهشة الواقعيّة السحريّة لتجسيد هذا الصِّراع المُحتدم ما بين الخير والشر أو ما بين البقاء والفناء.
• التَّرميز والتَّأويل (الأحداث)
على الصعيد الرمزي والتأويلي، يُجسِّد (السيّد) في رواية "السيّد والحشرة"(*) الظلم والقهر والبطش (الفناء)؛ بينما تُجسّد (الحشرة) المظلوم والمقهور والمغلوب على أمره الذي يُصارع من أجل (البقاء). ويُدير الكاتب المعركة من أوّل الرواية إلى آخرها ما بين الطرفين على عدّة أصعدة.
فعلى الصعيد الأوّل، تبدأ الحرب ما بين (السيّد) المتحكِّم في مصير الناس والمدينة و(أحمد) -الشخصية الرئيسة في الرواية- والموظف في مختبر الحشرات، حين يخترع (أحمد) مادة تقضي على الحشرات الضارة التي تهدِّد المزارعين وتتلف محاصيلهم ومزروعاتهم... لكن (السيّد) ينسب هذا الاختراع إلى شركته ويحرم (أحمد) من هذا الإنجاز الكبير...
"- وماذا أسميتَ اختراعك الجديد؟
- لم أُفكّر في ذلك بعد، ولكن بالقطع سيحمل حروفًا من اسمي تسجيلًا لحقي التاريخي.
تطلّع إليه المدير ثم قال بنظرة ساخرة:
- للأسف هذا لن يحدث، إنّ أيّ اختراع يخرج من هذا المختبر عادة ما يحمل مقاطع من اسم السيّد، ولسوف ترى أنّ مجلس إدارة المختبر سوف يُطلق عليه اسمًا آخر من قبيل "سيدجاز" مثلًا..."(الرواية، ص50).
ويرفض (أحمد) الاستسلام للسيد، وتبدأ الحرب غير المتكافئة بينهما، فالسيّد يتحكم بالمدينة وأهلها و(أحمد) موظف بسيط وفقير ولا يقوى على المواجهة... لكن بالعلم والاختراع سيكون الأقوى...
وعلى الصعيد الثاني، تنشأ قصة حب قويّة ما بين (أحمد) وفتاة تُدعى (حسناء) دون أن يعرف أنها ابنة (السيّد)؛ الأمر الذي جعل السيّد -بعد اكتشافه الأمر- يقرِّر التخلُّص من (أحمد) والقضاء عليه... فيختطفه ويُعذّبه ويكاد يقتله لولا توسُّلات ابنته (حسناء) وتعهُّدها بأن تقطع علاقتها بـِ(أحمد) ولا تراه أبدًا شريطة أن يُطلق والدها سراحه ويبقيه على قيد الحياة. ويستجيب السيّد لهذا الطلب ويُفرج عن (أحمد) بعد تعذيبه وتشويهه.... الأمر الذي جعل (أحمد) يقرِّر الانتقام واستغلال عبقريّته واختراعاته في الدمار... أي تدمير السيّد بدلًا من تدمير الحشرات الضارّة بالزراعة.
"إنّ النمل من جند الله، تُرى هل قضى الله بالعذاب
على هذه المدينة الظالم أهلها
ليت النمل يستطيع التهام البشر كما يلتهم السلطعون!
فمعظم سكان مدينتنا يستحقّون هذه الميتة
البشعة، وأوّلهم السيّد"(الرواية، ص25).
على الصعيد الثالث، يتفاجأ (أحمد) بـِ(حسناء) ويلومها على عدم إخباره أنها ابنة السيّد، ولكنها تخبره أنها هي التي أنقذته من والدها شريطة أن تقطع علاقتها معه، وعليه ألّا يحاول رؤيتها، فهي تعرف شراسة والدها وأنه قد يقتله إذا رآه معها. ويتفهّم (أحمد) الوضع ويزداد حقدًا على السيّد ويُركّز على اختراعاته للانتقام من هذا الوحش البشريّ.
على الصعيد الرابع، يعاني (أحمد) من أزمات نفسيّة وعاطفيّة واجتماعيّة كثيرة؛ جعلته يرى المدينة كئيبة غارقة في الضباب؛ حيث يبدأ الرواية بقوله:
"...كان صباحًا كئيبًا كسائر الصباحات الخريفيّة في مدينتـه الغارقة في الضباب، وتساءل عن سبب ذلك... وهـل مبعـث ذلـك هـو كآبـة سـكّانها التي غمـرت أجواءهـا بتلـك الغلالة الضبابيـّة الكئيبـة؟ هـو لا يعرف... ولكنه تخيّل أنَّ هذه المدينة سوف تخنق أنفاسه يومًا ما"(الرواية، ص5).
فهو متألِّم من مرض أمّه المزمن وتدهور حالتها الصحيّة. وهو في صراع مدمّر في علاقته بـ(حسناء) التي يحبّها بجنون ويريد الانتقام من والدها، وهو أمر يضع كليهما في حالة تمزُّق مدمِّرة؛ فـ(حسناء) في انشطار نفسي بين حبيبها ووالدها، وأحمد في ورطة بين حب الابنة والانتقام من الأب... لكل هذا فقد جسّد الكاتب كل هذه الآلام بالصورة الرمزية للضباب الذي يغمر المدينة، والذي فسَّره بأنّه انعكاسٌ (لاكتئاب الناس) كما يقول.
• التَّرميز والتَّأويل (الشخصيّات)
شخصيّات الرِّواية تجسيد رمزي للقضايا والأزمات التي تعانيها الأمة بشكل عام، والتي يطرحها الكاتب من خلال الأحداث والحوارات التي تُشكّل عالم الرِّواية لغةً وفكرًا وأسلوبًا.
- أحمد:
الشخصيّة الرئيسة في الرِّواية، ويُجسّد رمزيًّا الإنسان الجاد الذكي الملتزم بقضايا وطنه وأحلام أمّته، ويعمل على درء الأخطار عن مجتمعه وأرضه من خلال عمله الدقيق ومخترعاته التي تحمي البيئة والزراعة من الآفات والحشرات. إلّا أنَّ الظلم والقهر الذي يمارسه السيّد عليه وعلى بقيّة أفراد المجتمع دفعه إلى الانفجار والغضب والتحوُّل إلى الانتقام من السيّد وأفراد عصابته ومن المدينة الساكتة عن حقوقها والمستسلمة للظلم والبطش والإذلال. فالسيد وحده، أو لو تُرك وحده، فإنه لا يستطيع التحكُّم برقاب العباد، كما يفكّر (أحمد)، وإنّما ضعاف النفوس والأشرار، وهم من المجتمع أيضًا، هم مَن يدافعون عنه وينفّذون جرائمه.
"تطلّع أحمد حوله للناس الذين يروحون ويجيئون في كلّ اتجاه، شعر أنّهم كالمومياوات التي تسير بلا روح... موتى أحياء.. حشرات لا قيمة لها، والسيّد يراه واحدًا منهم، لكنّه لا يرى نفسه حشرة"(الرواية، ص88).
- السيّد:
وهو الشخصية المغايرة لشخصية )أحمد(، فهو الغنيّ والقويّ وذو النفوذ، لكن هذه المكانة وهذه السمات لا تُوظَّف في البناء والارتقاء بالمجتمع، وإنَّما في تحقيق الأغراض الشخصيّة والأطماع الفرديّة بكل السُّبُل المشروعة وغير المشروعة؛ بالظلم والقهر والتهديد وقطع الأرزاق... إلى غير ذلك من جرائم لم يقوَ أحد في المدينة على إيقافها.
ويصطدم (أحمد) بالسيّد مرتين، الأولى حين يحرمه السيّد من اختراعه الجديد الذي ينقذ البيئة والزراعة من الحشرات الضارّة وينسبه إلى شركته الكبيرة. والمرّة الثانية حين يعلم السيد بعلاقة ابنته بـ(أحمد) فيختطفه ويعذّبه ويكاد يقتله لولا تدخّل الابنة وتعهُّدها بقطع العلاقة بـ(أحمد) شريطة أن يطلق والدها سراحه حيًّا... وقد حدث ذلك فعلًا.
- حسناء:
وهي ابنة السيّد التي أحبّت (أحمد) حبًّا رومانسيًّا صادقًا، وبادلها (أحمد) الحب دون أن يعلم أنها ابنة السيّد الشرّير. وكانت (حسناء) على النقيض تمامًا من أبيها، فهي فتاة بريئة صادقة بعيدة عن نوازع الشر والظلم التي تمكّنت من والدها ومسحت أيّ قيمة إنسانية لديه... وكان حبّها لـ(أحمد) قويًّا وعميقًا إلى درجة مواجهة والدها بذلك دون النَّظر إلى عقابه الشرس القاسي، تقول:
"صاحت حسناء:
لا يا أبي.... إنّي أحبّ أحمد، إنّه الرجل الوحيد الذي استطاع أن يمسّ شغاف قلبي.. إنه في عيني أكثر رجولة من عليّة القوم الذين تتحدَّث عنهم، فمَن هم دون آبائهم؟ أمّا أحمد فإنه عظيم بذاته"(الرواية، ص85).
وصُدمت حسناء مرّتين، الأولى حين علمت باختطاف (أحمد) بأمرِ والدها وتعذيبه وتوسُّلها لإطلاق سرحه وإنقاذه من موت وشيك. والمرّة الثانية حين فاجأت (أحمد) بأنها ابنة عدوّه الشرس (السيّد) ولم تكن الظروف تسمح للاعتراف له بذلك في السابق. ويغضب (أحمد) غضبًا شديدًا، لكنّهما يتفقان على ألّا يلتقيا حفاظًا على حياته من والدها.
- العمّ حسن:
وهو صاحب المقهى الذي يرتاح فيه (أحمد) كل صباح قبل الذهاب إلى عمله وإلى مختبره، يشرب قهوته ويتبادل الحديث مع العمّ حسن الذي يعتبره كوالده، في حين يشعر العمّ حسن بأنَّ (أحمد) هو بالفعل مثل ابنه الذي فقده سابقًا وكان أحد ضحايا السيّد، ولم يستطع العم حسن الانتقام لابنه خشية أن يلقى المصير نفسه من السيّد الشرّير والمتحكّم بمصائر أهل المدينة... وأحسّ أنَّ الله قد عوّضه عن ابنه بـ(أحمد) للتخفيف عنه.
وكان العم حسن ملاذًا آمنًا وصدرًا حانيًا لـ(أحمد)، الذي يبثّه شكواه ويُفضي له بكل آلامه وهمومه، والعم حسن يخفّف عنه ويهدّئ من أحزانه ويدعوه إلى الصبر والتحمّل وألّا يرهق نفسه كثيرًا... والفرج قريب...
- والدة أحمد:
وهي مريضة ومسنّة وغير قادرة على الحركة، و(أحمد) يرعاها ويؤنسها بشكل دائم. لكن الأم قلقة وحزينة على ابنها الذي يعاني الظلم والأذى من السيّد وبطانته... إلّا أنها تشجِّعه وتطالبه بالتحلّي بالصبر بعبارات الأم المعروفة بالحنان والدفء والصدق.
• التَّرميز والتَّأويل (الحشرات)
تُوظَّفُ الحشرات دلاليًّا ورمزيًّا في الرواية لتشير إلى ثلاث فئات من أفراد المجتمع:
الفئة الأولى: وهي الحشرات الضعيفة التي تُداس بالأقدام ولا حول لها ولا قوّة، وترمز إلى تلك الفئة من الناس المستسلمة للظلم والساكتة عن حقوقها وهي الفئة التي سيحاول (أحمد) إيقاظها لتقف بوجه السيّد الظالم وتستردّ حقوقها.
الفئة الثانية: وهي الحشرات المؤذية التي تقضي على المزروعات وتُفسد البيئة والبيوت، وترمز إلى تلك الفئة من الناس المؤذية والظالمة التي تأكل اليابس والأخضر لتحقيق مآربها دون النَّظر إلى الدّمار والخراب الذي تُخلّفه بعد ذلك. وهذه الفئة من أتباع السيّد وزمرته.
الفئة الثالثة: وهي الفئة الجديدة المعدَّلة التي تتحوَّل بعد حقنها بمادة كيميائية من اختراع (أحمد)... تتحوّل إلى حشرة قوية شرسة تهاجم السيّد وزمرته وتحاول القضاء عليهم. وترمز هذه الفئة إلى الجيل الجديد من أبناء المجتمع الذي تسلّح بالعلم والوعي والقوة ليقاوم الظلم والبطش والخراب الذي ينشره السيّد وأعوانه. وهي الفئة التي تنجح في القضاء على السيّد وعصاباته في ختام الرواية... يقول:
"...فها هو السيّد وأعوانه يأكلون لحم الناس دون هوادة، وينهشونهم كلّ يوم بلا رحمة، والويل كلّ الويل لمَن يتألّم، فإنّه يصبح وليمة سائغة لكلابهم، أمّا الناس فهم راضون كلّ الرضا عن تقديم لحومهم وأقواتهم قرابين للإله السيّد. من هنا رأى في فكرته تحقيقًا للعدالة التي ينشدها، فالكلّ يجب أن يتساوى في المصير نفسه"(الرواية، ص100).
• التَّرميز والتَّأويل (القرار الصعب)
طفح الكيل، كما يرى (أحمد)، وأُغلقت الأبواب أمام أيّ أمل في إصلاح السيّد وعصبته وبخاصة بعد اختطافه ومحاولة قتله... فقد:
(كان أحمد على وشك الدخول إلى البناية التي يسكن فيها حين سمع النداء، ولم يكد يلتفت حتى شعر بعدد من الأيدي تكبّله، وعصابة سوداء توضع على عينيه، فلم يرَ شيئًا. دفعته تلك الأيدي بعنف ليجد نفسه محشورًا داخل سيارة، وسرعان ما انطلقت هذه السيارة بعنف مصدِرةً صريرًا مرعبًا"(الرواية، ص59).
وبدأت بذور الانتقام تنمو في أعماق (أحمد) بعد هذا العنف والتعذيب والإهانة، كما بدأت براكين الغضب المكتومة في أعماقه تتفجّر، وجاءه الصوت الصارخ في الأعماق: لقد حان وقت الحساب... حان وقت الحساب... يجب وقف الشر والدمار والخراب (والفناء) الذي يرشقه السيد وأعوانه على الناس والمدينة.
ويلجأ الكاتب بن جرش هنا إلى لغة العلم والتكنولوجيا التي هي لغة العصر لإدارة المعركة أو الحرب بين البقاء والفناء أو بين الموت والحياة. وهذه نقطة مهمة ولافتة في الرواية، فالمادة التي اخترعها وحقن بها (النمل الأصفر) أو أطعمها إلى هذه الحشرات، حوّلها من حشرة ضعيفة مستسلمة إلى حشرة قوية شرسة تقضي على القدم التي تحاول سحقها وتمتص دم مَن يحاول قتلها، بل وتهاجمه وتقضم لحمه وشحمه.
وعلى الصعيد الرمزي، فإنَّ هذا التحوُّل في الحشرات، كما يقصد الكاتب، هو تحوُّل فئات المجتمع المظلوم من الضعف إلى القوة، ومن الاستسلام إلى المقاومة، وأخيرًا من الانكسار إلى الانتصار. وطريقة هذا التحوُّل تكون -كما يؤكِّد الكاتب- من خلال لغة العصر وتكنولوجيا العصر (فالاختراع علمي في مختبر)... وكل هذا يعني الجيل الجديد قد حُقن أو تسلّح بالعلم والوعي والقوّة ليبدأ المعركة ويقضي على الظلم والظالمين.
وقبل أن تبدا المعركة، وقبل أن يُسلّط (أحمد) النمل الأصفر الشرس على السيّد وأعوانه، يحاول (أحمد) إنقاذ الأبرياء والمظلومين، ويطلب من العمّ حسن و(حسناء) ووالدته الاستعداد لمغادرة المكان تجنُّبًا لهجوم النمل المفترس... لكنهم جميعًا يرفضون المغادرة ويصرّون على البقاء ومواجهة الواقع والظروف المحتملة.
وتبدأ المعركة بهجوم حشرات النمل الأصفر المتوحش على السيّد وأعوانه، ويستعدّ (أحمد) ووالدته لمغادرة المدينة، وهذا يعني من وجهة نظر الكاتب، أنَّ الجيل الجديد الذي تسلّح بالعلم والوعي والقوة انتفض ضدَّ الظلم والقمع، وثارَ على الخراب والدّمار لإعادة الأمّة إلى طريق البناء والتطوُّر والارتقاء.
وتُجسِّد هذه المواجهة بين الفناء والبقاء المواجهة بين الحياة والموت، ويؤمن (أحمد) -في هذه المواجهة- بأنَّ النصر للحياة مهما طال الزّمن ومهما كان الثّمن. ومع ذلك، فهذا الصِّراع له ضحاياه من الأبرياء.
فالكاتب تعمّد أن يجعل العم حسن و(حسناء) يرفضان مغادرة المدينة ويتحمّلان نتيجة المعركة. وهي إشارة ذكيّة من الكاتب؛ حيث ضحايا الثورات غالبًا ما يكونون من أفراد المجتمع دون تمييز، أي أنَّ المواجهات والرصاصات لا تُميّز بين مجرم وبريء، أو بين ظالم ومظلوم. وهذا ما حدث في الثورات التي أُطلق عليها ثورات الربيع العربي... التي تحوّلت إلى حروب أهليّة أكلت الأخضر واليابس وأضعنا فيها عددًا من الدول العربية التي ما يزال بعضها يدفع ثمنًا غاليًا ويُقدّم آلاف الضحايا من أبنائه بسبب هذه المواجهات والمؤامرات التي أُبتُليت بها هذه الدول المنكوبة.
والكاتب -بن جرش- هنا يشير رمزيًّا وإيحائيًّا إلى مآسي الأمة وانهياراتها الأخيرة من خلال هذه الصّراعات والمواجهات بين السيّد والحشرات... هذه الحشرات التي تعني رمزيًّا أفراد المجتمع من وجهة نظر السيّد التي يدوسها لو عارضته أو اختلفت معه، ولهذا يوظِّفها الكاتب بعد أن يطفح الكيل لتنقلب عليه وتنتقم منه وتُنقذ المدينة/ الوطن منه ومن أمثاله.
ويلجأ الكاتب فنيًّا إلى أسلوب اللامعقول والبنية الغرائبيّة لإدارة الصراع بين الظالم والمظلوم، بين القامع والمقموع أو بين (السيّد والحشرة) كما أشار في عنوان الرواية. فالتعامل مع الحشرات والمختبر والاختراعات وتجنيد النمل لمواجهة السيّد... كل هذا من باب الأسلوب الغرائبي الذي يشير رمزيًّا وسيميائيًّا إلى الصراع الواقعي والمواجهات الدامية بين أبناء الأمة وفئات المجتمع.
والإشارات السيميائيّة هنا عند التأويل تعني أنَّ كفّة الصراع تميل إلى العلم والوعي والتكنولوجيا -كما يرى المؤلّف- وليس إلى البطش والدمار الذي يمارسه السيّد وأعوانه. لكل هذا اتَّجه (أحمد) -بطل الرواية- إلى العلم والاختراع لمواجهة القوة والبطش، ونجح في ذلك حين حوّل الحشرة الضعيفة إلى حشرة شرسة، ورمزيًّا حين يتحوّل الإنسان الضعيف المغلوب على أمره إلى إنسان ثائر وناقم، يتسلّح بالعلم والوعي والقوّة ليستردّ حقوقه ويقضي على القهر والظلم وعلى (السيّد) الذي يُجسِّد كل هذه الكوارث والمصائب.
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
(*) رواية (السيّد والحشرة): محمد بن جرش، دار كتّاب للنشر، الإمارات 2021م.