د. أمجد أحمد الزعبي
أكاديمي وباحث أردني
يحتار الباحث وهو يبحث في مدرسة إبداعيّة جمعت الموت بالحياة أي التاريخ والأدب، بين الإبداع في تطبيقات المنهج التاريخي والإبداع في فنون الأدب والرسم، من أين يبدأ؟ هل يبدأ بمسيرة الإنسانة التي انشغلت بقضيتها وتفاعلت مع محيطها لتقدم لنا تلك المرأة التي تركت بصماتها ونقشت نقشًا جميلًا في كلِّ الأمكنة التي حلّت فيها: العائلة، الحي، والبيت الريفي العابق بنسمات الحصن العليلة، في الجامعة الأم، وفي مسيرة العمل الطويل والشاق والمبدع. هل يبدأ مباشرةً بالحكاية مع التاريخ ولمسات فريدة فيه، أم يبدأ بالأدب والفن وروح الحياة النابض فيهما.
هند أبو الشعر ظاهرةٌ جديرة بالدراسة والتحليل على المستويات المعرفية والشخصية كافة، روحٌ إيجابيّة تبهرك بطاقتها التي لا تستطيع إلا أن تبتسم في حضرتها، ويغزوك الأمل كمطر لذيذ، يدفعك لتفكّر وتعصف معها عقلك ووجدانك نحو الخير العام. الجديد حاضر معها بشكل لا ينضب في مجال لا جديد فيه؛ فالتاريخ حدثٌ وانتهى، ولكن معها حكاية التاريخ لها إيقاع خاص جديدها المنهج والأسلوب والعرض والربط والتحليل، فلا تنفك هند تفاجئك بالاكتشاف والقراءات المعمّقة، فهي رائدة المشاريع، فعندما تقرأ لها في تاريخ المدن الأردنية التي هي حكايتها وراويتها كأنَّك مع ابن عساكر، في مشاريع التصنيف والعمل الوثائقي الشاق يخيل لك أنَّك مع فريق عمل كامل، من الروّاد الذين دخلوا لأرشيف المحاكم الشرعية كمصدر من مصادر تاريخ المنطقة.
فالعمل في حقل كحقل التاريخ كمن يعمل في حقل ألغام؛ فالتاريخ شديدُ الحساسية وعمله دقيقٌ ومضن، فالمؤرخ الحصيف يمثّل أركان محكمة متكاملة: فهو المدعي العام الذي يوجّه الاتهام، وهو المحامي الذي يدافع وهو القاضي الذي يصدر الحكم، فما وصلنا من التاريخ هو نذرٌ يسيرٌ مما حدث، ويحاول المؤرخ جهده أن يصلَ إلى رواية أقرب ما تكون لما حدث، ويبذل أقصى طاقة لديه ليضع هذه الصورة في مسارها الصحيح في إطار فلسفته ورؤيته المتبصرة في مجرى التاريخ العام. قد يكون العملُ في التاريخ السياسي لسير الملوك والأمراء والدول والحروب سهلًا ممتنعًا، لكنَّ الأصعبَ هو العمل في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي. فهذه مهمة لا يقدر عليها الاّ أصحاب الهمم العالية فهي تستهلك جزءًا كبيرًا من حياة المؤرخ.
المؤرخة الحصيفة هند أبو الشعر دخلت هذا الحقل الأصعب في التاريخ الاجتماعيّ، فمشروعها البحثي متعدد الوجوه متعدد الأغراض، اتّسم بالصرامة والحيادية والموضوعية جعلت الإنسان محور اهتمامها مما حدا بها لتدخل مكاتب الطابو المتراكمة بالأوراق والغبار والرطوبة، وجعلت من السنامات العثمانية وسجلات المحاكم الشرعية مادةً غنيّة في وصف الحالة الاجتماعيّة وكتابة التاريخ الاجتماعيّ، وهذا تطلّب منها أن تكون على دراجة عالية من الاتقان لعملية التصنيف والملاحظة والإفادة والإحاطة وفض الاشتباك بين ما هو اجتماعي واقتصادي لتحليل الموقف السياسي، هذا العمل الشاق والمضني فيه تلك السمة الأدبيّة الإبداعيّة القائمة على التشويق والإثارة والروح الإنسانيّة.
تسرقك هند أبو الشعر في قصة قصيرة تفوح منها روح مشبعة بالحرية والمعاناة الإنسانيّة وحالة الحب الجميل الذي يسري بك الى روعة القصيدة. فكما تقول ابنة الحصن"... أندلسية منذ بدء الكون ... لا أدري لماذا أحسُّ دائمًا بأن للأماكن أرواح؛ بعضها طيب ونقي وبعضها الآخر شرير وبغيض، هكذا هي الأماكن التي تدخلها للوهلة الأولى، فتحس بسلام يسكنك، أو وحشة تدق في صدرك، ربما هم الناس، أنفاسهم وملامحهم ومشاعرهم، هي التي تدخل إلى وعينا، ... سطوة المكان تلوّن الجلود وترسم الملامح، والناس مهما سكنوا وتوطنوا فيه، فلا بدَّ لهم وأن يذهبوا، ويظلُّ للمكان سطوته"!.