د. عبدالله مطلق العساف
أكاديمي وباحث أردني.
إنَّ عهدي ومعرفتي بالأستاذة الدكتورة "هند أبو الشعر" تعود إلى سنوات، كنتُ أحرص قبلها على متابعة أنشطتها البحثيّة وإصداراتها من الدراسات المتخصّصة بتاريخ الأردن من جميع مناحيه ومجالاته، كما وأغبطها على هذا الجهد الدؤوب الذي يعزّ نظيره اليوم، وَخِلْتُ كما لو أنَّها بحقّ قد نذرَت نفسها لتاريخ وطنها، إنسانًا وجغرافيا على امتداد مساحة تواجدهما معًا في المدن والبوادي والأرياف، وفي كلِّ مكانٍ سطّر فيه الأردنيون حضورهم وانتماءهم، وكان من نتائج هذا الجهد كثرة كاثرة من الدراسات والأبحاث والكتب والندوات والمؤتمرات التي قامت بها أستاذتنا الفاضلة، وهي ما تزال بالنشاط والجهد والإيمان ذاته تتطلع إلى المزيد والمزيد، لا تَثْبُط لها همّة أو تفتر، فهي الإنسانة المؤمنة على رسوخٍ من الوعيّ التاريخيّ أنَّ الوطن الأردني يُعتبر كنزًا تاريخيًّا في الماضي والحاضر، وأنَّ هذا التاريخ ما يزال بحاجة إلى أن نبحث عن مصادره ووثائقِه ونفتِّش عن رُواته وراياته، وأن نُشبِعَه نقدًا وتوثيقًا ونشرًا لأنَّه يُجسِّد حضور الإنسان الأردني في الماضي والحاضر، في عيشه اليومي، ونشاطه الحضوري على هذه الأرض.
منذ حوالي عقدين من الزمن بدأ اهتمامي بتاريخ الأردن والدراسات التي تخصّ هذا التاريخ، لا سيّما التاريخ المتعلق بالراوية الشفوية أو ما يُعرف بالتاريخ الشفوي، وهو حقلٌ ثريٌّ جدًّا بالمعلومات اللازمة للدراسات التاريخية.
وانطلاقًا من مدى ثقتي باحترافيّة أستاذتنا وأكاديميّتها وخبرتها الطويلة، تشرَّفتُ في التعاون معها والتشارك في أعمال ودراسات تاريخية مشتركة، وقد أثمر هذا التعاون عن عددٍ من الإصدارات والكتب، وما يزال عهدنا في هذا التعاون قائمًا، ونأمل أن يثمر الكثير من الدراسات.
لقد تشرَّفتُ، فوق ما سعدتُ، بالعمل مع الباحثة الأكاديمية المؤرخة الجادّة والملتزمة بحدود الصرامة المنهجية الأستاذة الدكتورة "هند أبو الشعر" في بعض الأعمال البحثيّة التي كان لها أثرٌ كبيرٌ على خبرتي في الكتابة التاريخيّة. وأشعر أنَّني مَدِينٌ لها بحق قبل وأثناء فترة عملي معها بجُلِّ ما استفدتُه واكتسبتُه من جوانب معرفيّة ومنهجيّة أنارت أمامي الكثير من الدروب الصعبة والشائكة في نطاق البحث التاريخيّ.
كان يقيني الهادي يذكِّرني دائمًا بنموذجها المبدع، فأستلهم مثابرتها البحثيّة وجهودها الأكاديميّة المستمرّة، إلى أن صنَعَتْ عندي دافعًا قويًّا ورغبة أكيدة لأن أحذو حذوها، وأختطّ طريقها ونموذجها بخصوص دراساتي في تاريخ الأردن. ولا عجب؛ فإنَّ الدكتورة هند لم تقتصر جهودها في هذا الكمّ الوافر من الدراسات والكتب والأنشطة المتعددة، بل إنَّ ما قامت به طوال مسيرتها أجزم أنَّه أرسى لونًا من التقاليد البحثية التاريخية الأصيلة، قد ترقى إلى مستوى المدرسة التاريخيّة، لا سيّما في الدراسات المتعلقة بالأردن، وهذا شيء غير منكور وغير مُستغرب خصوصًا لشخص مثلي عرف الدكتورة هند من قرب وعن كثب، واطَّلع على مقدار الشَّغف عندها في تأصيل الدراسات التاريخية، ونقدها وتمحيصها، وتسجيلها بكل أمانة وموضوعيّة، وبحسِّ تاريخي ومنهجي راكز وثابت، لأنَّها تستشعر دائمًا أنَّ مسؤولية المؤرخ، مسؤولية لا تدانيها مسؤولية، فهو المؤتمن على وعي الأمة والمجتمع، وذاكرة الشعب ووجدانه، وعن حضور الأوطان في هذا التاريخ؛ ما يستوجب الأمانة والموضوعية والحرص على تسجيل الحقيقة التي سوف تنتقل للأجيال القادمة.
كانت الدكتور هند وأثناء عملنا المشترك تحرص دائمًا على تشجيعي، فضلًا عن تفضُّلها بقراءة دراساتي البحثيّة، ولا أنسى فضلها وقيمة ملحوظاتها الذكيّة الدقيقة التي طالما أفدتُ منها، وجنَّبتني الكثير من العيوب المنهجيّة وغير المنهجيّة. ولذا فإنَّني إذْ أسجِّل شكري للدكتورة واعتزازي بهذه التجربة البحثية معها، أعترف بأنَّها تجربة أكثر من غنيّة وأزْيَد من الفائدة والخبرة التي حصلت عليهما، وأنا أحرص كثيرًا على مواصلة التعاون معها في الأعمال البحثية التاريخية، نحو مزيد من الدراسات التي تؤرِّخ للأردن مكانًا وإنسانًا، وفي كل جغرافيا حضور الإنسان الأردني ماضيًا وحاضرًا على أرض هذا الوطن.
***
أستطيعُ الجزم أنَّ تجربتنا مع السجلّات البلديّة كانت أكثر من غنيّة وممتعة ومثمرة في الوقت ذاته، وكان حرصنا دائمًا -ونحن نؤرِّخ للمناطق والمدن التي درسنا وثائقها- أن نستعينَ بأقدم السجلّات الخاصة بالمجالس البلديّة، التي تحتوي على معلومات غنيّة ومتنوِّعة تفيد الدراسات التاريخيّة فائدة عظيمة.
فقد اشتملت هذه السجلّات على تدوينٍ وافٍ وتفصيليّ لنشوء المرافق والمؤسسات، وأنشطة الخدمات المختلفة، ومعلومات تخصُّ أهاليها وقاطنيها، فضلًا عن مراحل نشوء الحكم المحلّي فيها وتطوُّره، ولذا فقد حرصنا على تضمين الدراسات والكتب قراءة تفصيليّة وافية تخصُّ البدايات الأولى لنشأة القرى والبلديات والمراكز الحضرية الأُخرى، كوحدات إدارية للحكم الإداري والأهلي. كما كنّا نُضمِّن هذه الدراسات بكثير من الصور التاريخية النادرة والجميلة التي تخصُّ هذه المدن والقرى، وتعكس بطبيعة الحال مظاهر الحياة المختلفة فيها، فضلًا عن أنماط العيش والعمران.
أثمرت شراكتي البحثيّة مع الأستاذة الدكتورة هند عن حصادٍ جيد كان حصيلة جهود كبيرة لكلينا، وتمثّل في عدد من الإصدارات المنشورة في كتب، وقد كان الإصدار الأوَّل لنا من سجلّات البلديات بعنوان "مادبا الملامح الاجتماعية والاقتصادية من خلال سجل ومقررات بلديّة مادبا"، ويُعدُّ السجلّ البلدي المعتمد للتحقيق والدراسة في هذا الكتاب أقدم سجلّ لمقررات بلديّة مادبا والذي يعود تاريخه إلى عام 1923م حتى عام 1927م، وقامت وزارة الثقافة مشكورة بنشر الكتاب ضمن إصداراتها لمدينة مادبا مدينة للثقافة الأردنية لعام 2012م، ومن خلال مقرّرات ومحاضر المجلس البلدي يمكن للقارئ في هذا الكتاب أن يتعرَّف إلى ممارسات الحكم المحلي في بدايات عهد إمارة شرقي الأردن، والملامح الاجتماعية والاقتصادية لبلدة مادبا في تلك الفترة.
وأمّا الإصدار الثاني المشترك بيننا، فجاء في كتاب "الزرقاء النشأة والتطوُّر 1903-1935"، وتمَّ رصد نشأة قرية الزرقاء وتطوُّرها، وتحوُّلها إلى بلديّة بتأسيس أوَّل مجلس بلدي فيها. وتناولنا فيه الملامح الاقتصاديّة والاجتماعيّة من خلال سجلّات مقرّرات أوَّل مجلس بلدي للمدينة، وألحق بالكتاب ملف مُصوّر. وقد صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة كتاب الشهر، التي تصدر عن وزارة الثقافة، كتاب رقم "174"، للعام 2014.
وجاء الإصدار المشترك الثالث بيننا، بعنوان "معان المظاهر الاجتماعية والاقتصادية من خلال سجلّ مقرّرات مجلس البلدية 1929-1931م، وتضمَّن دارسة وتحقيق لأقدم سجلّات بلديّة معان، فضلًا عن تضمينه ملف صور لبلدة معان ورجالاتها. وتكمن أهميّة هذا الكتاب والذي صدر ضمن منشورات البنك الأهلي لعام 2016م من جهة رصده لمرحلة انتقال معان من حدود مملكة الحجاز إلى أراضي إمارة شرقي الأردن عام 1925م، وقريبًا سيصدر لنا كتاب يتناول سجل لقضاء عجلون في عهد الإمارة إن شاء الله.
إنَّ ما يجدر ذكره هنا أنَّ عملنا البحثي المشترك مُستمر إلى اليوم بِخُطَىً حثيثة، ونأمل بحول الله وتوفيقه أن يُتوّج هذا الجهد بإصدارين قريبين، أولهما عن مدينة عجلون الملامح الاجتماعية والاقتصادية من خلال سجلّات عقود الزواج، وثانيهما، دراسة عن الثورة العربية من خلال الصحافة العربية في الداخل والمهجر، مُؤملًا أن تزدهر المسيرة البحثية المشتركة وتستمر في قادم الأيام.
وختامًا؛ لا بُدّ لي من إزجاء الشكر والعرفان للدكتورة هند، على كل ما أبدته وتبديه من لطف وتعاون وسخاء معرفي ومنهجي، والشكر الموفور لها على تحمُّلها للجهد العظيم أثناء إعداد الدراسات وتدقيقها للسجلّات والوثائق لمرّات عديدة، بعين فاحصة وحسٍّ بحثيّ عالي المسؤولية، ولا يفوتني أن أذكر أستاذتنا في جانبها الإنسانيّ وشخصها النادر، وما تتمتَّع به من مناقبيّة أكاديميّة وأخلاقيّة ووطنيّة وإنسانيّة وخلق علمي قلّما نجد نظيره اليوم. فكل التقدير والاحترام والودّ للأستاذة الدكتورة "هند أبو الشعر" على ما قدَّمته وتقدِّمه في مجال الدراسات التاريخيّة.