جميلة عمايرة
قاصة أردنية
بعد تردّدٍ طويلٍ وخجول، أقفل الشتاء بابه الواسع، وحسم الأمر لصالح الربيع.
أطلَّ الربيعُ بوجهه الأخضر، بأزهاره ووروده، نباتاته المتفتحة بمختلف ألوانها وروائحها. بدت الأرض بساطًا أخضر لا يحدّه شيء.
بعد أن استدعت عامل للحدائق المنزلية، أعدت المرأة حديقة بيتها باكرًا، لتكون في أجمل حلة خضراء. وزرعتها ورودًا وأزهارًا جديدة، بأنواع مختلفة.
قلّمت أغصان أشجار الحور، الأكاسيا والمجنونة، وغيرها من الأشجار التي تسوّر الحديقة من جهاتها الأربعة، وانتظرت الوقت المناسب للجلوس والاستمتاع بالربيع، بعد رحيل فصل شتائي بارد وطويل.
***
هذا الصباح نهضت مبكرة، أحسّت بالنشاط والحيوية.
ألقت كلَّ مهامها الأخرى وراء ظهرها، حضرت قهوتها، وتناولت الرواية التي بدأت بقراءتها منذ أسبوع أكثر أو أقل، لا تتذكر على وجه الدقة. في هذا الصباح الربيعي ثمة تصميم على قراءتها وإكمالها قبل حلول المساء، رغم صعوبة مسار أحداثها، وتحركات بطلها غير المتوقعة والتي تفاجئها في أكثر من مشهد.
أحضرت كرسي الحديقة الدوار، جلست محاطة بمختلف الأزهار المتفتحة، ونباتاتها الملونة، وروائحها القوية، ظهرها نحو البيت، وأمام ناظريها بساط أخضر ملون. وبدأت تقرأ.
***
تقرأ، تقرأ بشغف، تتوقف حينًا أمام الصفحات، تعيد قراءة ما سبقها أكثر من مرة، في محاولةٍ منها لتتبع تحركات البطل بعناية فائقة، وربطها مع الأحداث وتحليلها، لفهم نفسية الشخوص، وخاصة البطل بصورة دقيقة. وحينًا آخر تتوقف عن متابعة القراءة قليلًا، قليلًا فقط، تحتسي قهوتها بهدوء، وتدخن سيجارة، وتعود ثانيةً من جديد لمتابعة القراءة.
فجأةً انتابتها هواجس ومخاوف تجاه بطل الرواية.
تسير الأحداث بهدوء، وفجأة يحدث ما لم يكن متوقعًا، من أفعال بشعة، وسلوكيات سيئة، يقوم بها البطل وحده بكلِّ خفةٍ ودهاء، هكذا بلا سبب واضح أو مقنع.
بعد أن يعلق قلب حبيبته، -أكثر من مرة فعلها مع فتيات أخريات-، يمضي بلا وداع ولأسباب غامضة، يعود من غيابه الطويل، ويذهب للبحث عنها. وحين يجدها وقد رحلت بعيدًا بعد زواجها، يذهب لمقرِّ عملها. وهناك يكمن لها في محلٍّ ما أو مكان يختاره بعناية، يكمن متخفيًّا، وعند خروجها، ينتهز الفرصة الملائمة، ويقوم بقتلها بخفة متناهية، ودون إراقة نقطة دم واحدة، وسريعًا ما يختفي بين جموع المارة والعابرين بلا أثر.
لا يوضح الكاتب، - سبق وأن قلت هذا-، لا يوضح أو يفسّر الأسباب التي دفعته لقتلها، ولو حدث وكانت هناك أسباب، هل ثمة ما يدعو للقتل؟.
أعادت قراءة المشهد أكثر من مرة، ربطته بالصفحات التي سبقته، والصفحات اللاحقة، في محاولة لفهم الأسباب التي دفعت البطل لاقتراف هذا الفعل، دون العثور على سبب خفي أو معلن.
ولكن هل قتلها حقًا؟ أم هي واحدة من تخيلات الكاتب؟
لا تدرك المرأة ما الذي حدث أو كيفية حدوثه، لا تدرك ما الذي سيحدث في الدقائق القليلة القادمة، رغم أنَّ الكلمات دخلت رأسها واستقرت هناك. إذ شعرت بأنَّ الكلمات هي كلماتها بل وتخرج من أعماقها. من يدري فقد تطير هي، أو قد يطير رأسها بشعرها الطويل، كفراشة حقل ملونة، ويتقافز تحت سماء ربيعية بلون أحلامها. أو يحدث الأمر هكذا لأسباب أخرى، لا علاقة لها بالرواية وبطلها. لا أحد باستطاعته التنبؤ بالنهاية. الأمر برمته متروك للصدفة، أو الحظ السيئ، أو التوقيت الخاطئ، أو يعود لمخيلة منفلتة من عقالها لكاتب لا يأبه لشيء.
***
فجأةً أحسّت بالبرد فانتفضت أوصالها. انتبهت لأغصان الأشجار حولها، كانت تهتزُّ بقوّة، وخاصةً أشجار السور الغربي للحديقة.
سقطت الرواية من بين يديها.
ما الذي يحدث؟
طلقة واحدة نحو الرأس من كاتم للصوت، كفيلة بأن ينفصل عن الجسد بكل سهولة.
قال عابرون بأنَّهم رأوا رأسًا آدميًّا يهوي من علوٍّ، ويسقط في الشارع المقابل مثل كرة قدم. شاهدٌ قال بأنَّه رأى بأمِّ عينيه رأسًا متطايرًا بشعر طويل، لا بد وأنَّه يعود لامرأة، يتقافز فوق رؤوس المارة، والسيارات العابرة بسرعة الريح.
شاهد عيان آخر قال: في بداية الأمر ظننت أنَّها طائر ورقية، مزينة بخصلات شعر، - يفعلها كثيرون -، لكنَّني حينما تتبعت المسألة، تيقنت أنَّه رأسٌ آدمي يعود لامرأة، وبسبب ازدحام السيارات والمارة، لم أتمكن من متابعته بسهولة.
لا أعرف أين انتهى به المطاف. وربما يعود الأمر في جوهره، بأنَّني كنتُ أتمنى أن يكون المشهد أقلَّ بشاعة، لذا لم أتمكن من مواصلة الرؤية. حقًا لا أعرف ما الذي حدث وكيف حدث ولماذا، بل واعترف هنا أنَّني بتُّ لا أعرف إن كان ما رأيته حقيقةً، أم هو من بنات الخيال، إذ بدأ ينتابني الشكُّ مؤخرًا.