مفلح العدوان
كاتب وروائي أردني
يحضر بكامل بهائه، وقد كنتُ ودَّعته عند الجسر، هناك قريبًا من النَّهر، قبل أعوام بعد أن أتممتُ زيارتي لفلسطين، لكنه الآن يتجسَّد أمامي فرحًا، أوَّل مرَّة أرى طائر الفينيق بهذه البهجة، وهو يصفق بجناحيه، ويخبط الهواء معبِّرًا عن حالة لم أعهدها منه.
قلتُ: سلامٌ على المتجدِّد روحًا لا تغيب.
قال: سلامٌ على مَن يحنّ ولا يئنّ، توقًا إلى فلسطين!
واقترب منّي، شممتُ رائحته كأنه مسك وياسيمن ورياحين، كأنه مشرَّب بنهر من الطّيب، فاقتربتُ منه، كأنّني أريد أن أسبح في زكيّ عبقه، كأنني أنتظر بشارة منه يريد أن يفرِّح قلبي بها، وينعش روحي، لأحلِّق معه، متشبثًا بجناحيه، فنطير توقًا لتلمُّس فضاءات تنتظر، ومساحات مشوّقة لأن نعاينها محبَّةً وحضورًا.
***
• بشارة الطائر
الفينيق لا يأتي إلّا بنبأ لم يستطع كتمه، وبخبرٍ قد آن أوانه ولن يرجئه، فبيني وبينه عهد النَّهر والتراب، ميثاق الدم والروح، بيني وبينه وعد بأن أكونَ أوَّل المبشّرين بالخبر اليقين، وها هو جاء يبشِّر، ولا ينفِّر، هو هكذا طائر الفينيق معي رفيقًا قريبًا، شفيف الباطن، حسن الظاهر، جناحاه مظلّة أنس، وقلبه من حرير، ها هو المتجسِّد أمامي بكل عنفوانه، أتى... ومجيء الفينيق دائمًا فيه إشارة وعلامة وبشارة.
قلتُ: هل حان الوقت؟
قال: بلى.. لقد استيقظوا من نومهم، فتحوا بأيديهم قبورهم، وقاموا بكامل عنفوانهم.
قلتُ: هل حقًا قام الشُّهداء.. واستيقظ الجنود، ونهضوا من خنادقهم التي صارت قبورهم طوال تلك الفترة الماضية!
قال الفينيق فرحًا: حقًّا قاموا.. حقًّا قاموا!
***
• الشهداء يعودون
تأنَّينا قليلًا قبل أن نلحق بالمستيقظين من نومهم، فالفينيق له روايته التي لم أُحَط بها علمًا، هو الذي عنده خبر من الكتاب، هو المحيط بمعرفة ما كان قبل أن يُدفن الجنود في خنادقهم، وقبل أن تشهد أسوار القدس على معاركهم، هو يعلم أحوال الناس حين كانوا ينتظرون العون والنجدة عندما أحاط بهم الأعداء من كلِّ حدبٍ وصوب.
تأنَّينا قليلًا، وطائر الفينيق، لا يتركني في حيرتي، بل يقرأ هواجسي، ويحنُّ عليّ، يضمّني بجناحيه، فبيني وبينه رفقة محبّة، وعشرة ترحال، ونيّة صافية، وتوق واحد لمعرفة أخبار بلاد، هو حامٍ لذاكرتها وحافظٌ لتاريخها وعارفٌ بحاضرها، وأنا قرين هذا التَّوق خاصة حين يفرد جناحيه فوق بلادنا الأردن وفلسطين، ويسبر بعينيه أحوال البلاد وأخبار العباد هناك وهنا.
فرحًا حلَّق بجناحيه حولي، وكان بهيجًا إيقاع حديثه حين قال:
أرأيتَ ذاك الحاجز الذي منعكَ الأعداء عنده من دخول القدس، حاجز قلنديا.. أرأيتَ تلك الأبواب المغلقة في المدينة المقدَّسة.. أرأيتَ الطُّرق المدَّججة بعساكر الاحتلال.. كلها.. كل تلك المواقع تتهيّأ الآن للذين قاموا من خنادقهم، تلك الخنادق هي أمكنتهم التي موّهوها كأنها القبور، وناموا فيها، كأنهم الأموات، غير أنَّها في الحقيقة كانت مساكنهم وهم الأحياء فيها أكثر من كلِّ مَن حولهم، هم الشهداء في الواقع لا الخيال، صبروا وانتظروا، وها هم يعودون، يتهيّأون لفتح الأبواب المغلقة، وتدمير الحواجز القاسية، وبثّ الحياة في الدروب الحزينة، ها قد بدأت قيامة الجنود الذين دافعوا عن القدس، كان مجيؤهم آنذاك في زمن آخر وهم يكبِّرون ويهزجون ضمن كتيبة الحسين الثانية، والحرب هبَّت نيرانها، وعلا أزيز رصاصها.. ها هم الآن، كأنهم ينتظروننا هناك، في حيّ الشيخ جرّاح، هناك عند تلّ الذخيرة، وقد صار اسم كتيبتهم "كتيبة أم الشهداء"، هناك قرّروا أن يكون اجتماعهم، وهيأوا أنفسهم ليعيدوا تموضعهم ووظائفهم ومواقعهم كما كانت في حزيران عام 1967 وقد دعونا لنكون معهم شاهدين وفرحين على عودتهم بعد أربعة وخمسين عامًا على الغياب.
***
• فوق التلّ
فرحتُ، قبل أن أمتطي صهوة طائر الفينيق، لأزور القدس، وأرى تفاصيل الحياة والبطولة والشهادة هناك.. أخذتني البهجة، ونبض استفزَّ كياني وقلبي وروحي وكلّ جوارحي.
قلتُ: سؤال أخير قبل أن نغادر، قبل أن نعودَ إلى حيّ الشيخ جرّاح.
تأمّلني الفينيق، وهو يهزّ رأسه منتظرًا السؤال، كأنه يستعجل حديثي، لنرتحل بعده إلى هناك، حيث الجنود بكامل شهادتهم ينتظرون.
قلتُ: وما الإشارة على الموعد، وقيامة الشهداء، ويقينك هذا بأنهم عائدون الآن، ليكملوا معركة تلّ الذخيرة؟
قال مبتسمًا: سأروي لك القصة الآن، سريعًا سأرويها، وبعدها ننطلق إلى هناك، فالإشارة هي بعض تفاصيل الحكاية!
لم يبدأ طائر الفينيق سرد حكايته بـ(كان يا ما كان، في قديم الزمان)، بل حلق بعينيه غربًا، وهو يقول إنَّ هذا يحدث الآن:
الواحدة وعشرون دقيقة.. الساعة تشير إلى هذا التوقيت بيد الشهيد حين لفظ أنفاسه الأخيرة!
ما قيمة الوقت بعد تلك اللحظة؟
هل توقفت الساعة ما إن لفظ أنفاسه الأخيرة، أم أنها كانت تشير إلى لحظة ما حمي الوطيس، واقتربت النيران من خندق الجندي المقاتل، وصارت الدنيا كلها أزيز رصاص، وندّية مواجهة، واستحضار كل قوى الإيمان على زناد البندقية، أنْ الله أكبر، فتوقّفت الساعة عند تلك اللحظة كشاهد على آخر لحظات عمر الشهيد!
الواحدة وعشرون دقيقة..
تتكرَّر الأرقام عند هذا التوقيت كل يوم منذ بدء الخليقة، لكن الساعة لم تتوقف كما حدث في توقُّفها بيد الشهيد، هي ساعة كلّ الشهداء السبعة وتسعين الذين سقطوا في السادس من حزيران، هناك في تلّ الذخيرة، تلك ساعتهم جميعًا وإن وُجدت مع رفات أحدهم، هو قد يكون محمد أو سالم أو يوسف أو إبراهيم أو أيّ غيرهم، الاسم لا يهمّ، فكلهم على قلب شهيد واحد، تلك الساعة ساعتهم حيث صمدت عقاربها على مينائها كأنَّها نزفت الزَّمن كما الدّم وهي تدافع عن ثرى القدس، كأنَّها قبل أن تتوقَّف حركة عقارب حياتها، كانت تنبض عزم قتال وهي مرتبطة بالمعصم واليد والأصبع الضّاغط على الزناد وما توقف إطلاق الرَّصاصة الأخيرة، إلّا حين تراخت اليد، وهدأ المعصم، وهمدت عقارب الساعة ممدَّدة على سرير الواحدة وعشرين دقيقة!!
الساعة توقَّفت، قلب الشهيد توقَّف، لكن روحه انطلقت عصفورًا يتفقَّد ما حدث لرفاق السلاح حوله، في الوقت ذاته انطلق الزَّمن من إطار الساعة، وتركها عند ذاكرة الواحدة وعشرين دقيقة بيد الشَّهيد، لم يتوقَّف عند تلك اللحظة، والشَّهادة لم تتوقَّف، فالشَّهيد لا يحدّه زمان ولا مكان!
حين ارتفع الشَّهيد فوق أرض المعركة، رأى مع روحه المحلِّقة هناك رفًّا من طيور أرواح شهداء يلوِّحون له، فينضمّ إليهم، كانوا سبعة وتسعين شهيدًا يسيِّجون ببطولاتهم تلًّا في القدس اسمه تلّ الذخيرة!!
***