أحمد الطراونة
روائي وإعلامي أردني
فتَحَ الغباش شهيّة العين على الإغفاءة.
أوقَفَ الدّم الساعة، وتلعثمت البندقيّة عن البوح، وبقيَ الرَّصاص يحلم بالتماعةٍ في جوف المدى.
وحين انخفض أزيز الطائرات ودخلت الأرض في سراب، ظلَّ الجرح نازفًا تحت التراب، والدم ينزّ من الشُّقوق شقائق نعمان..
نقطة دم صغيرة شوّهت وجه امرأة ما تزال في ريعان الحلم، فانكسرت ضحكتها في جوف الصورة المعلّقة بين أصابع هزّها الخدر على خاصرة الزّناد، فصعد الكلام وئيدًا على حافة الابتسامة الخاطفة في الخندق الأزليّ:
"مَن أنت؟
كم الساعة الآن؟
لماذا في هذا الوقت؟
منتصف الليل أم هو منتصف النهار؟".
توقَّف عقرب الساعة اللّعين، فتماهت الوجوه في وجهكَ، وحين ارتاحت آخر الرصاصات على خاصرتك صرخت أزرار معطفكَ التي لمّعت للتوّ، وفاحت منه رائحة "البعيثران"، واتَّسعت فيه الشقوق.
ازداد صخب الأنفاس تحت القميص الذي ثلمته رصاصة تائهة، وبرق البصر وهدلت الجفون، فاستقام الوطن بياض واسع الأرجاء لا دم فيه، فقط غمامة واسعة تنثال منها أسرار الحياة وترتفع فيها القناديل ببطء إلى السماء، وتلسع فيها عقارب الوقت ما بقي من خنادق الأنين.
شعرَتْ الزَّغاريد بارتخاء في لسان الحكاية، ومرَّ طيفُ العجوز كوشم عتيق كان ينساه الناس لحظة ذكر محاسنها، تعطّلت لغة الحرب وبدت العيون قنابل تشرق من دخان الحزن، أو تسابيح تنفلت كخرزات من أصابع عابد على دروب القدس العتيقة، أو قارب من سعف نخلة يرسل في ضفاف النهر المقدّس الذي سَرَقت غربان السّراب سنابَل قمحِه دمعة...
تعب الوقت، وتكاسلت الدقّات؛ دقّات الرقّاص الذي أتعب الخنادق ولم يتعب، فشعر عقال "المرعز" هو الآخر بالتعب، تعب الغواية حين كان يتنصّت في الليل على تناهيد روحها، أو يسترق السمع لصوتها وهي ترسم برأس الأبرة خطى الغُرَز في أهداب الشّماغ، وأيّ شماغ.
وحين استحكم الغباش على العيون الجعفريّة، في الساعة ذاتها، الواحدة والثلث، مرّ الفتى مسرعًا من سهول مؤتة، واليرموك، وكان يشنّف أذنيه للصَّهيل البعيد، ويشعر بغصّة في زغاريد مجروحة البهجة، تجرجر خطاها إلى حيث مقبرة في زاوية الأرض.
عادت الشمس ذاتها...
هي ذاتها التي تخلّلت خُصل الشعر المجعّد،
هي ذاتها التي عرفت أسراره،
هي الشمس ذاتها وفي الساعة نفسها الواحدة والثلث تستفزّ الأرض وترمي عليها قصاصات من ورق سجّلت فيه أسماء عشّاق لم يغادروا، ودروب لم يتوقَّف فيها قرع نعال الباحثين عن لين السَّماء وطيب عيشها.
هي الشمس نفسها التي خجلت حين مسَّ الرَّصاص جنبيه،
كانت تغار حين ينعكس الضوء عن حافة الساعة،
ينعكس خيطًا من نور يرحل في عتمة القرى، فتستقيم الدروب.
وهي الساعة نفسها التي انحنت عقاربها لغائب لا يؤوب،
ومدّت له جناحين من زرقة السماء، ففاض في الحضور..
وهي الساعة نفسها التي توقفت على همسِه وهو يشهق الشهقة الأخيرة مُناديًا:
"يا عسكر الله خلوا البواريد رجّاده".
وهي الساعة نفسها التي غضبت يوم توقَّفت عيناه عن النَّظر فيها لحظة إقامة لصلاة، أو موعد للقاء، أو يضبطها على حافة "شيك" محمَّل بالصَّبر بين ضفَّتين.
هي الساعة نفسها حين تضرب مع الأرض موعدًا،
وهي الساعة نفسها التي ما تزال تقصُّ حكايتها صورةً على جدار في غرفة صغيرة هناك، في زاويا القرى البعيدة عن الضوء،
وهي الساعة نفسها التي نُسي اسم صاحبها على حافة الخندق ذات احتفال مهيب عطّرته نياشين النَّصر العتيق.
هي الساعة ذاتها الواحدة والثُّلث حين أوقفها الدَّم والخلق الوعر...