د. عطا الله الحجايا
شاعر وأكاديمي أردني
لإِيلاَف هـذي الأرض ما وجدوا بهــــا - خبـــزًا ولكــن أطعــموها قــلوبـَـــــهم
تجـافوا عن الأحـلام فيـــــها وقلّبــــــوا - على كل شــــبر من ثراها جُنوبَهـــــــم
وجــــاؤوا خـفافـًـا ما تـــوزَّع عــاشـقٌ - على رمـلها إلّا وشـَــــــمَّ طيـــوبَــــــهم
والطيوب التي انتشرت هي أرواح معتّقة بالعشق، مزيَّنة بالنُبل، هي المسك الذي اختصَّ الله به الشهداء، وعطّر به الأرواح الصاعدة، وحين يكون معراج أرواحهم من القدس فإنهم يكونون للسماء أقرب، وللخلود أوجب...
فالقدس هي المكان الوحيد الذي يسافر في قلوب الناس وينتقل..
القدس تشارككَ حمل الحقائب إذا سافرتَ وتبسط لكَ الأكُفّ إذا عدتَ إليها..
القدس تبادلكَ الحكايات في المقهى، وتشاركك الوسادة في المنفى، وتمسح دمعتيكَ في الزنزانة.. تحضنك جرحًا وتنزفكَ دمًا.
القدس المدينة الوحيدة التي تجري فحصًا للدّم وهي تنتقي قرابينها، فليس كلّ الدماء توافق طينها، تحتاجه دمًا لا يعرف الخيانة، وتريدُه نجيعًا يزهرُ تحريرًا ويُثمرُ تضحيةً ويُقطفُ حريّة.
ليس المهم حــــديث الـنفس للـنفس... فـ"القدس في القلب" غير "القلب في الـقـدس".
نعم، القلب في القدس لأنَّها جزء من الإيمان، ولأنَّها موئل الأفئدة، ولأنَّها المسرى، ولأنَّها الِقبلة الأولى، ولأنَّنا منها عرفنا الطريق إلى السماء.
***
الذين نذروا أرواحهم لتعلّق على أسوار القدس وعلى شرفات بيوتها وأهلّة مآذنها لم ينتظروا قصيدة من متكِئ على فراش الثرثرة، ولم يتعلّقوا بمزاج مُفاوض يسعى لتحسين شروطه، القدس تعرف رجالها وتميِّزهم من رائحة الدم، وتعلم سيماهم وأسماءهم، تعرف حيرتهم إنْ تعثّروا بزيتونة يسندون أغصانها، وترى انحناءهم على حجر يسند حائطًا، وتدرك ارتباطهم بترابها؛ فأسمتهم المرابطين الذين ربط الله على قلوبهم، فلم تلتفت إلّا لضجيج روحها تجوب الحواري، ونحنحة مؤذِّنيها، وحشرجة حناجر قرّائها وصدى هتافها تردِّده البيوت الصامدة التي طُوِيت على ألم الفراق، وتعوَّدَتْ أنَّ اليومَ الذي لا يشيَّع فيه شهيد يومٌ يسقط في حسابات التضحية والفداء.
***
القدس علَّمتنا أنَّ لكل مكان حكاية، ولكل باب من أبوابها قصّة ارتبطت بقائد أو مجاهد أو مُريد.
عرف الصّادقون مهرها، فأمهروها دماءهم..
وعرف المؤمنون مكانتها، فتفيّأوا ظلالها..
وعرف المريدون قربها، فحلّوا بها حلول مقيم لا يفارق طينها وطيبها..
وفكّ المقاتلون أسرار الصُّعود، فاتَّخذوها سلّمًا للارتقاء.
***
القدس؛ الشيخ جراح، باب العمود، جبل المكبر وسواها لا تنقطع حكاياتُها عن ذاكرة الجند وقلوب الأمَّهات ووسائد لم تُمسّ لعروس زُفّ عريسُها إلى السماء ذات انتفاضة، ويتيم أورثه أبوه فخر الدَّهر وأنواط الكبرياء.
يحدِّثونك عنها، ويتحدَّثون إليها، يحفظون أزقّتها ويعرفون أهلها دارًا دارًا، ينتشون إذا قيل لهم إنَّكم قاتلتم على أسوار القدس، فيحدِّثونك عن رفاقهم الشهداء وفي أصواتهم حياءٌ من عودتهم أحياء، وخجلٌ من أنَّهم رواةٌ وكانوا يرجون أنْ تُروى عنهم الحكايات.. ما زالو يحفظون حداء الرفاق ونخوة الشهداء الذين آمنوا أنَّ الاستسلام عارُ الدَّهر فأبوا أن يحملوه، والذين أدركوا أنَّ المنيّة في القدس أمنية البارّين بها.
***
نحن الذين ليس لنا من القدس إلا أضواؤها، ونحن نتطاول ونعصُر العيون أسىً وحنينًا من أعالي جبال السلط، نمدّ النّظر، وتشرئبّ أعناقنا لعلّها تحظى بانعكاس الضوء على قُبّة الصخرة أو بدخان قِرى لجدٍّ كنعانيّ ما يزال يحرس ذاكرة السّور ورواحل العودة..
نحن هنا والقدس سدرة منتهى المحبّة، نصبو إليها بقلوب قُدّت من حنين وشوق.
نحن هنا والأرواح هناك....
نحن هنا والأحبّة في رباطهم على أسوارها ينعمون، وفي ذودهم عن حماها يمضون، يحرسون مآذنها من القطعان الجائرة كما تحنو الأم على صغيرها في مهادِه.
***
تسأل حجارتِها وشوارعَها عن رجال مرّوا بها، فتدلّكَ على أضرحة الشهداء، تحدّثكَ عن رجال يمارسون المقاومة طقسًا يوميًّا لا يشغلهم عنها إلا راحة مؤجّلة أو رحلة أبديّة، رجال لا يشغلهم عن الموت في سبيلها إلّا الموتُ في سبيلها، ونساء اتّخذن من المسجد دارًا ومن النوافذ شقائق، ومن الأبواب محارم، تعلّمت أكفّهنَّ الطاهرات كيف تصفع جنود الاحتلال فتأتي الصفعة بسهولة بذْل الصَّدقات من الأكفّ ذاتها التي تعوَّدت نسج الأعلام لجثامين الشهداء، وأطفال تعلّموا أبجديّة الحجر قبل أبجديّة الحرف وقبل الفطام، أطفال عرفوا أنَّ أهوَن ما يواجههم في الحياة قطعان المغتصبين، وأنَّ عليهم منذ الآن أنْ يتعلّموا كيف يرجمونهم، وكيف يفقأون العيون الوقحة في دروب القدس.
للقدس ذاكرة وللتاريخ ذاكرة، وويلٌ لمَن تطرده ذاكرة القدس من ذاكرة التاريخ وتُلحقه في سجلّات المتخاذلين ودفاتر الخيانة، فهذا مذموم في الدنيا ملعون في الآخرة.
***
سلامٌ يا قدس
سلامٌ للشيخ جرّاح وجبل المكبر وكنيسة القيامة
سلامٌ على مساجدك والركّع السّجود
سلامٌ على قوافل الشهداء والتراب الذي جُبل بالدِّماء
سلامٌ عليكِ ونحن نحدِّث أنفسنا بغزوٍ أو نجهّز غازيًا
سلامٌ عليكِ ونحن نقلّب الجُنوب ونسأل الأرواح: هل سترحل دون أن تضرب مع التحرير موعدًا ومع القدس عهدًا؟
سلامٌ عليكِ ونحن نعتذر عن ضعفنا وهواننا
سلامٌ عليكِ ونحن لم ننسَ أنَّ في القدس أهلًا لنا أغمضوا على رملك الجفون، وشدّوا على أسوارك بالنواجذ
سلامٌ على أهلك وهم يضيئون قناديلك كلّما حاول غاصب أو متخاذل إطفاءها
سلامُ الله على الأقصى وحرّاسه.