علي عبيدات
كاتب أردني
في مواضيع الإنشاء المدرسي التي كنّا نكلف بها، كانت فلسطين حاضرةً دائمًا، "اكتبْ رسالة إلى صديقك في فلسطين المحتلة واسأله عن أحواله"، أو "اكتب موضوع تعبير تتحدث فيه عن مدينة القدس عاصمة فلسطين المحتلة"، وحين كان المعلمون من ذوي التوجُّهات الحزبيّة كان التعبيرُ منسرحًا حرًّا، فيقول معلم اللغة العربية: "اكتب خاطرة جندي أردني يحارب في القدس ونفدت منه الذخيرة"، ذاك زمن مضى كان فيه المتعلّم رهينَ مصادر تلقي محدودة -ولهذا علّاته- لكنه دون أدنى شك ضمن اشتباك المتعلّم بالبيئة والسياقات الثقافية والاجتماعية والتاريخية التي لا يغيب عنها نبل القضايا الكبرى وكثرةَ تكوير ومخالطة كلام معاصري الأفعال الكبيرة.
في المجتمعات التي عاشت حروبها وخساراتها وانتصاراتها؛ يصبح الحديث عن الحرب مثار ألم وقسوة بصرف النَّظر عن المنتصر والخاسر، لكن هذا ترفٌ بالنسبة لمن يجد الكلام عن حروبه وانتصاراته وهزائمه، نحن أمام حقيقة أردنية قاسية تصرخ في وجه التوثيق والتأريخ والبحث والدّرس والأدب والفنون التي لم تفعل ربع واجبها لملاحم أردنية حقيقية تصل إلى حد الأسطرة، خاضها الجنود لتبييض وجه العالم كله حين كان سواد المغتصبين يدنّسُ أثواب طهر ريفية في فلسطين المحتلة، وهذا المعجم "الطُهر، الدنس، السواد، الأثواب" حين كان التعبيرُ أشد دقةً كما يليق بالعربية الفصيحة، كذلك "بياض الوجه" كما يليق بعسكري عربي كان يخوض حربًا أسطورية في القدس وأهله في الضفة الشرقية ضمن سياقهم الاجتماعي يسوقون أربعين ناقة أوَّلها فرس وآخرها ذلول لـ"تبييض وجه تقطّع". كنّا حقًا. كلٌّ يحاربُ في خندقه، البندقية لحاملها وصون الهويّة في مضارب واسعة يؤكد أهلها أنهم هنا، فلا يحمل البندقية إلّا مَن يعرف نفسه.
خللٌ واضحٌ في التوثيق يجعل طالبًا مدرسيًا في الثانوية العامة بعمر جندي أوَّل يقف فوق تل الذخيرة في القدس؛ لا يعرف شيئًا عن الجنرال الذهبي المصري عبدالمنعم رياض رئيس أركان القيادة العربية الموحدة في حرب 1967، وبعد توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والأردن أصبح قائدًا لمركز القيادة المتقدِّم في عمّان، عبدالمنعم رياض الذي أعلن عن بدء الحرب وتلقفَ الجنود الأردنيون الأمر مثل تعويذة تحوِّلُ الرِّجال إلى سباع طائرة كالتي جاء ذكرها في ملحمة المهابهاراتا حيث طارت سباع مجنَّحة تواجه جماعة الوحش البغضية، لكن من أيّ منطلق حارب الأردنيّون بشراسة ملحميّة وعاد العالم كله ليتذكَّر أفعالهم في الشيخ جرّاح وسائر القدس؟
في الجزء الشمالي من القدس الشرقية يقف تل الذخيرة (حيّ الشيخ جرّاح) عاريًا من أي ذخيرة ودعم وعلى التلّ كتيبة الحسين (الكتيبة الثانية) ومثلها كتائب أخرى تحيط بالقدس في العام 1967، ثلاثة أيام من شهر أيار، الخامس والسادس والسابع، سطرَ الجيش الأردني ملحمة عسكرية ليس فيها أي منطق عسكري أو بشري؛ كأنَّ أساطير الدنيا تعتصرُ ذاتها لتخرج لنا باشتباك عسكري خاضه 105 جنديًا استشهد منهم 97 رجلًا، كانوا عراةً من سماء الطيران العربيّ، عراةً من الذخيرة، ولا غطاء إلا قنابل النابالم الحارقة والذخيرة التي لا تنتهي في أسلحة الخصم، حتى أنَّ الجندي الإسرائيلي "يعقوب حيتس" احتفل بعد أن قتلَ القنّاص الأردني الذي منعهم من العبور إلى التلّ ساعات طويلة. قتال بالأسلحة حتى نفاد الذخيرة، بالسكاكين حتى موت حاملها، بالأسنان حتى ارتخاء فكّ الشهيد، ورجال بأجساد ناقصة ودم يتغدق يرفضون التسليم حتى آخر غضبة.
منطلقات كثيرة تجعل الجندي الأردني يأكل نفسه إذا خسر في الشيخ جرّاح وضاعت القدس من بين يديه، بيئةٌ لا مكان فيها لجبان تربّى فيها الجنديّ، بيئة تفرض على صاحبها الشجاعة فلا بديل أمامه إلا أن يكون شجاعًا، هذا درس علّمته الأرض لأهل المكان، أدوميون وعمونيون ومؤابيون وأنباط وعبور إغريقي وفارسي وبيزنطي وروماني، زرع في الأرض وموقعها ضرورة الشجاعة ونجابة أنْ يمسكَ ابنُ هذا المكان العالَمَ من شاربِه ويشدّ أذنه. الشجاعة تراكُم تاريخي يصيب المكان ويتسلّل إلى ترابه حتى أنَّ نتّاج الطبيعة يصبحُ ضمن تسلسل غذائي قِوامه "خلّص نفسك". ومن هذا أنَّ جنرالًا مثل حابس المجالي أنجبته أمه في معتقلها يجيدُ الرطينَ بنبرة تنجحُ في استنطاق خصوصيّة المكان من صميم الجندي المتأهِّب للفناء التّام.
هبَّ الأردنيون دفاعًا عن فلسطين قبل معارك القدس، وقبل أن يبني الإنجليز مدرسة الشرطة في حيّ الشيخ جرّاح (تلّ الذخيرة)، الشجاعة ذاتها قادت أوَّل شهيد أردني على ثرى فلسطين الطهور كايد مفلح عبيدات ورفاقه إلى التسابق على الموت عند الثكنات الإنجليزية في معركة تلّ الثعالب التي قادها حتى استشهد كما تبيَّن من عودة فرسه الصقلاوية وحيدةً مخضّبة بدمه عام 1920، شجاعة مارسها شيوخ السّطوة لقيادة فرسانهم إلى ثكنات الإنجليز والصهاينة قبل النكبة، ومثلهم طبقة شيوخ المال من أثرياء وإقطاعيي شرقي الأردن حين كانوا يسلِّحون فدائيي الثلاثينات من القرن الماضي، السّياق كله تضحية ولا يضحّي إلّا الشجاع، والشجاع في لهجة البدويّ والفلّاح المتأخر "شجيِّع" كما وصفت أمهات وجدّات الأردنيين خيرة الشباب قبل الشهادة بيوم.
في الشيخ جراح وحده كانت ثمار الشجاعة 21 قتيلًا إسرائيليًا حين قرر جنود كتيبة "أم الشهداء" قرارات فرديّة بالموت، وصدحوا بأصوات يعرفها رواة المعركة الشرسة، قال واحد منهم: "مش جاي اتخبّى" عندما أشار عليه زميله بالنزول إلى الخندق، وقال آخر: "ودّي أجيك بس شوف هاي" كان يردّ على زميله بأنه قادم له لكن عينه التي اقتُلعت من مكانها تؤخِّره ويرفع له العين المتدلّية. إيمان تام بالموت المُحقق وإصرار على الموت بشرف مثل كل أبطال الأساطير، كما مات جمشيد الشاهنامة ثابتًا في مواجهة الضحّاك.
كل دمٍ يُراق دفاعًا عن حياة الآخرين يتوجَّب علينا صونه، ترجمته جماليًّا إلى لغة، إعادة تفكيك أسباب ونتائج إراقته، كذلك يفعل العالم مثل أفعال "ميخائيل شولوخوف" و"أرنست همنجواي" و"كاميلو خوسيه" و"جورج أورويل" ومثلهم عَربُنا إبراهيم عبدالمجيد (في الصيف السابع والستين) وغادة السمان (كوابيس بيروت) ومجيد طوبيا (أبناء الصمت) وجمال الغيطاني (الرفاعي) وتيسير سبول (أنت منذ اليوم).
***
إنَّ معركة الشيخ جرّاح جزء من قرابة 35 معركة خاضها الأردنيون في فلسطين، وتزامنًا مع الشيخ جرّاح في 1967 كان الجيش العربي الأردني في حالة تأهُّب قصوى، وجرت معارك على طول الجبهة الأردنية بينه وبين قوات العدو الإسرائيلي، في باب الواد وتل الشيخ عبدالعزيز وتل النبي صموئيل وتل الرادار واللطرون، والخليل وطولكرم وجنين ونابلس. وقد بلغ حال جنودنا في موقع دفاعي بنابلس أن أضربوا عن الطعام لأنهم في موقع دفاعي ولا أوامر لهم بالهجوم وفق الخطة العسكرية، لتكون معركة حيّ الشيخ جرّاح امتدادًا لفروسيّة لم تهدأ يومًا واحدًا منذ ريبة تجّار القدس من وجوه جديدة تطأ أرضهم مطلع القرن الماضي، إنكَ لن تجد مؤتمرًا وطنيًا أردنيًا إلا ومن مخرجاته الرئيسة شأنٌ فلسطيني، من هنا تأتي تربية ذهنية أصيلة تربط فلسطين بكل بيت أردني تربّى فيه مَن استُشهد أو جُرح أو شهدَ دمًا على أرض فلسطين.
حيّ الشيخ جرّاح الذي عاد إلى المشهد الإعلامي والحقوقي مثل أيّ بقعة فلسطينية تمّ سلبها ويودّون مضاعفة سرقتها تعرفُ جيدًا بسالة حُماتها الذين سيَّجوا القدس بالدم وناموا نومهم الأبديّ في باحات بيوت المقدسيين، وكلّما بالغ الآثاريون بالحفر يجدون رقمًا عسكريًا مات صاحبه حتى لا يزفّه أطفال قرى الأردن بصفات تنافي الشجاعة، مات لينتصر على قاتله وليُحرج الذي ترك ظهره عاريًا وسماءه ذائبة بالقنابل، حيّ الشيخ جرّاح أنموذج تُهرَعُ منه المسامع وتشمُّ أريجَ حمحمته أنوفٌ ما جُدعتْ، لأنَّ العسكريّة شرف مثل باب بيت العائلة.
***
ستبقى أصوات وتهاليل رجال الله في كتيبة الحسين أقوى من أصداء تظنُّ شهادة وتضحية الجيش العربي الأردني منعزلة عن عقيدة ضفة النهر الأخرى التي تتقاطع مع شعب يهتف عاليًا بتاريخه ونظامه السياسي الذي توارث مسؤولية الدفاع عن فلسطين منذ الشريف الحسين الذي رفض ما رفض على أن يقايض فلسطين، وكذلك المؤسس المغفور له عبدالله الأول الذي أطلق رصاصة حرب 1948 نحو الغرب ومعه قادة جيشه بعد أن أوصاهم بالدفاع عن فلسطين حتى آخر قطرة دم وارتقى شهيدًا على باب القدس، ومثله الملك المغفور له طلال الذي كان يرى الخلاص بالنار فقط، ثم الحسين الباني الذي نصب خيمة النصر على تلال هزيمة العرب في 1968 ودمَّر غطرسة العدوّ في معركة الكرامة الخالدة يوم حارب الأردنيون بسلاحهم وأسنانهم، وجلالة الملك عبدالله الثاني الذي تفتَّحَ حُكمه على واقع سياسي مُعقَّد ظلَّ فيه وفيًّا لإرث أجداده بينما تنهار قيم كبرى في موازين غيره.
من هنا تأتي الشَّهادة، من اشتباك بين الأرض والإنسان والسماء؛ فكما كان السلاح قليلًا فقد كان الإيمان وافرًا والعزيمة كثيرة الرماد.
ملاحمنا في القدس الشريف تلتئم لتشكّل كتابًا عنوانه حينَ كُنا لم يكنْ أحدُ، وكما كنّا في الشيخ جرّاح ما زلنا في عمّان على قولة صفي الدين الحلي:
تدافعُ القدرَ المحتومَ همّتُنا عنّــا... ونخصمُ صرفَ الدّهرِ لو شـينا
نَغشَى الخُطوبَ بأيدينا، فنَدفَعُها... وإنْ دهتنـــا دفعنــاها بأيدينــــا