عرفة عبده علي
كاتب ومؤرخ مصري
منذ القرون الميلاديّة الأولى، انتشرت الكنائس في فلسطين حيث عاش السيد المسيح وأمّه السيدة مريم العذراء. كما انتشرت أديرة النسّاك والرهبان خاصة في القدس والكرمل والناصرة. وما زالت كنائس القدس تتمتَّع بتلك المنزلة الروحيّة التي جاوزت شهرتها فلسطين إلى آفاق العالم؛ ومن أشهرها: كنيسة القيامة، دير الآباء الفرنسيسكان، دير السلطان، دير مار أنطونيوس، كنيسة الصعود، كنيسة نياحة البتول وطريق جنازتها، دير المصلبة، وغيرها من المزارات المسيحيّة المقدَّسة.
• كنيسة القيامة
تُعدُّ من أهم وأعظم الآثار المسيحية، وتمثل ذروة ترف البناء وكل ما فيها بلغ نهاية الرَّوعة الفنيّة.. ومن الطريف أنَّ سدنة كنيسة القيامة وحملة مفاتيحها مسلمون ينتسبون إلى أسرة الصحابيّة الجليلة "نسيبة بنت كعب"، وقد توارثت هذا الشَّرف منذ عصر صلاح الدين الأيوبي عقب اختلاف الطوائف المسيحية على إدارة الكنيسة.
تزدان كنيسة القيامة بالقناديل والثريّات الفاخرة وتتحلّى بمجموعة من أندر الصور والأيقونات والتماثيل المرمرية. وتمتدّ أمام واجهتها في الجهة الجنوبية ساحة تقوم شرقها وغربها بنايات مختلفة من أديرة وكنائس صغيرة. وإذ يدخل المرء الكنيسة يصعد من عن يمينه إلى الجلجلة ويواصل من عن يساره السَّير إلى القبر المقدَّس الذي يحيط به بناء مسقوف فساحة مستديرة تحدِّق بها أعمدة كبيرة تسند رواقًا عظيمًا. وأمام القبر المقدَّس يقوم محور المكان كله. وهو المسمّى خورس الروم، أو كنيسة نصف الدنيا التي يحيط بها رواق طويل بجانبه معابد صغيرة ويؤدي شمالًا إلى كنيسة الآباء الفرنسيسيين وديرهم، وينزل منه شرقًا إلى كنيسة القديسة هيلانة ومغارة وجدان الصليب.
وقد شهدت كنيسة القيامة خلافات بين الروم الأرثوذكس واللاتين خلال الاحتلال الصليبي، حتى تمكن اللاتين من السيطرة عليها، إلى أن أعادها السلطان صلاح الدين إلى الروم الأرثوذكس، إلّا أنَّ الخلافات استمرَّت بين الطوائف المسيحية، ولذا قام الحكّام المسلمون بتنظيم ملكيّة الطوائف بكنيسة القيامة ومنع المصادمات في أحقيّة إحداها في دخول القبر المقدَّس يوم سبت النور، فعقد مجلس بدار المحكمة الشرعية سنة 1542 برئاسة مجموعة من القضاة المسلمين وبحضور ممثلي الطوائف، وحدَّد المجلس طريقة الدخول إلى القبر المقدَّس ومواعيد الزيارة.
"تقع كنيسة القيامة بالقرب من باب الخليل، والطريق المؤدي إليها يسمّى حارة النصارى، ويوصل إلى "سوق القيامة" وهو مكان فسيح يقف فيه باعة التحف والمسابح والأيقونات والشموع التي تُباع للحجّاج والسياح، وأمام الكنيسة ميدان فسيح مربع يسمى "ساحة القيامة" كان يقف فيه الزوّار منذ عهد السلطان سليمان القانوني لدفع رسوم دخول الكنيسة، حتى عهد إبراهيم باشا الذي ألغى هذه الرسوم سنة 1832 بعد خضوع المدينة المقدَّسة للحكم المصري، وعند المدخل، نجد ثلاث درجات عليها آثار أعمدة المدخل القديم، ومنها عامود قائم حتى الآن ويرجع للقرن التاسع الميلادي، ويحيطه جدار من جهاته الثلاث، حيث توجد كنيسة مار يعقوب الصغير وكنائس مار يوحنا ومريم المجدلية والأربعين شهيدًا، وفيها مكان قديم للعمّاد وقبور لبعض بطاركة الروم الأرثوذكس بالقدس، وفي اليمين، ثلاثة أبواب، يوصل أحدها لدير الروم المسمّى: دير القديس إبراهيم، والثانى يوصل لجرس المنارة، ومن الباب الثالث ندخل كنيسة الملاك ميخائيل القبطية ثم كنيسة الإفرنج، التي يصعد إليها باثنتي عشرة درجة حجريّة، حيث كان مدخل الجلجثة الذي سدَّه اللاتين سنة 1187م وجعلوه هيكلًا باسم "أم الأحزان ويوحنا الحبيب" وتحته هيكل باسم القديسة مريم المصرية. بعد ذلك نتجه مباشرة نحو باب القيامة الرَّئيس، في جنوب الكنيسة، وإلى شمال الباب الرئيس مكان السدنة المسلمين، وعن يمينه سلالم الجلجثة، وأمامه حجر أحمر يسمى المغتسل، وفي هذا المكان: أنزل يوسف الرامي ونيقوديموس اليهوديّان جسد المسيح من على الصليب ووضعاه على هذا الحجر... وأمام المغتسل يوجد القبر المقدَّس.. وأضيف إليه هيكل الملاك، وغطيت القبّة والجدران بالرخام في القرن التاسع الميلادي، أمّا في القرن الحادي عشر، فقد وضع الصليبيون تمثالًا فضيًّا للمسيح، أكبر من الحجم الطبيعى بقليل، ثم غطّوا القبر المقدَّس بصفائح فضيّة مطليّة بالذهب، ثم أقيمت ثلاثة جدران حول هيكل الملاك، وفي سنة 1541 جدَّد الأب يونيفاسيوس القبر وزيَّنه وسدَّ بابي الهيكل، وفي سنة 1555 أقام الأقباط هيكلًا لهم وراء القبر المقدَّس من الغرب... وإلى شمال القبر نجد هيكل القديسة مريم المجدلية، حيث قابلت المسيح بعد قيامته وظنّته البستاني... وفي شماله نصعد أربع درجات إلى كنيسة ظهور المسيح للعذراء مريم بعد القيامة..".
وللرهبان الفرنسيسكان اليوم حصة وافرة في كنيسة القيامة. وفي كل يوم يقيمون الصلاة إلى جانب طواف يومي في مختلف ربوعها. وهم المسؤولون عن تنظيم القُدّاسات الكثيرة التي تُقام فيها يوميًّا بحضور أفواج الحجّاج القادمين من جميع أطراف الأرض. ولا شك في أنَّ أعظم احتفالات كنيسة القيامة عند جميع الطوائف المسيحية هي احتفالات الأسبوع المقدَّس والفصح.
• دير الآباء الفرنسيسكان
وينسب هذا الدير إلى مؤسسة القديس "فرنسيس الأسيزي" الذي ولد بمدينة "أسيزي" الواقعة بمقاطعة "أومبريا" الإيطالية عام 1182م، وتوفي بها عام 1226م.
وهو "أكمل صورة للمسيح" بحسب قول أحد البابوات، ومن أقرب القديسين إلى قلوب المسيحيين. وقد زار القديس "فرنسيس" فلسطين سنة 1219م. وقبل ذلك بسنتين (1217م) أنشأ "مقاطعة الأرض المقدسة"، وسميت "حراسة" وأرسل أول رهبانية إلى البلاد.
وبين العامين 1333م و1336م تمكَّن الرهبان الفرنسيسيون بوساطة أمراء نابولى لدى سلطة مصر من أن يحلّوا نهائيًّا في الأرض المقدسة بعد أن صار لهم الحق في الملكيّة والسكن في الأماكن المقدَّسة. وقد أقرَّ البابا أكليمنطس السادس ذلك (1342م). ومنذ ذلك الحين كان مركزهم جبل صهيون. ولمّا طردوا سنة 1551م حصلوا على مكانهم الحالي في القدس وهو دير المخلص فجعلوه مركز "حراسة الأرض المقدسة". وكانت مهمَّتهم الأولى، ولا تزال، العناية بالأماكن المقدَّسة، وعددها أربعون مقامًا، واستقبال السياح وخدمتهم. ولهم في أبرشيّة القدس 14 رعيّة. ومن أعمالهم الاجتماعية والثقافية رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية والدروس والأبحاث العليا والأندية والمراكز المهنيّة والمياتم وبيوت الفقراء والمرضى. وقد أسّسوا سنة 1847م مطبعة تُعدّ من أهم المطابع في القدس.
• دير السلطان
منذ قديم الزمان، جرى العُرف على إطلاق أسماء القديسين على الأديرة المسيحيّة.. وهذا الدير، هو الوحيد الذي يحمل اسمًا إسلاميًّا.. وهناك رواية بأنَّ السلطان صلاح الدين قد وهبه لأقباط مصر، فنسبوه إليه عرفانًا بفضله، ويشير "ويليامز" السائح Williams أنه لمّا زار الدير سنة 1843 روى له قسيس بأنَّ أحد سلاطين المماليك عرض على كاتبه القبطي نظير إخلاصه في خدمته مدة طويلة مكافأة ماديّة، فاعتذر عن قبولها، والتمس أن يُسمح له بتعمير الدير الخرب بالقدس، ومن هنا جاءت التسمية!
وقد حافظ الأقباط على هذا الدير. ولم يُنتزع منهم إلا عندما احتلّه الرهبان اللاتين إبان الاحتلال الصليبي للقدس، ولكن صلاح الدين أرجعه إليهم بمجرَّد دخوله القدس، وفي عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب أمر بإعادة بناء سوره، كما أمر الملك المنصور قلاوون (1290) بألّا يمنع الأحباش من دخول هياكل القيامة أو دير السلطان، بناء على طلب ملك الحبشة، لأنَّ اللاتين الموجودين هناك كانوا يضايقونهم. وليس معنى هذا ملكيّة الأحباش لهذا الدير، لأنَّ "رتشموند" -الذي كان مديرًا لمصلحة الآثار بفلسطين أيام الانتداب البريطاني- قد ذكر أنه منذ سنة 1400 كان للأقباط حقوقهم بمقدّسات القيامة.
وعلى كل حال فإنَّ موضوع إثبات ملكيّة هذا الدير للأقباط قد كتب فيه الكثيرون مؤيدين أقوالهم بالوثائق التاريخية، وهناك مجموعة منها نشرها الأنبا تيموثارس مطران القدس القبطي الراحل بهذا الخصوص.
• دير مار أنطونيوس
يقع شمال كنيسة القديسة هيلانة بالقيامة، وقد أصلح وأضيفت إليه مبانٍ جديدة سنة 1875 بتبرُّعات أغنياء القبط. وعُمِّر مرَّة أخرى سنة 1907م. وبعد خمسة أعوام صار لائقًا لجعله مقرًّا للمطرانية القبطية، بعد تجديد كنيسته وأساساته القديمة، وقد ذكر القبطيّة الصغيرة باسمها في الدّور الأرضي من الدير، وللمستودع (البئر) سلَّم دائري للهبوط عليه للحصول على المياه، وهو مكوَّن من إحدى وخمسين درجة. وعلى بعد ستة أمتار من هذه الكنيسة تقع المرحلة التاسعة من مراحل حمل الصليب، التي سقط عندها المسيح للمرَّة الثالثة.
• كنيسة الصُّعود
عند جبل الزيتون ثلاث قمم.. الشماليّة منها تسمى: جبل الجليل، وعليها بيت أسقف أريحا للروم وتسمى هذه القمّة "كرم الصيّاد".. وعلى القمّة الثانية نجد "مكان الصُّعود" وترتفع عن مستوى الحرم الشريف بنحو ستين مترًا وتبعد عنه مسافة سبعمئة متر.. والقمّة الثالثة تضمّ قبورًا لأنبياء، وهى في مستوى الحرم.. ويذكر الرحالة "تيوفيتوس" في يومياته أنَّ القديسة هيلانة شيّدت كنيسة محلّ الصُّعود. وذكر غيره أنها أقامت أيضًا بناءً آخر دعي الزيتونات عند المغارة التي تنبّأ عندها المسيح بخراب أورشليم ومجيئه الثاني. وليس لهما أثر واضح حاليًّا، إذ تعرّضتا للتدمير أثناء معركة قامت بين الصليبيين وصلاح الدين هناك، ولم يبق من الكنيسة سوى قبة صغيرة تركها صلاح الدين لأنَّ المسلمين يحترمون مكان الصُّعود، حيث يؤمنون بأنَّ المسيح رُفع حيًّا إلى السماء، وقد حصل الأقباط على أذونات كتابيّة بالصلاة في الجانب الشرقي، من القضاة والحكام المسلمين في أزمنة مختلفة، كذلك منح هؤلاء، إذنًا بالصلاة مرتين في السنة، وهو ما يتمّ حتى الآن.
وأمّا الصخرة التي صعد المسيح منها إلى السماء فيبدو عليها أثر لإحدى قدميه، وكانت محاطة بسور معدني. وفى القرن 11م بنى البندكت جدارًا حولها، وتقام هناك مذابح مؤقتة للطوائف تقدَّم عليها الصلاة عشيّة عيد الصعود من كل عام.
• كنيسة نياحة البتول وطريق جنازتها
على بعد عشرين مترًا من باب النبي داود (في السور الجنوبي) نجد عامودًا على حائط؛ تذكارًا للأعجوبة التي حدثت عندما كان تلاميذ المسيح حاملين جسد السيدة العذراء مريم إلى قبرها في الجسمانية في شرق القدس، إذ هجم عليها بعض اليهود المتعصبين، وتجاسر أحدهم على أن يدفع التابوت المقدَّس من يد حامليه فيبست يده في الحال. كما عميت عيناه وكل مَن كانوا يشاركونه هذا الفعل الرديء. ولكنهم ندموا على عملهم. فصلّى التلاميذ من أجلهم فشفاهم الله وآمنوا بالمسيحيّة، وبعد عشرة أمتار نجد كنيسة نياح البتول. وهي كنيسة حديثة البناء يسكنها الرهبان البندكت الألمان على أرض أهداها لهم السلطان عبدالحميد، ويُعتقد أنه المكان الذي تناول فيه المسيح عشاءه الأخير وفيه قضت العذراء نحبها، وتقع بالقرب منه عليّة صهيون (بيت مارمرقس).
• دير المصلبة
ويقع هذا الدير في وادٍ غرب القدس، وتنسب إليه أسطورة تقول إنَّ الشجرة التي أخذ منها صليب المسيح نمت في المكان الذي ترتفع فيه كنيسة الدير. وتحيط بالدير -على غرار ما في أديار أخرى في فلسطين والشرق الأوسط- أسوار عالية تظهره بمظهر قلعة من قلاع القرون الوسطى.
وهناك أيضًا الكثير من المزارات المقدسة للطوائف المسيحية، منها على سبيل المثال:
- طريق الآلام: وهو الطريق الذي سار فيه السيد المسيح من قصر بيلاطس حتى الجلجثة، ويعبر المدينة المقدسة من الشرق إلى الغرب. وفي صباح كل يوم جمعة، يقوم الحجاح المسيحيون من مختلف الأجناس يقودهم رهبان فرنسيسكان، باقتفاء آثار هذه الخطى بدءًا من كنيسة الجلد وانتهاء بكنيسة القيامة، وتنقسم أعظم طريق قدسية إلى أربع عشرة مرحلة، وتشير كل مرحلة إلى حدث وقع في المكان أثناء السير الأخير للسيد المسيح قبيل صلبه، فتسعٌ من هذه المراحل تقع على امتداد طريق الآلام وخمس داخل كنيسة القيامة.
- كنيسة المهد: استمدَّت "بيت لحم" أهميّتها وشهرتها العالميّة من مولد السيد المسيح فيها، وقد وضعته السيدة مريم العذراء في مذود في مغارة قريبة من القرية..
في حوالي سنة 330م شيّد الإمبراطور الروماني "قسطنطين" كنيسة فوق المغارة، سميت بكنيسة القديسة مريم.. وفي رواية أخرى، أنَّ القديسة "هيلانة" أم الإمبراطور قسطنطين هي التي شيّدت هذه الكنيسة، وظلت قائمة حتى عام 529م عندما دمّرها السامريون خلال ثورتهم على الإمبراطورية الرومانية، فأعاد الإمبراطور "جوستنيان" بناءها بشكلها الحالي تقريبًا وأصبحت تسمى "كنيسة المهد".
وقد شيّدت هذه الكنيسة على الطراز البازليكي، ويزدان صحنها بأربعين عامودًا من الرخام الفاخر، بكل جانب صفين من الأعمدة، وطول كل عامود ستة أمتار تنتهي بتيجان، وينقسم الصحن إلى خمسة أروقة، وسقفها من الخشب، ويرتفع فوق الأعمدة حائطين لمسافة عشرة أمتار، يزينهما أحد عشر شبّاكًا، وبالكنيسة هيكل أوسط له حنية شرقية، كما هي الحال في الكنائس القبطية القديمة.
- مغارة المهد: يهبط إليها بدرجات حجرية، ولما كانت المغارة من صخر جيري ليِّن فقد تمَّ تدعيمها بالعقود، فضاقت حتى أصبحت مساحتها 12.5 × 3 أمتار.. وإلى الشرق نجد تجويفًا مستديرًا يشير إلى مكان ميلاد السيد المسيح. وأرضيتها مرصوفة بالرخام الأبيض تتوسطه نجمة مسمرة، منقوش عليها باللاتينية (منذ عام 1717) عبارة: (هنا قد وُلد يسوع المسيح من العذراء مريم).
وفي آخر المغارة من الجهة الشمالية نجد بابًا يقود إلى هيكل القديس يوسف النجار، تذكارًا للحلم الذي رآه هناك ودعاه الملاك إلى الهرب إلى مصر. ثم نهبط إلى مكان أوسع باسم الأطفال الشهداء، وفي وسطه عامود كبير يدعم سقفه. وتحت هيكله باب صغير ينحدر إلى مغارة أخرى صغيرة -تفتح مرة كل عام- ويذكر التقليد أنه هناك تمَّ دفن أطفال بيت لحم الشهداء، الذين قتلهم هيرودس الملك.
أمّا في وقتنا الحاضر، وفي ظلّ إرهاب الاحتلال الصهيوني والصمت العالمي المريب، تتصاعد تحذيرات الأساقفة من تحوُّل كنائس القدس إلى متاحف أثرية!!