أوَّل مَن ظهر على شاشة التلفزيون الأردني
عامر الصمادي
إعلامي ومدرب دولي ومترجم وكاتب أردني
واكب رافع شاهين تأسيس التلفزيون الأردني الذي أطلق بثّه عام 1969، وخلال مسيرته الإعلاميّة الطويلة التي تجاوزت ثلاثين عامًا في التلفزيون قدَّم شاهين العديد من البرامج، أمّا انطلاقته الحقيقيّة في عالم برامج المسابقات الثقافيّة فكانت عندما قدَّم برنامج "فكِّر واربح". ونظرًا للشُّهرة التي حقَّقها شاهين، وتميُّز أسلوبه في تقديم تلك البرامج، فقد سعت بعض التلفزيونات العربيّة إلى استقطابه لتقديم مثل تلك البرامج لديها، وكانت هذه شهادة نجاح عربيّة لهذا الإعلامي الأردني الفذّ، الذي لم يبخل على وطنه الأردن أو وطنه العربيّ الكبير بشيء، فقد كان مبادرًا ومستجيبًا، ساعيًا لتحقيق التميُّز دون سواه في أيّ موقع عمل فيه، وهذا أحد أسرار نجاحه، والمحبّة الكبيرة التي حظي بها.
لعلَّه لم يشتهر بتاريخ التلفزيون الأردني شخص مثلما اشتهر المرحوم رافع شاهين، فقد وصل أثناء بثّ برامجه إلى مرحلة وحالة غريبة في الشارع الأردني، تجعلكَ تشعُر أنَّ ثمة فرض حظر للتجوُّل في الشوارع، وما ذلك إلّا نتيجة لحرص الناس على مُتابعة برامج رافع شاهين المتنوِّعة. وهو أوَّل مَن ظهر على شاشة التلفزيون الأردني يوم افتتاحه بمعيّة نخبة من المؤسسين الأوائل؛ بعضهم قرأ الأخبار أو قدَّم برامج.
عندما بدأتُ العمل بالتلفزيون الأردني عام 1990 كان المرحوم رافع شاهين قد ترك التلفزيون الأردني وعُيِّن مستشارًا برئاسة الوزراء، لكنه ترك فراغًا كبيرًا مكانه دون وجود البديل؛ إذ لم يكن من سياسة التلفزيون الأردني -وما زال- أن يدرِّب بدائل أو ما يسمّى الصف الثاني لكلِّ مهنةٍ من المهن الإعلاميّة بحيث لا يحصل فراغ في حال مغادرة أيّ إعلامي لموقعه، وهذه سياسة تتبعها معظم المؤسسات الناجحة في العالم سواء أكانت إعلاميّة أو غير إعلامية، بعكس ما أرساه مؤسِّس التلفزيون الأردني المرحوم محمد كمال الذي كان يؤهِّل عدة أشخاص للموقع أو المهنة نفسها، وبالتالي تكون خياراته مفتوحة.
عندما بدأتُ التحضير لهذه السلسلة من المقالات عن الآباء المؤسِّسين للإعلام الأردني واجهتني مشكلة كبيرة؛ وهي عدم توفُّر مراجع أو معلومات منشورة عنهم، فقد سبقوا عصر الإنترنت، ولم يهتمّ أحد بالتوثيق لهم، وكثير منهم لم يهتمّ هو نفسه بذلك، فكانت المعلومات شحيحة جدًا، الأمر الذي جعلني ألجأ إلى التواصل مع أبنائهم أو أحفادهم، أو مباشرة مع مَن لا يزال على قيد الحياة منهم، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما تلقّيتُ ردود الفعل، فبعض الأبناء أو الأحفاد رفضوا التعاون تمامًا، وبعضهم قدَّم معلومات لا تُسمن ولا تغني من جوع. أمّا الأشخاص –أقصد الإعلاميين- الذين لا زالوا على قيد الحياة فمعظمهم كان غير مُبالٍ وليس لديه حتى سيرة ذاتيّة أو صور قديمة عن البدايات، وقليلون هم الذين كانوا منظَّمين ولديهم سجلّ توثيقي لحياتهم ومسيرتهم. وهذا الأمر ينطبق على المرحوم رافع شاهين، فقد لجأتُ -بعد أنْ أعيتني الحيلة- إلى أحد أبنائه وهو أستاذ جامعي لتزويدي بالمعلومات والصور اللازمة عنه لتكون رافدًا أساسيًّا لي في كتابتي، واستقبلني ورحَّب بالفكرة، وشكرني على الاهتمام بسيرة والده، ووعدني أن يزوِّدني بما طلبتُ بعد أسبوع، وعند انقضاء أسبوعين راجعتُه فتعذَّر بضيق الوقت، وأجَّل ما وعد به إلى الأسبوعين القادمين، وبقيتُ أراجعه لمدة ثلاثة أشهر، إلى أن فاجأني بالقول إنه سيشارك بورقة أكاديميّة عن والده في أحد المؤتمرات التي تنظمها الجامعة التي يعمل بها، ولن يتمكَّن من إعطائي أيّ معلومة أو صورة يمكن أن أنشرها، فأُسقط في يدي، وعدتُ إلى المربَّع الأوَّل في البحث المُضني عن المعلومة وهي قليلة ومحصورة بمقالين كُتبا في مكانين مختلفين، وبهما المعلومات نفسها تقريبًا، فكان لزامًا عليَّ أن أبحث وأستفسر من الزملاء السابقين الذين لا زالوا على قيد الحياة، وهنا برزت مشكلة أخرى سأتعرَّض لها في مقال قادم.
عندما طلب منّي مدير البرامج في التلفزيون الأردني عام 1993 الأستاذ نضال الدلقموني أن أقوم بتقديم برنامج (دَوْري النُّجوم) وهو برنامج مسابقات ثقافيّة ويتضمَّن بعض الفقرات الجديدة وقتها مثل الكاميرا الخفيّة، وكانت أوَّل فقرة "كاميرا خفيّة" يقدِّمها التلفزيون الأردني، وافقتُ شريطة أن أكون أنا مَن يُعدُّ المادة الثقافية، وجعلتُ محور الأسئلة جميعها هو الأردن، واستفدتُ من تجربة الأستاذ رافع شاهين بهذا المجال.
وُلد المرحوم رافع شاهين في بيسان عام 1943 وكانت عائلته من العائلات التي هُجِّرت عام ثمانية وأربعين إلى أن استقرَّ بها المقام في الأردن، وتحديدًا في مدينة الزرقاء حيث نشأ وترعرع ودرس هناك، ويقول الكاتب الأردني هزاع البراري عن ذلك في مقال كتبه عنه قبل ما يزيد على عشر سنين: وُلد رافع وسط سهل بيسان الشهير بخصوبته واتصاله مع سهل نهر الأردن، وكانت فلسطين تشهد أحداثًا عسكرية وسياسية ناتجة عن انكشاف المؤامرة الغربية، الهادفة لإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين بعد تشريد شعبها بالقوّة، وقد تفتَّحت عينه على هذا الواقع المؤسف، فبعد خسارة العرب لحرب الـ48 فيما سمّي النكبة الفلسطينية، اضطرَّت عائلة رافع شاهين للُّجوء إلى الأردن، ولا شكَّ أنَّ الطفل رافع شاهين احتفظ في ذاكرته النقيّة، بصور المأساة وويلات اللُّجوء في ظروف حرب شرسة، أطاحت بالحلم العربي بالوحدة والازدهار، وأضاعت جزءًا كبيرًا من فلسطين، وقد وصلت العائلة إلى الأردن واستقرَّت بعد فترة في مدينة الزرقاء القريبة من العاصمة عمّان.
عاش رافع شاهين طفولته وشبابه في مدينة الزرقاء التي أحبَّها وأقام فيها فترة طويلة، حيث درس في مدارسها، وقد تميَّز منذ المرحلة الابتدائية بنشاطاته اللامنهجية، فقد كان فاعلًا في الإذاعة المدرسيّة، وحاضرًا في الاحتفالات والمناسبات الوطنية التي تقيمها مدارس وزارة التربية والتعليم، ولعلَّ هذه المرحلة قد وضعت رافع شاهين على مسار الإعلام دون أن يخطِّط لذلك، غير أنَّ موهبته الواضحة وقوّة شخصيّته وبشاشته المحبَّبة، جعلت منه شخصيّة مرغوبة وذات حضور كبير منذ كان طالبًا مجتهدًا، لقد بنى شخصيّته الإعلامية على المحبّة وتقدير جهد وخبرة الآخرين، ومحاولته الإفادة منها قدر المستطاع، لذا ومع تفتُّح وعيه شابًا، أدرك أنَّ الإعلام الوطني هو سبيله الوحيد في الكشف عن قدراته الكبيرة، ونظرته الثاقبة تجاه المستقبل، فقد كان متفائلًا على الدوام، وتوّاقًا للعمل والإبداع مهما كبرت المصاعب وزادت المعيقات.
واكب رافع شاهين تأسيس التلفزيون الأردني الذي أطلق بثّه عام 1969، ليكون مؤسسةً وطنيّةً على قدر كبير من الأهميّة، خاصة أنَّ الظروف السياسية والعسكرية كانت مضطربة على صعيد المنطقة العربية برمَّتها، وكان الأردن يتعرَّض لظلم إعلامي كبير، هدف إلى النيل من صموده والتقليل من دوره الكبير الذي فاق حجمه الاقتصادي والعسكري، لذا كان التلفزيون الأردني جبهة وطنية صلبة سعت لكشف الحقائق وردّ المكائد، وقد أدرك رافع شاهين بذكائه وحسِّه الوطنيّ، المسؤولية الملقاة على جيله من الإعلاميين الشباب، فهو بذلك منتج وطني حقيقي، وعمل على التتلمذ على عدد من كبار الإعلاميين العرب، من أمثال الإعلامي الشهير شريف العلمي، الذي كان يقدِّم برنامجه ذائع الصيت "سين وجيم" حيث عمل معه رافع شاهين في الإعداد للبرنامج، وهذا مكَّنه من الإمساك بأسرار برامج المسابقات الثقافيّة، ممّا ساعده على تحقيق حلمه الخاص.
خلال مسيرته الإعلاميّة الطويلة التي تجاوزت ثلاثين عامًا في التلفزيون قدَّم شاهين العديد من البرامج منها برامج منوّعات ولقاءات خاصة مع فنانين وشخصيّات اجتماعيّة، لكنَّ نجمه بدأ يلمع عندما قدَّم برنامج "عالم المصارعة" الذي كان يعلّق عليه بصوته وهو يقدِّم عرضًا لحلبات المصارعة الإنجليزية والعالميّة، فكان هذا البرنامج يحظى بشعبية كبيرة على الرغم من أنه برنامج مستورد، أضفى عليه شاهين الروح المحليّة من خلال التعليق الصوتي، إضافة إلى طبيعة البرنامج التي تشدّ انتباه المشاهدين حتى يومنا هذا. ثم قدَّم برنامج "الرياضة والشباب" وكان هو شخصيًّا يمارس رياضة "السكواش"، واستطاع أن يُدخلها إلى التلفزيون، وأن يكون لها فقرات ثابتة، فتعرَّف عليها الجمهور الأردني وأحبَّها، واشتهرت هذه الرياضة في تلك الفترة. أمّا انطلاقته الحقيقيّة في عالم برامج المسابقات فكانت عندما قدَّم برنامج "فكِّر واربح" والذي قدَّمه لسنوات عديدة معظمها تحت الاسم نفسه، إلا أنه في بعض السنوات كان يغيِّر تسمية البرنامج؛ فتارة سمّاه "جرِّب حظّك" وتارة أخرى سمّاه "خمسة على خمسة" مع بعض الاختلافات البسيطة بالفقرات، أو تطعيم كلّ موسم من مواسم البرنامج بلعبة جديدة تشكّل تحدّيًا للمتسابقين.
ونظرًا للجماهيريّة الكبيرة التي حظيت بها برامجه فقد تسابقت كبرى الشركات والمؤسسات على رعاية تلك البرامج وتقديم الجوائز لها، فأصبحت أمنية كل مُشاهد أن يشارك بتلك البرامج للفوز بالجوائز أو الظهور على الشاشة الذي سيحقق لهم شهرة كبيرة، وقد برزت العديد من الشخصيات الاجتماعية والمهنية والتعليمية من خلال المشاركة ببرامج رافع شاهين، وأصبح أصحابها نجومًا في المجتمع، بل إنَّ العاملين بالتلفزيون الأردني كانوا يتسابقون للعمل بتلك البرامج نظرًا لأنَّ أسماءهم ستُكتب على شارته، وبالتالي تحقق المزيد من الشهرة.
كما قدَّم شاهين أيضًا واحدًا من البرامج الشهيرة جدًا وهو برنامج (مواهب) الذي طاف به مختلف المدن الأردنية لاستكشاف المواهب الدفينة؛ سواء أكانت فنيّة أو علميّة أو رياضيّة، واستطاع أن يكتشف من خلال ذلك البرنامج عددًا ممَّن أصبحوا فيما بعد يُشار لهم بالبنان في مختلف المجالات. وقد أسعدني الحظ بأن قدَّمتُ بعد رافع شاهين اثنان من هذه البرامج وهما برنامج المسابقات (دَوْري النجوم) وبرنامج (استوديو الفن) عام 1994 ونالا حظًّا واسعًا من الشهرة وقتها.
ونظرًا للشُّهرة التي حقَّقها رافع شاهين، وتميُّز أسلوبه في تقديم تلك البرامج، فقد سعت بعض التلفزيونات العربية إلى استقطابه لتقديم مثل تلك البرامج لديها فقام بالإعداد والإشراف على عدد من برامج المسابقات الثقافية، التي قُدِّمت بنجاح على شاشات تلفزيونات دول الخليج، وكانت هذه شهادة نجاح عربيّة لهذا الإعلامي الأردني الفذّ، الذي لم يبخل على وطنه الأردن أو وطنه العربيّ الكبير بشيء، فقد كان مبادرًا ومستجيبًا، ساعيًا لتحقيق التميُّز دون سواه في أيّ موقع عمل فيه، وهذا أحد أسرار نجاحه، والمحبة الكبيرة التي حظي بها.
عُيِّن رافع شاهين مديرًا للإذاعة الأردنية عام 1988، وفي عام 1989 عُيِّن مستشارًا في رئاسة الوزراء في عهد حكومة دولة الدكتور عبدالسلام المجالي، عاد بعدها لبرامج المسابقات من خلال برنامج "جائزة المليون ليرة" الذي أعدّه وقدّمه على شاشة التلفزيون السوري عام 2000، والذي يُعدُّ خطوة كبيرة توَّجت مسيرته الطويلة، حيث لقي البرنامج نجاحًا لافتًا خاصة لدى المشاهدين في سوريا ولبنان والأردن، فكان بحق أنموذج الإعلامي الأردني المتميز. وأعتقد أنَّ تقديمه لذلك البرنامج في التلفزيون السوري جاء ردًّا على تجميده بوظيفة مستشار -لا يُستشار- في رئاسة الوزراء، فحاول أن يُثبِتَ للمسؤولين أنَّ الإعلامي مهما تقدَّم بالعمر يبقى قادرًا على العطاء، وأنَّ رأس مال الإعلامي هو شهرته التي يجب الاستفادة منها في جذب المشاهدين، وليس تطبيق نظام الخدمة المدنيّة على الإعلاميين وهو قاصر عن تفهُّم طبيعة عملهم.
وقد كتبَ بعض النقّاد عن رافع شاهين كظاهرة تلفزيونيّة لم يُكتب لها الانتشار الكبير الذي يحظى به مَن عملوا بعده بهذا المجال بعد انتشار الفضائيّات، وممّا كتبه الناقد السوري (محمد منصور) متحسِّرًا على تردّي برامج المسابقات الثقافية الجماهيريّة نقتطف ما يلي: ''إنَّ الحالة التنافسيّة التلفزيونيّة كانت مقتصرة فيما مضى على برامج المسابقات، وكانت هذه البرامج تعتمد بشكل أساسي على اختيار ثقافة المتسابق وسعة اطِّلاعه وحدَّة ذكائه، وكانت تهدف في الحقيقة إلى تكريس مقولة/ إنَّ الثقافة (كالعقل زينة)، وإنَّها امتياز الإنسان المجتهد، وهو امتياز لا علاقة له بالحَسَب والنَّسَب ولا بالغنى والفقر.. بل بقدرة المرء على أن يُغْني زاده المعرفيّ الذي يكون سبيلًا للرِّبح أيضًا.
وكما كان يؤكِّد المرحوم (رافع شاهين) المذيع الأردني الذي ظلَّ لسنوات يرفع شعار (فكِّر واربح) عنوانًا لبرامج مسابقاته، وكان أشهر مَن قدَّم برامج المسابقات وشحَنَها بطاقة حيويّة اعتمدت على تمرُّسه في إذكاء روح التنافس وتحقيق قدر من التشويق المعرفي في تقديم المعلومة".
في أواخر حياته أصيب الراحل رافع شاهين بمرض السرطان وعانى منه كثيرًا ووصل الأمر حدّ استئصال معدته، وحظي برعاية ملكيّة كاملة للعلاج، بل إنَّ رئيس إحدى الدول المجاورة عرض عليه أن يقوم هو أيضًا بدفع تكاليف علاجه في أيّ مكان يختاره، لكنه فضَّل أن يبقى بالأردن إلى أن توفي رحمه الله عام 2001.
ومنذ وفاته وحتى يومنا هذا لم يستطع أيّ إعلامي آخر أن يحتلَّ مكانه أو أن يقدِّم ما قدَّمه نظرًا لاختلاف الظروف وانتشار الفضائيّات وغزو برامج المسابقات الغربيّة، بل وتسابُق بعض المحطات على شراء نماذج تلك البرامج بنسخها العالميّة وتعريبها، وهو الامر الذي انتقده الراحل رافع شاهين، واعتَبَرَ أنَّ بعض البرامج تطرح أسئلة سخيفة جدًا بجوائز ضخمة في سبيل جذب المشاهدين والمتسابقين دون تحقيق فائدة ثقافيّة تُذكر.