د. عثمان المودن
كاتب مغربي
يرى الأديب والمفكر عبدالرحمن منيف أنَّ المثقف العربي مُطالب بتعديل دوره وتغيير طبيعة خطابه، وعليه أن يعي روح العصر، ويندمج في تيّاره، ويساهم عن طريق الكلمة والفكر من أجل زيادة معارف الناس وصقل وجدانهم، وجعلهم بالتالي أكثر إنسانيّة؛ وفي الوقت نفسه يقول منيف: إنَّ ذلك لا يعني أنَّ المثقف مطلوب منه أن يكون بديلًا عن الآخرين، فهو جزء من جماعة، من حركة، وبمقدار ما يضبط حركته مع حركة الآخرين، وبالاتجاه ذاته، يمكن أن يؤدّي دورًا، ويساهم في زيادة وعي الناس، وصقل تجربتهم.
يُعدُّ الراحل عبدالرحمن منيف من الأدباء والمفكرين الذين أكَّدوا أنَّ الثقافة عمليّة بحث دائم للإجابة عن أسئلة الحياة المتجددة، والتعبير عن أفكار البشر وهمومهم وأحلامهم بأكثر الصيغ حيوية وإبداعًا وتعددًا، ومن هنا يبرز دور المثقف بصفة عامة والعربي على وجه الخصوص في مواجهة التحولات التي تعرفها المرحلة الأخيرة، والذي يشبه في بعض الوجوه دور مفكري ومثقفي عصر التنوير الأوروبي، مع فارق الزمن والمنطقة والضرورة والإمكانية، إذ يتحتَّم على المثقف العربي الآن أن يعاود طرح الأسئلة الأساسية، كما فعل مثقفو عصر النهضة، وأن يضيف إليها الأسئلة التي استجدَّت منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
في كتابه (بين الثقافة والسياسة) يرى عبدالرحمن منيف أنَّ دور المثقفين ودور الثقافة في المرحلة الحالية والمقبلة، سيكونان أكبر وأخطر من فترات كثيرة سابقة، وربّما تشابه هذا الدور مع فترة عصر النهضة، خاصة وأنَّ المراجعة النقدية التي يفترض أن تجري، بعد الانهيارات الكثيرة التي تعاقبت، ستكون مراجعة فكرية تتناول الأسس التي قامت عليها الصيغ الراهنة، وما أدَّت إليه، والأسباب التي أفضت إلى عجزها وفشلها. ويستتبع ذلك أيضًا طرح بدائل تحاول تجاوز الأخطاء والفجوات والنواقص، الأمر الذي لا يمكن أن ينهض به سوى المثقفين، ومن هنا يكتسب دورهم أهمية استثنائية.
هذا التحدي يُعتبر الأخطر والأهم في تاريخ المرحلة، لأنَّ أمورًا كثيرة سوف تتحدَّد على ضوء نتائجه، كما أشار عبدالرحمن منيف؛ فإمّا أن تكون الجبهة الثقافيّة احتملت الصدمات المختلفة المعرّضة لها وامتصّتها، واكتسبت بالتالي مناعة ضد كل ما يتهدَّدها، أو أن تكون مثل الجبهات الأخرى ضعيفة، عاجزة، ومعرَّضة للسقوط في أي لحظة، وبالتالي علينا أن نواجه كل النتائج السلبية التي تترتب على سقوطها، وعلينا أيضًا أن ننتظر أجيالًا أخرى وزمنًا آخر لمعالجة هذا الخلل الكبير في العلاقة بين الثقافة والواقع.
قد ننتظر زمنًا طويلًا -كما أكّد عبدالرحمن منيف- إذا خسر هذا الجيل شرف نقل الراية وتوصيل الأمانة إلى الأجيال القادمة، وإلى أن يأتي ذلك الزمن قد يسقط كيان هذه الأمة، وقد تواجه مأزقًا خطيرًا قد تنجو منه وقد لا تنجو، من هنا فإنَّ المثقف والثقافة يعتبران الميزان والمقياس لِما يمكن أن تكون عليه احتمالات المستقبل.
إنَّ الثقافة تلعب، كما هو مفروض، دورًا مركزيًّا في بلدان العالم الثالث، ومنها أوطاننا العربية، وهذا ما يجعل مثقف هذه البلدان مختلفًا عن المثقف في البلدان المتقدمة، من حيث الدور والمسؤولية. هذا الاختلاف ليس مزية بقدر ما هو واجب وضرورة، تمليها ظروف هذه البلدان، خاصة في المرحلة التاريخيّة الراهنة.
فإذا كان مثقف البلدان المتقدمة قد أعفى نفسه، أو أعفته الظروف التاريخية، من القيام بمهمّات معيّنة، نظرًا لوجود المؤسسات المدنية والأحزاب والصحافة، إضافة إلى القانون والقضاء ورقابة الرأي العام وحرية الرأي، فلا شيء من هذه الصيغ أو القيم يتوفر أو تم إنجازه في بلدان العالم الثالث، الأمر الذي يتطلّب أخذ هذا الفارق بعين الاعتبار عند المقارنة بين دور المثقف هنا، وهناك. وأيضًا في الوقت نفسه ينبغي لنا أن نتذكَّر دور المثقف الأوروبي في فترة سابقة، خاصة فترة عصر الأنوار، وما قام به من مهمّات من أجل الوصول إلى النتيجة التي نراها في أوروبا الآن.
إنَّ القول بموت المثقف، والإعلان، بفرح، عن انتهاء دوره، والتبشير بسقوط الأوهام المتعلقة بهذا الدور... إذا كان له ما يبرره في أماكن أخرى، فإنَّ المرحلة التاريخية لبلدان العالم الثالث، وفي بلداننا العربية على وجه التحديد، تقتضي أن ندرس بعناية كبيرة ماذا يمكن أن يقوم به المثقف، وما هو قادر عليه، بالتنسيق والتعاون مع الآخرين، مؤسسات وأفكار وصيغ. وهذا لا يعني أن ينوب المثقف عن الآخرين، أو أن يكون فوقهم، ولكن يعني عدم الانجرار إلى ما يريده الآخر، وعدم "الاندفاع" بتقديم صيغ وأنماط من الأفكار أقرب ما تكون إلى الرغبة أو التمنّي. أكثر من ذلك، قد يشطّ الخيال بالمثقف أنْ حانَ الوقت لكي تستردّ الثقافة دورها، ولأنْ يكونَ هو -أي المثقف- مرجعًا، وفي هذه الحالة غالبًا ما تكون الحلول التي يقدمها تلفيقيّة، خاصة وأنَّ معظم المثقفين ينطلقون من فرضيات ومقولات ليست لها علاقة بالواقع الملموس، وإنَّما هي نتيجة ثقافة معزولة، ممّا يؤدي إلى سرعة سقوط الحلول والصيغ، الأمر الذي ينعكس على الثقافة ككل، وعلى المثقفين جميعًا.
ولئلّا يقع المثقف فيما سبق يرى عبدالرحمن منيف أنه من الواجب عليه إدراك ما جدَّ على العالم الذي نعيش فيه اليوم من تطورات خلافًا لمراحل سابقة، وبالتالي فإنَّ المثقف الآن لم يعُد مطالبًا بالقيام بالمهمات التي قام بها أسلافه، نظرًا لتغير طبيعة المشاكل، وزيادة تعقيدها، وتداخل الاختصاصات وتباعدها، وإنَّما عليه أن يبحث عن طرق جديدة لتعديل دوره، وتغيير طبيعة الخطاب، والبحث عن صيغ وأشكال جديدة للتعامل والتنظيم، وتاليًا المعالجة.
لقد تغيَّر دور وموقع المثقف اليوم كثيرًا عمّا كان عليه في الماضي؛ فهو في الوقت الحاضر ليس ذلك الذي "يفكّ" الحرف في مجتمع تغلب عليه الأميّة، وليس ذلك الذي ينشد الشعر بالمناسبات أو يتبادله مع باقي أفراد مجتمعه، كما أنه ليس ذلك الصوفي المعزول في برج عاجي، مهمته أن يتأمّل ويستبطن من أجل الوصول إلى "الحقيقة" المطلقة، فيخرج بها على الناس بعد طول غياب.
المثقف اليوم -بحسب عبدالرحمن منيف- هو الذي يعي روح العصر، ويندمج في تيّاره، ويساهم عن طريق الكلمة والفكر من أجل زيادة معارف الناس وصقل وجدانهم، وجعلهم بالتالي أكثر إنسانيّة؛ سواء من حيث العمل أو الإحساس، وهو الذي يكون مخلصًا لعقله أمينًا في القناعات التي توصَّل إليها ويريد أن يقنع الناس بها.
لا يعني ذلك أن المثقف يمكن، أو مطلوب منه، "أن يكون بديلًا عن الآخرين، كما أنه ليس هرقل هذا القرن من حيث الإمكانيات أو الدور المنوط به؛ إنه جزء من جماعة، من حركة، وبمقدار ما يضبط حركته مع حركة الآخرين، وبالاتجاه ذاته، يمكن أن يؤدّي دورًا، ويساهم في زيادة وعي الناس، وصقل تجربتهم". لهذا لا يمكن المبالغة في افتراض دور أسطوري للمثقف الفرد، هذا الافتراض الذي قد يتوهّمه المثقف عن نفسه، أو قد يرشِّحه له الآخرون، لكي يعفوا أنفسهم من المسؤوليّة.