د. محمد أحمد عنب
أستاذ الآثار والحضارة الإسلامية بكلية الآثار- جامعة الفيوم
تَحتضنُ محافظة الطفيلة في الأردن كُنوزًا أَثريّة غَاية في الأَهمية تَنتمي إلى عُصورٍ تَاريخية قَديمة تَحكي قِصص حَضارات مُهمة سَادت المِنطقة، كما تتميّز بِمَناظرها الطَبيعية الخَلابة وقُراها الجَبلية الجَميلة وعُيون المِياه الطَبيعية. وفيها أضرحة ومَقامات لصَحابة الرَسولﷺ. ومِن أَشهر المَعالم الطَبيعيّة بِالطّفيلة؛ مَحميّة ضانا، وهي أَكبر مَحمية طَبيعيّة في الأردن. وتُعتبر الطفيلة واحدة مِن أهمّ مَراكز السِياحة الدِينيّة والبِيئيّة والعِلاجيّة والأَثريّة والتَرفِيهيّة في الأردن.
تَمتلك المَملكة الأُردنيّة الهَاشميّة العَديد مِن الأَماكن والمَواقع ذَات التَاريخ الكَبير والتُراث والمَوروث الحَضاري العَريق، وتُعتبر الطّفيلة واحدة مِن أَروع مُحافظات المَملكة؛ والتي تَتميّز بِمَوقعها الجُغرافي وأراضيها الخصبة وطَبيعتها الجَبلية السَاحرة، فَقد حَباها الله كُلّ مُقومات السِياحة مِن مَوروثٍ طَبيعي وتُراثٍ حَضاري عَريق، وتَزخر بِالعَديد مِن الشَواهد المِعمارية والمَواقع الأَثرية التي جَعلتها واحدةً من أهم الوجهات السياحيّة في الأردن، وهي تُعتبر بمثابة مُتحف مَفتوح لِما تَحتويه مِن العَديد مِمّا تَركته الحَضارات مِن منِشآت ومَواقع أَثريّةٍ مُتنوِّعة.
• الموقع
تَقع الطّفيلة عَلى بُعد 180كم تَقريبًا جَنوب غَرب العَاصمة الأُردنية عَمّان عِند التقاء وادي اللعبان مَع وادي الحَسا، ويُحدّها مِن الشَمال مُحافظة الكَرك ووادي الحَسا ومِن الجَنوب مُحافظة معان ومِن الشَرق الصَحراء الشَرقية ومِن الغَرب وادي عربة والغور الجَنوبي، ويَتميّز هذا المَوقع بِالطَابع الطبوغرافي المُميّز الذي يَجمع بين الطَبيعة الجَبلية والهِضاب المُرتفعة والسَهول الخَضراء والمُتنزهات؛ وقَد شَهدت الطّفيلة حَضارات بَشرية مُتعدِّدة تَعاقبت عَليها لأهميّة مَوقعها وخُصوبة تُربتها وتَوفُّر المِياه فيها، وهي تَضم ثَلاثة أَلوية رَئيسة هي قَصبة الطّفيلة، بصيرا، الحَسا(1).
• تَاريخ الطّفيلة ونَشأتها
تَتمتّع الطّفيلة بِتَاريخٍ حَضاري عَريق، فَقَد شَهدت تَعاقب العَديد مِن الحَضارات والفَترات التَاريخية المُتنوّعة؛ ابتداءً بِالآدوميين مُنذ عام 1500ق.م واتَّخذوا بصيرا عَاصمةً لهم، ثُم خَضعت لِحُكم الأَنباط، ثُم استولى عَليها الرُومان عَام 106م، وقد عُرفت الطفيلة في السَابق بِاسم (تَيفلوس)؛ ومعناه (أَرض الجِبال) أو الغَابة التي تُحيط بِها كُروم الزَيتون والفَواكه(2)، ودَخلت الطفيلة تَحت الحُكم الإسلامي على يد القَائد يَزيد بِن أبي سفيان، ثم تَعاقب عَلى حُكمها الأُمويون فَالعَبّاسيون فالفَاطميون ثم دَخلت في حُكم العُثمانيين(3).
• الأَهميّة التَاريخيّة والحَضاريّة لِلطّفيلة
لَعبت الطّفيلة دَورًا مُهمًا في التَاريخ السِياسي والحَضاري في المنطقة، وتَمتّعت بأَهميةٍ حَضارية واقتصادية كَبيرة؛ فَقد كَانت حَلقة وصل بين مصر وبِلاد الشَام والحِجاز وفِلسطين، وكانت مِحور طُرق قَوافل الحَج والقَوافل التُجارية التي تَمرّ في مَناطقها مِن الجَنوب إلى الشَمال أو مِن الشَرق لِلغَرب، مِمّا أَكسبها شُهرةً وأهميةً كَبيرة جَعلها مَطمعًا لِلعَديد مِن الحَضارات القَديمة لِلسَيطرة عَليها مِثل الكَنعانيين والأدوميين والأَنباط والأشوريين والبَابليين والفُرس والرُومان وغَيرهم(4).
• تُراثٌ حَضاريٌّ وطَبيعيّ
تُعتبر البِيئة الطبيعيّة الأُردنية بِيئةً غنية ومُتنوّعة، فهي تَجمع مَا بين البَادية والرِيف وتَتعانق فيها الصَحراء مَع الحُقول والمَزارع الخَضراء، وتَمتلك الطّفيلة إِرثًا حَضاريًا وطَبيعيًا رَائعًا، فَتتميّز بِمَناظرها الطَبيعية الخَلابة وبِقُراها الجَبلية الجَميلة والتي يُحيط بها مَزارع واسعة مِن الأَشجار المُثمرة، وعُيون المِياه الطَبيعية التي يَصل عَددها لأكثر مِن 350 عينًا، وتَشتمل الطّفيلة عَلى عَددٍ مِن المَعالم الطَبيعية مِن أَهمها؛ حَمامات عفرا المَعدنيّة التَاريخيّة وتَقع عَلى بُعد 26كم شَمالي مَدينة الطفيلة، ويَرجع تَاريخها لِلعَصر الرُوماني، وتتميّز بِطَبيعتها الخَلّابة وبِإطلالاتها الجَميلة فَضلًا عن أَهميتها الكَبيرة؛ نَظرًا لِخَصائصها العِلاجية الكَبيرة، لاشتمال مِياهها عَلى نِسبةٍ كَبيرة مِن المَعادن المُفيدة في عِلاج العَديد مِن الأَمراض المُزمنة، ولِذلك تُعد هَذه الحَمّامات مِن أَهم مَراكز السِياحة العِلاجية في الأُردن(5)، كَما تَشتمل الطّفيلة على حمّامات البَربيطة التي تَقع في الجُزء الجَنوبي مِن وادي الحَسا، وتتميّز أيضًا بِفَاعلية مِياهها العِلاجية العَالية(6)، وتُعتبر هَذه الحَمّامات مَقصدًا لِكَثير مِن السياح والزُوار بِهَدف العِلاج والاستجمام.
ومِن أَشهر المَعالم الطَبيعية بِالطّفيلة؛ مَحميّة ضانا، وهي أَكبر مَحمية طَبيعية في الأردن، وتتميّز بِجَمالها وبِطَبيعتها الجَبلية السَاحرة الخلّابة، وتُعد إِحدى الوجهات السِياحية الطَبيعية المُتميِّزة لِلسِياحة البِيئيّة في الأردن، وتَتميّز بِتَنوُّعها البَيولوجي الرَائع؛ فَهي تَشتمل عَلى أَنواع نَادرة مِن النَباتات والحَيوانات البَريّة، كَما تَضمّ أكثر من 98 مَوقعًا أَثريًا يَعود لِفَتراتٍ تَاريخية مُتنوِّعة بِدءًا مِن العَصر الحَجري مُرورًا بِالفَترة النِبطية والرُومانية والبِيزنطية حتى العَصر الإِسلامي المُبكِّر(7).
• مَعالم تَاريخيّة وشَواهد أَثريّة
تَضمُّ الطّفيلة العَديد مِن المَعالم التَاريخية المُتنوّعة والمَواقع الأَثرية التي تَحكي عن مَراحل مُهمة مِن تَاريخ وحَضارة الأُردن والتي يَعود تَاريخها إلى بِدايات العُصور الحَجرية وحتى الفَترات الإِسلامية المُتأخرة، وتَعكس هَذه المَعالم مَدى التَنوّع المِعماري والفَني لِلفَترات التَاريخية العَديدة التي مَرّت عَلى الطّفيلة، ومِن أَهم مُنشآتها القِلاع الحَربية القَديمة والتي تَتوزّع في محافظة الطفيلة وجوارها، ومِن أَشهر هَذه القِلاع؛ "قَلعة الطفيلة" وتَقع عَلى تَلٍ مُرتفع وتُشرف عَلى أُخدود وادي الأُردن، وتَرجع لعصر الأدوميين؛ حيث بُنيت عَلى أَساسات أدومية ثُم أُعيد استِعمالها في الفَترة الرُومانية، كَما استُخدمت كَحِصنٍ عَسكري خِلال الفَترة المَملوكية والعُثمانية، وأيضًا "قَلعة السّلع" والتي تقع إلى الجَنوب مِن مُحافظة الطّفيلة على بُعد16كم، وتَرجع أُصولها أيضًا لِلأدوميين واستمر استخدامها حتى العَصر الإِسلامي(8).
ومِن أَشهر قِلاع الطّفيلة التَاريخية؛ "قَلعة الحَسا" والتي تَقع في الغَرب عَلى بعد 6كم مِن بَلدة الحَسا، وتتميّز بِموقعها الجُغرافي الرَائع، وتُعد القَلعة مِن المَحطات المُهمة الواقعة عَلى الطَريق السُلطاني وطريق الحج، واعتُبرت مَحطة استراحة لِلتُجار والمُسافرين والحُجّاج(9)؛ حيث ذَكرها الكَاتب الإنجليزي "فريدريك ج. بيك" Frederick Peake في كِتابه (تَاريخ شَرقي الأُردن وقَبائلها)؛ وذكر أَنّها استُخدمت كَمَكان لِلاستراحة وقت الحَج زَمن العُثمانيين، وهي تَتكوّن مِن ثَلاثة طَوابق المُتبقِّي منها طَابقان، وتَبلغ مِساحتها 650م2 تقريبًا؛ ويَشتمل الطَابق السُفلي عَلى غُرف لِلتَخزين َوِبئر مَاء عَميقة، أمّا الطَابق الأَعلى فَيَشتمل عَلى أَماكن النَوم والطَعام ومَسجد لِلصَلاة(10).
ومِن أَقدم المَواقع الأَثرية المُميّزة في الطّفيلة؛ خِربة التَنور والتي تَقع بِالجِهة الشَمالية بِين وادي الحَسا واللعبان عَلى هَضبة مُتوِّسطة الارتفاع وتُشرف عَلى البَحر المَيت، وهي مِن المَواقع ذَات القُدسيّة الدِينيّة الكَبيرة عِند الأَنباط، وفيها العَديد مِن التَماثيل الحَجرية والهَياكل القَديمة، وفي الحَقيقة فَإنّ الطفيلة تَشتمل عَلى الكَثير مِن المَواقع والخَربات الأَثرية التي تَعود لِلعُصور القَديمة، وما زالت تَحتاج إلى تَنقيب وبَحث ودِراسة، ومِنها؛ خَربة الذريح، خَربة بصيرا، خَربة الفريديس، خَربة عَابور، خَربة نوخة، خَربة سلوان، خَربة النصرانية وغَيرها الكثَير، وتَشتمل هَذه المَواقع عَلى العَديد مِن المُنشآت والعَناصر المِعمارية القَديمة والتى تَقف شَاهدةً عَلى التَنوُّع المِعماري والفَني لِلحَضارات القَديمة التي استوطنتها(11).
• مَرقد صَحابة رسول الله ﷺ
تَتَمتّع الطّفيلة بِقُدسيةٍ كَبيرة؛ وذلك لاحتوائها عَلى عَدد مِن الأضرحة والمَقامات لبعض صَحابة الرَسولﷺ مِنها عَلى سَبيل المِثال لا الحَصر؛ مَقام الصَحابي الجَليل الحَارث بن عُمير الأَزدي رَضي الله عَنه، وهو يَقع في المِنطقة الواقعة مَا بين بَلدتي بصيرا وأمسراب على بعد 17كم مِن مُحافظة الطّفيلة؛ وهو يُنسب لِلصَحابي الحَارث بن عُمير الأَزدي الذي بَعثه الرَسولﷺ إلى أهل بصرى الشام لِدعوتهم لِلإسلام، واستشهد بعد أن قتله شرحبيل بن عمرو الغساني عامل الروم على بصرى، وكان مقتله سببًا في غزوة مؤتة الشهيرة (8هـ/129م)(12)، وضَريح الصَحابي الجَليل فِروة بن عَمرو الجذامي رَضي الله عنه ويَقع إلى الشَمال مِن الطّفيلة على بُعد 27كم ويُشرف على حمامات عفرا من الجهة الشرقية، وهو ينسب لِلصَحابي الجَليل فِروة بن عَمرو الجذامي أَوَّل شُهداء الإِسلام في بِلاد الشام خَارج الجَزيرة العَربية، وضَريح مَاهر ويَقع في بَلدة العيص ويُقال إنّ هَذا المَقام يعَود في الأصل إلى سَيدنا أَيوب عليه السلام، ومِن المُرجّح أَنْ سَبب تَسميته بِاسم ضَريح ماهر؛ كِناية عَن المَهارة الفَائقة المَشهورة عَنه في استجابة الدُعاء(13)، كَما يُقال إنه ظَهر فيها لُقمان الحَكيم عَليه السلام(14).
وخُلاصة القَول؛ فِإِنّ الطّفيلة تَمتلك مَوروثًا حَضاريًا وطَبيعيًا عَريقًا، ولها خُصوصية فَريدة وقُدسية كَبيرة، وتَحتضن كُنوزًا أَثرية غَاية في الأَهمية تَنتمي إلى عُصورٍ تَاريخية قَديمة تَحكي قِصص حَضارات مُهمة سَادت المِنطقة، كَما يمكن اعتبارها واحدة مِن أهم مَراكز السِياحة الدِينيّة والبِيئيّة والعِلاجيّة والأَثريّة والتَرفِيهية في الأردن.
• الهوامش:
(1) بكر خازر مجالي، التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية، 1995، ص68.
(2) ياقوت الحموي، معجم البلدان(37/4).
(3) السياحة في الأردن، المملكة الأردنية الهاشمية، دائرة المطبوعات والنشر، 2001، ص112، عايدة صلال، الآثار والمواقع السياحية في الأردن، ص224.
(4) سليمان القوابعة، الطفيلة تاريخها وجغرافيتها، ص24.
(5) زيد منير عبوي، السياحة في الأردن، دار خالد اللحياني للنشر والتوزيع، مكة، 2016، ص37-38.
(6) عبدالقادر عابد، جيولوجية الأردن وبيئته ومياهه، نقابة الجيولوجيين الأردنيين، 2000، ص20.
(7) مأمون حسين علان، السياحة الجيولوجية في الأردن، عمادة البحث العلمي للجامعة الأردنية، 2014، ص144.
(8) نجاة سليم محاسيس، السياحة في الأردن رحلة تأثر القلوب، ص163-167، وللمزيد انظر: فوزي فلاح الخطبا، الطفيلة الإنسان والتاريخ، دار عمار للنشر والتوزيع، 1985.
(9) مأمون أصلان بني يونس، قافلة الحاج الشامي في شرق الأردن في العهد العثماني 1516–1918م دار الكندي، عَمَّان، 2000، ص84، للمزيد انظر: عبدالقادر محمود الحصان، القلاع والخانات التركية العثمانية على طريق الحاج الشامية في الديار الأردنية.
(10) رنا أحمد جمال، المعالم الأثرية والتاريخية في المحافظات والقرى والمدن الأردنية، مكتبة ملاك، 2016، ص58.
(11) الموقع الرسمي لوزارة الثقافة الأردنية. https://moi.gov.jo/AR/Pages/ المواقع الأثرية في محافظة الطفيلة
(12) نعيم إبراهيم ظاهر، آثار الأردن وتاريخه، اليازوري، 2002، ص179-180، محمود سالم عبيدات، الأردن في التاريخ: المقدمة، من العصر الحجري حتى قيام الإمارة، جروس برس، 1992.
(13) خولة جميل، جوهرة السلام أضرحة الصحابة الأجلاء في وجدان آل هاشم، وزارة السياحة والآثار، دائرة الآثار، 1994، ص103.
(14) أحمد عويدي عبادي، الأردن في كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين حتى عام1881م، ج1، الأهلية، 2006، ص447.