سامح المحاريق
كاتب أردني
تبدأ أحداث رواية "علي ونينو" في صف دراسي بمدينة باكو. أربعون تلميذًا؛ منهم ثلاثون مسلمين، وأربعة من الأرمن وبولنديان وثلاثة متعصبين من طوائف روسيّة أخرى، الحصّة في الجغرافيا، ومدرِّس المادة يخاطبهم:
(تتألف الحدود الطبيعية لأوروبا من البحر القطبي الشمالي شمالًا، ومن المحيط الأطلسي غربًا والبحر المتوسط جنوبًا. أمّا الحدود الشرقية لأوروبا فتخترق الإمبراطورية الروسية وجبال الأورال من خلال بحر قزوين وما وراء القوقاز. يرى بعض العلماء أنَّ البلاد تنتمي لآسيا بينما يعتقد بعضهم الآخر أنَّ هذا البلد يجب أن يكون جزءًا من أوروبا بسبب التحوُّل الثقافي لما وراء القوقاز. نستطيع القول إذًا، أبنائي، إنَّ جزءًا من المسؤولية يقع على عاتقكم لتحديد ما إذا كان على مدينتكم أن تنتمي إلى أوروبا التقدميّة أو إلى آسيا الرجعيّة؟).
سؤال دسم وجسيم يُلقى على طلبة يعيشون مرحلة تاريخية صاخبة ومضطربة في بدايات القرن العشرين، ومع أنهم لم يكونوا مضطرين أو مهتمين بتقديم أيّ إجابة لمدرِّسهم لأنهم يعيشون في واقع المدينة بكل تنوُّعه وتفاصيله الخصبة، إلّا أنَّ العالم بأسره كان ينطلق ليضغط على أذربيجان من أجل تقديم إجابة عاجلة في الحرب العالميّة الأولى، وعندما قرَّر الشعب الأذربيجاني أن يستقلَّ بنفسه أوَّلًا وأن يمارس الحريّة الأصيلة التي تستوطن النزعة المتجذرة داخل شعوب أوراسيا قبل أن يمنح العالم إجابته، كان ذلك خروجًا غير مقبول في أعراف القوى المتصارعة، فبلدٌ مثل أذربيجان التي أعطتها الجغرافيا وسلبت منها الكثير، لا يمكن أن تُترك وشأنها، لا يمكن أن تُترك على سجيّتها، وهذه هي المعضلة التي قدَّمها "قربان سعيد" في رواية "علي ونينو" أو الملحمة الأذربيجانية التي تحاول أن تقدِّم أذربيجان للعالم فتلقي عليها المزيد من الغموض، فالرواية التاريخية ترصَّدت كل الزوايا الحرجة التي أحاطت بمحاولة الأذربيجانيين للخروج ببلد مستقل بين القوى الكبرى، بلد كان عليه أن يتعامل مع علاقات الشرق والغرب، الصحراء والجبل، الأثرياء والفقراء، والمسلمين الصوفيين والمسيحيين المحافظين، بين موسيقى أواسط آسيا المعبّأة بالحيرة والشَّجى وموسيقى أوروبا بإفراطها في استدعاء الهيبة والإفراط في الاتِّساق.
"قربان سعيد"، اسمٌ قلميٌّ مستعار، لا يُعرف على وجه اليقين صاحبه الحقيقيّ، الأقرب أن يكون "ليف نسيمباوم" الذي فرض نفسه على الأدب العالمي بصورة خاطفة مثل صاعقة سماويّة لم تمتلك الوقت لتشرح لأحد لماذا هبطت في هذه الأرض دون غيرها؟ وكشأن "قربان"، كانت أذربيجان كلها بلدًا خارج التصنيفات التقليدية والمريحة، فهي وإن كانت من البلدان التي شهدت هيمنة الاتحاد السوفييتي، إلا أنها كانت خلافًا للدول الأخرى التي ضمَّت شعوبًا إسلاميّة، الوحيدة التي تقع غرب بحر قزوين، كما إنَّ تسميتها لا تعكس البُعد العرقي والقبلي للشعب، كما هي الحال مع الأوزبك والطاجيك والكازاخ والتركمان، فتُضاف كلمة (ستان) لتعني أرضًا للشعب الفلاني، أمّا أذربيجان فعُرفت بـ"خزانة النار"، ولذلك كانت مفتوحة للإنسان في مواجهة الطبيعة والجغرافيا والأسرار الكثيرة التي قدَّمتها الأرض الأذربيجانية لسكّانها وروّادها.
هل تختلف أذربيجان اليوم عن تلك التي قدَّمتها رواية "علي ونينو"؟
بالقطع تختلف كثيرًا، هي اليوم بلد معاصر وواعد يسعى لاستثمار لحظته التاريخيّة الراهنة، ولا يتأتى ذلك من غير تجاوز أزماته التاريخية، ويبقى الأهمّ، تحويل العلاقة مع الجغرافيا من امتحان لصلابة الإنسان الأذربيجاني في مواجهة استحقاقاتها وأعبائها إلى مراقصة هادئة تستوعب الجميع في نقطة التقاء فذّة على ناصية احتكاك وتماس وتمازج الحضارات والأعراق وأحلام البسطاء وطموح الأباطرة.
سعدَتْ مجلة "أفكار" باستقبال مُبادرة الأصدقاء في مركز الترجمة الحكومي في أذربيجان لتقديم نماذج من القصة القصيرة الأذربيجانية ترجمها إلى العربيّة الدكتور أحمد سامي العايدي من جامعة عين شمس بالقاهرة، وتحمَّسَت هيئة التحرير في المجلة لنشر أربع قصص تمثِّل جيل النُّضج في مسيرة الأدب الأذربيجاني ممَّن كان لهم دورٌ في صوغ جزء من الهوية الثقافية لأذربيجان وشعبها، فقدّمت هذه القصص التي تشتمل كل منها على تعريف بكاتبها ما يشبه الإطلالة السريعة والممتعة على الأدب الأذربيجاني، ويمكن من خلالها الوقوف على مدى اقتراب روح الأمة الأذربيجانية وتمثلاتها المجتمعيّة مع تلك السائدة في كثير من الدول العربية، وبخاصة في منطقة بلاد الشام التي تنتمي الأردن إلى فضائها الثقافيّ، وتشكِّل ركنًا أساسيًّا في تحديده وتعريفه. كما وتُموضِع هذه القصص أذربيجان بين الدول الطموحة الساعية للمواجهة الثقافية والمعنيّة باستقلال هويّتها وترسيخ جذورها من غير أن يمثِّل ذلك انعزالًا أو إقصاءً ذاتيًّا، ولكنه تعبير عن مقاربة أذربيجانية لأزمة العولمة الثقافية والرغبة في تقديم السردية المناسبة لشعب يمتلك حصّته من النضال التاريخي تجاه العيش والتحقُّق في فضاء ثريّ وصاخب وحافل بالتغيُّرات.
كم يقترب الأدب الأذربيجاني في هذه الفضاءات الثقافيّة والاجتماعيّة من الأسئلة الوجوديّة التي تعتري بلدًا مثل الأردن، ولا سيما أنَّ كليهما يتقاربان في المساحة والتعداد السكاني، ويتقاربان كذلك في بداية التأريخ للمشروع الوطني؛ في أذربيجان مع الجمهورية الديمقراطية أيار/ مايو 1918 والأردن والثورة العربية الكبرى في حزيران/ يونيو 1916، يبدو أنه تقارب يناسب أنْ تحمل مجلّةٌ أردنيّةٌ الأدبَ الأذربيجانيّ للقرّاء العرب في إطلالة على تجربة ثقافيّة وإبداعيّة ليست مقروءة بالشكل المناسب في المنطقة العربيّة ضمن حالة الإعتام التي يعيشها أدب منطقة القوقاز وأواسط آسيا لدى المُتلقي العربي، ويبقى أن يتوسَّع التواصل ليشمل نماذجَ مختلفة من الإبداع القادم من تلك المنطقة ويشمل أجيالًا أخرى كذلك.