للكاتب إسماعيل شيخلي(*)
ترجمة: د.أحمد سامي العايدي(**)
عندما كان شيخ البلد "نفتلي" يغيِّر لجام الحصان، وحينها أراد أن يغيِّر سرجه كذلك. وكعادته أراد أن يغسل ظهر الحصان من العرق بماء الترعة، ولكنه تراجع عن فكرته. كان لجام الحصان طويلًا يقترب من مجرى الماء. وكان "نفتلي" يعرف أنَّ الجوَّ حارّ، وأنَّ الحصان غارق في عرقه، ولكن لا يوجد حلّ لهذا! أراد أن يربط الحصان في أيّ مكان، ويغيِّر لجامه حتى لا يعرق، ويرفع عنه السرج كي يستطيع أن يأخذ نَفَسه. أمّا الحصان فكان عليه أن يأكل، أو يصهل، أو ينزع الوتد ويذهب إلى الحظيرة. كان "نفتلي" لا يشبع من النظر إلى حصانه اللامع ذي العينين الجاحظتين، وحتى إلى مؤخرته، وإلى شعر رأسه الناعم الذي يشبه شعر الفتاة. وكان في أحيان كثيرة يقبض على شعر الحصان، ويمتطيه، ويذهب به إلى نهر "كور" ويحمّمه، وكان في أحيان كثيرة ينام على شعر رقبته، ويقفز إلى الجانب الآخر. آنذاك لم يكن لديه أو لدى الحصان أيّ خوف. كان شابًا عاديًا.... ولكنه الآن -بعد أن أصبح شيخ البلد- صار يعيش حياة مضطربة...
صعد إلى التل الصغير بخطى وئيدة. قفز من على مجرى الماء ووقف تحت ظل الأشجار. سلّط عينيه نحو حقول القمح الممتدّة في الآفاق. كانت هناك رياح تهبّ. وكانت أعواد السنابل السوداء تصطفق. كما كانت أشجار "الحور" الممتدّة وسط هذه الصحراء الرمادية الواسعة التي ذبلت حشائشها منذ زمن بعيد تصطفق هي الأخرى. كان مجرى الماء النابع من أعماق هذا الشجر الذي غرسه أحد الموتى من أجل الثَّواب يُصدر خريرًا. نظر شيخ البلد "نفتلي" إلى السجّادة والوسادة المُلقاتين في الظِّل. كان دائمًا عندما يأتي لزيارة المزارعين يستلقي هناك ويستريح. والآن مرَّ من فوق السجّادة وأراد أن يتكئ على الوسادة. وبالرغم من أنَّ الجو خانق، إلّا أنه لم يخلع نعليه ولم يضع عن كتفه بندقيّته ولم يلقِ عكّازه. ولكنه رأى أنَّ هذا الوضع مستحيل، فالعرق يكاد يُغرقه. علاوة على ذلك فممَّن يخاف؟ فربَّما "كرم"(1) الآن في ناحية "ديليجان"، مستحيل أن يكون "كرم" هنا في حرّ هذا الصيف.
حتى ولو كان موجودًا، لا يخشى ذلك. لأنه لم يطلق رصاصة طيلة حياته على شخص أعزل. كان يحتاط فقط من ذلك الفتى (أيْ كرم)، فبعد أن بدأ "كرم" في مناهضة السلطة والإقطاعيين، كان يتجوَّل في هذه الأماكن والمراعي....
أسند بندقيّته على الشجرة، وخلع نعليه، وفتح أزرار قميصه ذي الياقة الحريرية، واستلقى على السجّادة، واستند إلى الوسادة. كانت مناجل المزارعين الذين ربطوا مناديل الجيب على رؤوسهم تصدر أزيزًا، فيختلط صوت هذا الأزيز مع أصوات المراعي. كان المزارعون منهمكون في العمل. يريدون أن ينهوا أعمالهم بسرعة، ليتقاضوا أجورهم، وليذهبوا بالقمح لأولادهم في المراعي الصيفية(2). لذلك كان شيخ البلد "نفتلي" يُسرع هو الآخر، لأن الناس ولجوا منذ فترة إلى المرعى، مع أنه كان قد أجَّل رحيله إلى المرعى الصيفي. والحق أنه كان يخشى من البقاء وحيدًا في القرية. هناك أشقياء كثيرون... أحدهم هو "مرشد الغريب".
كان لا يعرف أحدٌ في القرية جذور هذا الغريب، الشيء الوحيد الذي كان معلومًا منذ زمن بعيد أنَّ غلامًا كان يقف أمام منزل أسرة "نفتلي" مُهلهَل الملابس، يعتصره الجوع، ذا نظرات مريضة مطأطأ الرأس. كانت في يده عصا، وعلى ظهره "شوال" قديم، وعلى رأسه قبعة متهالكة. شعث شعر وجهه وجفَّت شفتاه من شدة البرد. كانت عيناه تبرقان بصعوبة كماء في غياهب بئر عميق.
خرجوا على صوت الضجيج بعد أن نبحت الكلاب على الواقف أمام الباب، متسائلين: "أيها الصغير، من أنت؟" وضع والد "نفتلي" معطفه المصنوع من الفراء على كتفه، واتَّجه هو وابنه نحو باب حديقة المنزل. نظر بتعجُّب إلى هذا الذي قدم من مكان ما، وفهم أنه ليس من أهالي هذه البلدة. سرعان ما أصبح لجوء بعض الغرباء إلى القرية أمر متكرِّر في الآونة الأخيرة، حيث يلجأ مثل هؤلاء للقرية إمّا بعد أن يكون أحدهم قد قتل عدوّه وجاء ليختبئ في هذه القرية، وإمّا أن يكون هائمًا على وجهه في هذه المناطق من أجل كسرة خبز. تفقَّد الرجل الفتى من رأسه إلى أخمص قدميه وقال في نفسه: "لا، هذا الفتى لا يشبه مَن قتل شخصًا وهرب، ربّما في الأمر شيء آخر". في الحقيقة لم تُعجب الرجل عينا الفتى العميقتان.
كأنَّ الغريبَ شعر بهذا، وفطن إلى أنه سوف يصدّه عند الباب ويطرده والشتاء في بداياته، فجعل في صوته بعض الشفقة:
- أنا لاجئ أيها الخال، وليس لي أحد مطلقًا.
نظر الرجل لابنه. أمّا "نفتلي" فركَّز عينه على إصبع قدم اللاجئ التي خرجت من حذائه المتهالك.
- من دلّك على هذا المكان؟
- لا أحد. جئتُ من نفسي. أستجيرُ بكم.
نظر الوالد إلى الابن، والابن إلى الأب.
- ما اسمك؟
- مرشد.
أكان يقول الصدق؟ الله أعلم، ليس معه أيّ مستندات، أو دليل على هويّته. كان شخصًا غريبًا. ومنذ ذلك اليوم وهم يطلقون عليه في القرية "مرشد الغريب".
في البداية كان يرعى الماشية، ثم ذهب إلى المزارع. وأصبح صديقًا لـ"نفتلي"، بل أصبحا أخوين. وبعد أن مات والده، أعطاه "نفتلي" أرضًا.
تعاونوا وبنوا له منزلًا صغيرًا. وأعطاه نصيبًا أيضًا من الماشية، وأهداه حصانًا أيضًا. وتزوَّج إحدى بنات الأقارب وفتح بيتًا. كان "مرشد الغريب" ماهرًا. بعد أن بدأت الأموال تجري في يده، اتجه إلى "تفليس" و"غنجة". وتحسَّنت معيشته. بل تحسَّن هو الآخر من حيث البنية والصحة والمنظر العام.
سمع "نفتلي" ذات يوم أنَّ "مرشد" يضايق زوجته. لم يعجبه هذا. فدعاه إليه. وانتظر يومين أو ثلاثة، ولكن لم يأتِه أيّ خبر من "مرشد". وذات يوم تقابلا في الطريق.
- لماذا لا تظهر؟
- ماذا حدث، هل من الضروري أن أظهر؟
- ربما لديّ بعض الكلام لك؟
- أيّ كلام من الممكن أن يكون لديك لي؟
- آه، كم تتحدَّث بتعالٍ؟
- أأصمت؟
زمجر الحصانان وشدّا لجامهما. وتواجها واقفين على أرجلهما الخلفية وأصدرا صهيلًا. علا غبار الطريق إلى عنان السماء.
- آه، ربّما، تملّكك الغرور؟ ما أسرع ما أصابك من غرور أيها الفتى؟
- لا تتحدَّث كلامًا فارغًا، هات ما عندك!
كتم "نفتلي" غضبه بصعوبة:
- لو سمعتُ مرَّة ثانية أنكَ رفعتَ يدكَ على زوجتك وأولادك، سوف أفعل معكَ ما ينبغي فعله، فهمت؟!
- أنت تخطئ، ما زلتَ تتذكَّر الماضي!
- آه، أيها الوغد الغريب، أتردّ عليّ؟!
تزامن ضرب السوط في الهواء مع سقوط "مرشد" بجوار حوافر الحصان. وكان "نفتلي" قد ضربه بالسوط وهو على ظهر الحصان. غضب الحصان هو الآخر مثل صاحبه، ودهسه تحت أقدامه. لم يهدأ غضب "نفتلي"، فقفز ونزل من على السرج. أمسك بتلابيب "الغريب" الممرَّغ في التراب، وجرَّه إلى جانب الطريق. وسلَّ خنجره.
- لقد أخطأتُ، ونسيتُ ماضيّ، يا "نفتلي". لا تقتلني، أولادي مساكين. بحق قبر والدك، اتركني لصغاري، تكسب خيرًا.
تركه "نفتلي". نظر بكراهية إلى عين "مرشد" التي كانت تشبه مياهًا تلمع في غياهب جبّ، وترك مجامع ثيابه.
- اذهب، أترككَ من أجل أسرتك.
نهض "مرشد" دون أن يتفوَّه بكلمة. نفض التراب من على جسده، وأمسك اللّجام وقفز على ظهر الحصان صامتًا. اتَّجه نحو القرية وكأنَّ على رأسه الطير. وفجأة شدَّ اللجام، والتفت وراءه.
- حسنًا، يا "نفتلي"... لن أكون رجلًا لو لم أقتصّ منكَ بسبب هذا. ستأتي وتأخذ الحمارة التي ابتليتَني بها.
أصدر الحصان صهيلًا وهزَّ رأسه حينها عاد "نفتلي" إلى وعيِه. ركب "نفتلي" الحصان، وأدار بندقيّته، وغاب عن الأنظار في هذا الطريق المغبرّ. وفي اليوم التالي سمع أنَّ "مرشد" أخذ أشياء وهرب من المنزل...
بعدما تولّى "نفتلي" شياخة البلدة، بدأ الناس في الغضب منه بسبب أو من غير سبب.
مهما حاول الابتعاد عن المشاكل، وتجنُّب رؤية ما يفعله الناس من أخطاء، كان لا يفلح. كان الناس يبحثون عنه ويجدونه ويلقون اللوم عليه (لماذا لم تقبض على اللص؟ لماذا قدّموا الطعام إلى الهارب الفلاني؟ لماذا جعلتَ الشاطر "كرم" يعبر من نهر "كور")؛ ماذا كان سيفعل؟ ولكن... أمثل هذه الأمور تدفعه لقطع علاقاته بالناس؟ المنصب مثل النير المعلَّق في عنق حيوانات الجرّ، فهم يضعون هذا النير على عنق الحيوان ويركبون على ظهره، ويقودونه إلى الاتجاه الذي يريدونه. فإمّا عليكَ أن تصبر، وإمّا عليكَ أن تجاريهم!
كان الجوُّ شديد الحرارة. وكان السَّراب المتصاعد من المراعي يلعق الهواء كنار الموقد، ويعلو التلال الرماديّة وينتشر فوق القرية، ويَعبر من هناك فوق نهر "كور" الذي تتلألأ مياهه ويحرق أشجار غابة "قارايازي". كانت اليعاسيب الملتصقة بجذوع الأشجار التي يتمدَّد شيخ البلد "نفتلي" تحت ظلِّها تُصدر صريرًا يجعل أذن الإنسان تُصمّ. لقد ضاق "نفتلي" ذرعًا بالحَرّ وصرير اليعاسيب. أرادَ أن يضع قدميه في الماء ليرطّب جسده ويبلّل صدره ورأسه ويستريح قليلًا. نهض على قدميه، وخلع سترته واقترب من مجرى الماء، وجلس القرفصاء. مدَّ يده في الماء. ولم يرَ الفرسان القادمين من الطريق الترابيّ المتَّجه نحو التلّ بجوار المقابر والممتدّ ناحية نهر "كور". ولم يسمع صهيل الخيول وصوت ركابها أو حتى وقع أقدام الخيول؛ لأنَّ صرير اليعاسيب أصمَّ أذنه. لم يشعر سوى برصاصة أصابت ظهره. سحَبَ يده من الماء واستقام، والتفت إلى الخلف، فرأى أحد الفرسان قد سحب لجام فرسه وأسرع، واستدار صارخًا في شخص آخر، وضرب بالسوط محدثًا صوتًا:
- أيها الوغد الخائن!
لم يسمع شيئًا بعد ذلك. ضعف فجأة وتلاشى صوت القش، وهمس أوراق الأشجار، وخرير مجرى الماء وصرير اليعاسيب، وأصبحت كل هذه الأصوات لا تُسمع. وملأ السراب المتوهّج عينيه كأنّه جمر، وتموَّج أمام عينيه، وتحوَّل إلى ضباب، وغشى الضباب كلّ شيء...
قفز "كرم" من الحصان، وألقى بنفسه تحت الشجرة، أخذ رأس "شيخ البلد نفتلي" على ركبته. أصابت الرصاصة ظهره وخرجت من صدره.
كانت عيناه مغلقتين. وعُرف فقط من خلال اهتزازة خفيفة لشفتيه أنه لا يزال على قيد الحياة. لم يره "كرم" عن قرب هكذا منذ أن نشب بينهما العداء. لقد تغيَّر الرجل كثيرًا. وأصبح سمينًا بعض الشيء، وامتدَّ قليلًا شاربه الكثيف. وابيضَّت جبهته بعض الشيء. وظهرت بعض التجاعيد حول عينيه. رأى "كرم" أنَّ "شيخ البلد نفتلي" ينزف دمًا. فأسرع، ومدَّ عينه وفتح له أزرار القميص، ولم يعرف كيف يساعد الرجل. وكأنَّ "نفتلي" شعر بهذا فتحرَّك قليلًا، فُتحت عيناه بعض الشيء. نظر إلى وجه "كرم" بدقّة. هدأت -كماء راكد- حدقة عينه التي أصبحت مثل الشبكة، وفجأة اتَّسعت. شعر "كرم" أنَّ بدن "نفتلي" انتفض، كأنَّ الرجل أصابته لفحة برد. فانتفض جسده هو الآخر، وأصابه الضيق:
- ماذا أفعل لك الآن يا "نفتلي"، لا أستطيع الذهاب إلى مدينة "غنجة" أو حتى إلى "تفليس" وماذا أفعل لِما أصابك؟
سمع "نفتلي" الصوت، فأصابته الدهشة في البداية، ثم أفاق، ورفع رأسه قليلًا، وركَّز عينيه المغرورتين في وجهه الشخص الواقف أمامه. ربَّما أدرك فوق ركبة مَن يستند رأسه. في البداية انفعل. فشعر "كرم" بخروج شرر من عينيه. وهدأ فجأة بمجرَّد أن تلاشى هذا الوميض الذي خفت كمصباح يوشك على الانطفاء. حرَّك شفتيه:
- كرم؟
- توقُّعك في محلّه، أنا كرم.
- حسنًا، وجودكَ أمر جيد.
هزَّ هذا الكلام "كرم"، وكأنَّ الذي يحتضر على قدميه ليس عدوّه اللّدود، بل صديقه الحميم. وكأنَّ هذا الشخص ليس هو الشخص الذي كان يتعقَّبه دومًا في الجبال والوديان ويتحيَّن الفرص ليقضي عليه. قبل هذا العداء بفترة طويلة، كان الاثنان رفيقي طفولة وكاتمي أسرار بعضهما بعضًا، حيث كانا يلعبان معًا ويسبحان في نهر "كور" ويعبران إلى غابة "قارايازي" ويرقصان بالخيول ويتسابقان وسط القرية، ويذهبان معًا للقاء الفتيات اللائي ينظرن لهما خلسة. وأمّا الآن فيتحسَّر الاثنان على بعضهما بعضًا.
كان الإنسان قديمًا شديد التسلُّح. كان لا يستطيع أن يقترب من "كرم"، وكذلك "كرم" لا يستطيع الاقتراب منه. أخذ "كرم" بندقيته، وهام على وجهه في الجبال، وكان يقضي حياته على ظهر الحصان. كان ينتقل مع العصابة التي معه من "تفليس" إلى "غنجة"، ويُقيم ميزان العدل في وادي "وليحانه"، ويتخطّى الجبال ويعبر نهر "آراز"، وكان صيتُه يذيع أحيانًا في "إيروان" (عاصمة أرمينيا حاليًّا) وأحيانًا أخرى في "إيران". أمّا شيخ البلد "نفتلي"، فكان يعيش في منزله وسط أقاربه في نعيم. تغيَّر تمامًا بعد أن أصبح "شيخ بلد"، أرسل له "كرم" رسائل عدَّة مرّات، لكيلا يضايق الناس أو يؤذيهم، ولكن لا فائدة. كان "كرم" يبحث عنه، كان يبحث عنه منذ فترة طويلة حتى يحذِّره.
- هل في عصابتكَ أحد جديد؟
تأخَّر "كرم" في الردّ على هذا السؤال الذي سمعه بصعوبة:
- نعم.
- من؟
- مرشد.
- ذلك الوغد؟
انطلقت هذه الكلمة كرصاصة أصابت قلبه، وكأنَّ عينيه غلّفهما السواد. جُرح جرحًا عميقًا.
- لجأ إليّ، ماذا أفعل؟
- لجأ إلينا نحن أيضًا، والنتيجة كما رأيت.
تأوَّه الرجل. واعتقد "كرم" أنَّ السَّبب في تأوُّهه ليس الوجع من الجرح، بل الوجع من ضياع فضله وخيبة ظنّه.
عمّ وجه شيخ البلد "نفتلي" عرق بارد، وتجعَّد وجهه، ثم بعد ذلك علا وجهه ما يشبه الابتسامة بدلًا من الوجع والمعاناة.
- الآن أستطيع أن أموت مستريحًا... الحمد لله، خاب ظنّي... وإلّا كنُت سأرحل عن هذه الدنيا حزينًا. الشكر لله يا "كرم"، إنكَ لم تسقط من نظري... ارفع رأسي لأعلى قليلًا.
أمسك "كرم" به من تحت إبطيه وأسنده على فخذيه. تمالك "نفتلي" وجعه وهدأ. وتسرَّبت من وجهه ومضة حياة خفيفة تشبه أنفاس الطيور. نظر إلى الآفاق. شعر "كرم" بأنَّ عينيه اللتين تشبهان الشبكة تنظران إلى الضفة الأخرى من نهر "كور"؛ نحو غابة "قارايازي" الممتدة بطول ساحل النهر بداية من سهل "جبران جول"، ونحو منازل القرية الموجودة على مسافة بعيدة، وكذلك نحو المزارع، والمراعي، وإلى أكوام أعواد القمح المجمَّعة، وإلى الأطفال الذين يرعون الماشية. جفَّت المزارع في أماكنها. هبَّت رياح خفيفة مرَّة أخرى، فأصدرت أعواد القمح خشخشة ثانية، وسُمع خرير الماء الجاري بمجرى الماء، وكانت اليعاسيب هي الأخرى تصدر صريرًا من جديد. مرَّ من أمام عيني شيخ البلد "نفتلي" سراب متموِّج يشبه الحرارة الصادرة من الموقد. ولكنه لم يكن يستطيع أن يميِّز هل عيناه متشابكة، أم هذا سراب؟
انتفض فجأة وحوّل وجهه صوب الفرسان من حوله. تفقَّد بنظراته رفاق "كرم" واحدًا واحدًا. وما إن وقعت عيناه على "مرشد" حتى اقشعرَّ بدنه، وازداد ضيقه. رأى "كرم" أنَّ حال الرجل تغيَّر فجأة، وكأنَّ حمرة حلَّت بخدَّيه. كانت هذه الحمرة هي حمرة آخر قطرات دم ضخَّها القلب الذي يدقّ آخر ضرباته إلى عروقه. ركَّز "نفتلي" عينيه اللتين تنطفئان إلى وجه "كرم".
- كرم، لديّ طلب أخير منك...
- قُل، لأرى ماذا تريد...
- اخرج مسدَّسك، واضربني في جبيني.
- ماذا تقول؟
- فليقُل الناس، إنَّ الشاطر "كرم" قتل "نفتلي"...
الرجل يقتل رجلًا يا أخي، وليس الوغد.
- يدي لا تطاوعني.
- إنْ لم تفعل ما أطلبه منك، تكون ابن حرام.
علا صدر "نفتلي"، وهبط رويدًا رويدًا.
تكدَّر "كرم". وبلع بصعوبة ريقه الذي تجمَّع في حلقه. بحث بعينيه على "مرشد"، فوجده. هزَّ يده، وأراد أن يصوِّب البندقية في المكان نفسه، وأن يلطِّخ دم "نفتلي" بدم هذا الخائن القابع مثل الثعلب. ولكنه غيَّر تفكيره قائلًا في نفسه: على أيّ حال لن يتركه أقارب "نفتلي" حيًّا، وكذلك لم يرد أن يلطّخ يده بالدماء.
- خذوا بندقيّته وحصانه، ودعوه، فليذهب إلى الجحيم! انزل من على الحصان، وعلِّق بندقيتك في السرج. لو أمطرونا بالرصاص، لا دخل لكَ بنا، لا تحرِّك ساكنًا. سوف نذهب إلى القرية.
قرَّر "كرم" أن يذهب بنفسه ويسلِّم جثة "نفتلي" إلى القرية. سيحمله بين يديه، وسوف يأتي حصان "نفتلي" خلفه، وسيضع رفاقه ألجمة الخيول على رقابها وسيسيرون خلف الجنازة في صمت. كان يعلم أنَّ هذا أمر صعب. سوف يعترضهم أهل القرية، وستعلو صرخات النساء والأطفال، ولطماتهم، وسوف يشددن شعرهنّ، ويولولن، بل ربّما أيضًا يطلقون عليهم الرصاص. وسوف يوجد من بينهم مَن يتكلّم كلامًا فارغًا، وكذلك مَن سيبلّغ الشرطة. ولكن كان لا يصدق هذا، لا يصدق أنه يوجد في القرية خائنون بهذا الشكل. هو كان على ثقة من أنهم سوف يحملون الجثة بهدوء وسط القرية حتى منزل "نفتلي". وأنهم سوف يستقبلونهم طبقًا لعادات القرية، حتى ولو كانوا في ذهول واندهاش. وسوف يشارك "كرم" وعصابته في مراسم الدفن. وبعد مرور اليوم الثالث على وفاة "نفتلي"، سوف يقدِّمون واجب العزاء إلى أقاربه، وينصرفون ويتوجَّهون نحو الجبال.
شعر "كرم" ببرودة فوق ذراعيه وفخذيه، فهمَ أنَّ بدن "نفتلي" يبرد. ولكنه ينتظر شيئًا ما في أعماق عينيه الشاحبتين المسلّطتين نحو وجهه.... وضع يده بهدوء على جراب المسدس. وفتح الزرّ وأصابعه تهتزّ...
- - - - - - - - - - - - - - -
(*) الكاتب إسماعيل شيخلي (1919- 1995م)
كاتب أذربيجاني حصل على لقب "كاتب الشعب الأذربيجاني"، وعُرف أيضًا بـ"خادم اجتماعي مرموق"، حصل على جائزة "ميرزا فتح علي آخوندوف" الأدبيّة. له العشرات من المؤلفات الأدبية مثل "في مياه كرتش"، و"الجبال تنادي"، و"الطرق المنفصلة"، و"نهر كور المجنون"، و"منافسي"، و"سنوات تعود للذكرى"، و"لا تفقدوني"، و"طرق الجبهة" وغيرها من المؤلفات. تُرجمت أعماله إلى اللغات الروسية والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية وجميع لغات شعوب الاتحاد السوفييتي السابق. شغل منصب "الأمين الأوَّل" لاتحاد الكتاب الأذربيجانيين (1981- 1987م)، ومنصب "أمين اتحاد كتاب الاتحاد السوفييتي السابق (1981- 1987م). كما حصل على وسام "علم العمل الأحمر" عام (1979م)، وشهادات فخرية من اللجنة العليا للاتحاد السوفييتي السابق. كما حصل على جائزة الدولة عن رواية "نهر كور المجنون".
(**) ترجم هذه القصة عن اللغة الأذربيجانية الدكتور أحمد سامي العايدي- أستاذ مساعد كلية الآداب جامعة عين شمس. كما قام المترجم نفسه الدكتور أحمد سامي العايدي بترجمة القصص الثلاث التي تتبع، وهي: قصة "الفراشة" للكاتب نريمان عبد الرحمانلي، وقصة "المعطف السميك" للكاتب عيسى مُغَانَّا، وقصة "لا بدَّ أنْ ينفطرَ قلب" للكاتب فرمان كريم زاده.
• الهوامش:
(1) يُقصد بـِ"كرم" هنا الشاطر "كرم"؛ ويسمّى في اللغة الأذربيجانية "قاجاق كرم"، وهو شخصية شعبية في الأدب الأذربيجاني تعمل على مناصرة الفقراء في القرى، وتحاول منع ظلم الإقطاعيين ومَن يمثلون السلطة في تلك الحقبة التاريخية. وهذه الشخصية دائمة الصراع مع السلطة ويصاحبها عصبة مكوَّنة من العديد من الأشخاص الذين يعاونونها في تحقيق هدفها المتمثل في سلب أموال الأغنياء والإقطاعيين وتوزيعها على الفقراء (المترجم).
(2) بسبب الطبيعة الجبليّة في أذربيجان كان الناس في الشتاء يجلسون في الوادي، وفي الصيف يصعدون إلى المراعي الصيفيّة أعلى الجبال حيث الجوّ المعتدل هناك (المترجم).