محمد عطية محمود
كاتب وناقد مصري
يزخرُ المشهد الروائي بالعديد من إشكاليات التعامل التي تتمحور حول الذات من خلال علاقتها بالمكان، وفضاءاته المتعددة، وعمقِ مشهديته الدالّة التي تعتمد على المزيد من التفاصيل الواصفة التي تُعدُّ قنطرًة يعبر عليها النص الروائيّ؛ كي تسبر غور الأحوال التي ربما التف حولها الساردُ سواءً كان ساردًا عليمًا، أو ساردًا ضمنيًا مشاركًا، أو موجّهًا خطابه الروائيّ من خلال ضمير الأنا المتحدث مستغلًا إيقاع الكتابة السيرية الذاتية/ الغيرية، في تقديم صور متلاحقة ومتشابكة من مشاهد التعامل مع الحياة وأنماط وجوده من خلاله؛ ذلك ما يعطي الرواية شرعية الوجود قريبًا من أعماق السارد الذي يتعامل مع سرديته بتقاطعات السرد والحكي التي تلتزم حدود المكان ماديًا ومعنويًا؛ بحيث تتجسد في تلك الرؤية كل معطيات المكان الذي: "يكتسب فى الرواية أهميةً كبيرة، لا لأنّه أحد عناصرها الفنيّة، أو لأنَّه المكان الذى تجري فيه الحوادث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنّه يتحوّل فى بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوي كل العناصر الروائية، بما فيها من حوادث وشخصيات، وما بينها من علاقات، ويمنحها المُناخ الذى تفعل فيه، وتعبر عن وجهة نظرها، ويكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء الرواية، والحامل لرؤية البطل، والممثل لمنظور المؤلف، وبهذه الحالة لا يكون المكان كقطعة القماش بالنسبة إلى اللوحة، بل يكون الفضاء الذى تصنعه اللوحة".
ذلك الفضاءُ الذي تتعانق فيه إلى حدٍّ كبير التفاصيل التي تستدعي الوصف، والتي تؤدي دورها الفنيّ في توسيع الرؤية التي تقدمها الرواية مع اتساع شبكة علاقات شخوصها المجسدين للمكان أو المتعاملين معه؛ سواءً من قريب أو من بعيد، أو من يمثلون المكان سواءً كان ثابتًا أو متغيرًا أو متحولًا؛ فهو في النهاية يلعب دور الحاضن للعمل الأدبي الذي تتحرك فيه الشخوص والأحداث؛ ولذلك يبدو الوصف الوسيلة الأساسية في تصوير المكان، فالوصف – بحسب سيزا قاسم - : "محاولة لتجسيد مشهد من العالم الخارجي في لوحة مصنوعة من الكلمات، والكاتب عندما يصف لا يصف واقعًا مجردًا، ولكنّه واقع مشكّل تشكيلًا فنيًا، إنَّ الوصف في الرواية هو وصف لوحة مرسومة، أكثر منه وصف واقع موضوعي"؛ ذلك ما يجعل من الرواية عملًا تشخيصيًا تتبلور فيه الفكرة الأساسية من خلال حركة الشخوص في المكان وتفاصيله؛ سواءً كانوا شخوصًا مقيمين/ رئيسيين، أو كانوا عابرين، ما يوقع الرواية في هذه الزاوية الحميمية للارتباط بتيمة المكان وتفاصيله الدالة، والتي ربما يبدأ وجودها الفاعل منذ العتبات الأولى للنص، مما يسهم في الرؤية التكامليّة له.
العتباتُ النَّصيَّة
ففي رواية "محطّة المنصورة" ، يؤسّس العنوان لهذه الحالة من التعانق مع المكان، حيث يطرح دلالته المادية والمعنوية من خلال عتبة العنوان المكوّنة من مفردتين: الأولى "محطّة" في صيغة تنكير، وهي التي تمثّل مرحلة انتقالية من جهة، أو مستقرًا من جهة أخرى ترتبط بالمكان الأساسي الذي يتمثّل في المفردة الثانية المعرفة "المنصورة"/ المكان الثابت، الذي تُضاف إليه "محطّة" ليكون مركّبًا على مستوى الصياغة ومستوى التأويل، حيث يمثّل فضاءً له كينونته وفاعليته وتحديده، تتحول إليه الحركة في المكان إلى تلك النقطة المفصلية أو النهائية على حدٍّ السواء، بما تحيل إليه هذه الدلالة من اتجاه نحو ماهية هذه العلاقة التي تتشكّل من خلال المكان منذ بداية الرواية كعتبة أولى يعوَّل عليها في إحداث الأثر المعنوي اللافت، أو ما وراء العنوان، حيث تُعدّ العتبات: "إشاراتٍ دالّةً، ترشد المتلقّي إلى متن النّصّ، وتساعده في استكشاف ما ينطوي عليه من معانٍ ودلالاتٍ غائبة أو مُغيَّبة".
ذلك الذي يسلس القياد إلى العتبة النصّية الثانية، أو الفضاء الذي يفتتح به الكاتب سرده في المقطع الأول تأكيدًا لتلك السلطة التي أعطاها للمكان/ العنوان لتستبيح فضاء الرواية، وتتشكّل فيه عبر تلك التشكلات النصّية التي تتقاطع مع تشاكلات الواقع والحياة من منظور هذا الشيخ/ السارد، بمعنى وجود محطات أخرى مهمة في حياة السارد، ربما أدت إلى تلك المحطة/ الوقفة، أو كانت هناك سلسلة تربطها؛ فتفصح تلك العتبة عن دلالة تلك المحطة التي تستتبع وجود سيل منهمر من الذكريات التي تشكّل هُوية هذه الشخصية التي تقدّم ذاتها على محفة من بوحٍ مستمرٍ ومسترسلٍ تستوجبه عوامل كثيرة تنتج من مسيرة الذات:
"فلتكن المنصورة.. محطتي الأخيرة!".. يغوصُ القطار الآن في لحم المشهد، رشيقًا سريعًا، ثقيلًا ومدويًّا، ينفضُ عن كاهله غبار السفر، ويستعيد دفقة من عنفوانه في شيخوخته الراهنة!"
بما تثيره هذه العبارة الافتتاحية، بتلك المشهدية الراصدة والواصفة، من رغبة لدى المتلقّي في استكناه تفاصيل هذه الرحلة الحياتية التي تختفي خلف العنوان، أو خلف تلك الحالة من استنفار الذكريات المغلفة بمراحل ومحطات قد ينتقل إليها السارد الذي يؤرشف لذاته بتلك الروح المختلفة والمغايرة، في اللحظة الخاطفة التي يتماهى فيها مع القطار؛ لتعود إليه روحه المغتصبة؛ حيث ترتبط عيناه بحركة القطار، والقوة المضادة لضعفه وشيخوخته، والتي يتمثّل بها السارد ليستمدَّ بعضًا من عنفوانه، بتلك القدرة الراصدة المستغرقة في المشهد، بما يعطي لهذا القطار القدرة البشرية التي كانت لهذا الشيخ الذي بدأ يتنسم هواءً مغايرًا يستعيد به - ولو معنويًا - جزءًا من عبق الماضي الذي ربما مرّ كما مرّ هذا القطار بسرعته الهائلة، وبما يعطي تلك الذات براءة البوح، ولتنطلق الذات كما القطار نحو ما لا تملك غيره؛ وهو الذكرى.
شجون الذات
تلك البدايةُ التي يدشن بها السارد سرده، ليقبض على تفاصيل الحكاية التي تأتي في المساحة التي يترك فيها السرد المشهدي الراصد، العنان للسارد كي يتنقل بين محطات حكيه/ حياته، فيما بين اتكائه على سرد الحالة الآنية التي تتمركز فيها آلامه ومعاناته مع واقعه الآني، بتلك المراوحة التي تلعب فيها المشهدية الدور الرئيس؛ فالذاتُ تنطلق دائمًا كي تبثَّ شجونها من خلال هذا الراوي الشاهد على كلِّ التفاصيل التي يراها أو يتخيلها أو يخترعها كي يملأ بها فراغًا نفسيًّا عميق الهوة في سرده عن ذاته:
"قلت إنّني دعوت الله أن يقويني بأولادي، ويعيدهم إلى حظيرة أبيهم هذا بشرط أن يجيئوا هم صاغرين يطلبون رضاي.. آه! إنما أن أتصل بهم أنا وأتودد إليهم فلا، آسف! ليسوا إذن أولادي، وعلى الله العوض!.. مع ذلك، وفي أحيان ضيقة تمامًا كنت أصفو وأعطف، أتذكر منهم مواقف إيجابية حميمة، أستخرجها من قمقمها، وأعرضها على الشاشة الداخلية في قلبي، وأتنهد!"
حيث تتحول كلُّ الشجون التي تترع من قلب الراوي إلى صور/ مشاهد تثري خياله وتملأ فراغه النفسيّ، قد يقتات عليها، ويستعيض بها عن حالة الجفاء/ العقوق التي تتأرجح بها علاقة أبنائه به؛ لأسبابٍ تتبدى من خلال العصف الحياتيّ الذي تجمعهم الذكريات المنسالة من وعي أبيهم بهم وبممارساتهم معه، تلك الإشكالية الأبرز على مستوى المضمون الذي يبثّه السرد، وتؤكّد عليه الحكايات التي يعتمد عليها السارد في تأطير الأزمة وتجسيدها بحسّه النفسيّ، وهي التي يلجأ إليها الراوي دائمًا لرصد التفاصيل التي تضغط على وعيه مستدعيةً الحزن كمتلازمة يعيش بها مع الآثار النفسية التي يتركها له فقد المؤانسة، بفقد الزوجة الوليفة التي يبدو تأثيرها جليًّا في كل المحطات التي يتنقل فيها السارد، سواء على مستوى المكان المادي، أو المستوى النفسي الذاتي الداخلي وما يسبغه عليه من تغيّرات بعد حالة فقد الزوجة:
"أعود وحدي ليس معي صوت ولا نفس ولا حتى عافية! لأظلَّ في الشقة خمسة أشهر طويلة باردة، وحيدًا كأنّي محنط!.. عيناي مفتّحة طوال الليل لو كان السقف بالخشب لأشبعت عروقه إحصاء. أيّ صوت يجعلني أهتز كأنني في الريح عريان!"
حيث يبدو هذا الأثر في تجلياته العميقة لدى السارد في صورة قد تكون مطابقة للواقع، وفي صورة من صور المكان الداخلي الأكثر خصوصيةً وعمقًا ودقةً في التفاصيل؛ مما يجعل الحسّ بتلك الآثار مضاعفًا ومرتهنًا بحالة الوحدة والانعزال التي يعاني منها، مع حالة الانكسار التي تغلف حياته كميراث قديم من أثر المعاناة السابقة مع المرض وعوادي الحياة وتداعياتها القاسيّة على الروح.. مع قدرته الجديدة على تحويل كلّ الحالات إلى مشاهد يلعب فيها التخييل دورًا مهمًا في إحداث عملية التسلية أو الإلهاء التي يتغياها السارد كي يمضي به الوقت دون ألم، وإن كانت من خلال إحصاء عروق الخشب في السقف– مثلًا - وهي صورة بالغة الأثر النفسيّ..
تلك الآلام التي تطلق شجونها فيبثها السارد في تضاعيف سرده لتعبر تعبيرًا حقيقيًّا عن مأساته التي ربما لا يشعر بها أحدٌ غيره، لتستوليَ صناعة المشهد دائمًا على مستويي الذهن والواقع في تعبير بليغ قادر على إحداث هذه الحالة من التعاطف وإثارة الشجون، لانسحاب أمارات الحياة والوجود من حياة السارد أمام عينيه، وهي التي يبرع السرد في تقديمها وبلورتها على نحو ما يقول:
"وبمجرد أن تتحرك بهم العربة تنسحب روحي وتنكمش إرادة الحياة داخلي، وأنا في البلكونة الأمامية أتابع اختفاءها خلف الشجر والعمارات السكنية.. يفتح العدم فمه الخرافي ويبتلع الأحباب"
حيث يتداخل المشهد الخارجيّ الواقعيّ مع المشهد الداخلي النفسيّ لدى السارد ليصنعَ هذه الانطباع العميق الأثر بقسوة الوقت، والتأثير العميق للوحدة، ما يسمح لتلك الحالات التى تفصل بين اليقظة والغيبوبة تؤثر على تلك الذات تأثيرًا بالغ الخطورة على الكينونة التي تئن فيها ومعها الذاتُ وحيدةً ملتمسةً ملء الفراغ والدخول في فترة الاتزان المعنويّ والجسديّ، لكن تداعيات الوحدة تضغط كثيرًا على ذاك الوعي الذي ربما فقد قدرته على المقاومة، وهو ما يتابع السرد تقصيه في حالة السارد:
"أتعجب لأنَّ رأسي صار ثقيلًا جدًّا على المخدة، وخصوصًا نصفه الخلفي. أنام على الجنبين، هناك صوت في أذني لا أدري إن كان نبضات دم متثاقلة أم أصوات في المخدة! أرفع رأسي قليلًا فتخفت الأصوات! هل أفهم شيئًا؟ لممت جسمي وجلست. تساءلت عن مصدرها. نمت على ظهري. اندهشت لذلك الثقل الهائل لهذا الدماغ، وخصوصًا مؤخرته! أخذني القلق. هنا يتمكن مخلبا الطائر من القبض على جمجمتي، وغرس الأظافر في المخ"
يبلغ التأثر بالحالة النفسيّة للوحدة داخل المكان الضمني هنا مبلغًا يحيل كل صمت السارد إلى تخيلات، قد تصنع مشهدًا موازيًا للواقع بقسوته وحمولته الزائدة على الروح والذهن، الذي ينشغل في مساحات شاسعة بعيدة تنتهبه فيها الطيور الخرافيّة المتوحشة، وتتجسد له كقابض على وعيه يتماثل ويتعادل موضوعيًا مع كل تلك الممارسات التي يمارسها معه كلّ من حوله، فتأتي هنا براعة التعامل مع الحالة النفسيّة لتلك الذات والانغماس فيها للدرجة التي تجعل من السارد بطلًا حقيقيًا متلمسًا كلّ مواطن الاستلاب التي تعاني منها تلك الشخصية الافتراضية، والتي فرضت واقعها من خلال التباس السرد السيري الذاتي هنا، بالسيرة الذاتية التي تطرح نفسها بمزيد من التعقيد النفسيّ والتعبير اللغوي عن تأثرها بالحالة المعقدة على المستويين المتوازيين: النفسي، والاجتماعي، تلك التي تبدو ظلالها النفسية بتلك القوة المهيمنة على مواطن السرد في الرواية من خلال القبض عليها وتجسيدها..
فلسفة العلاقة الإنسانيّة
"رفعت السماعة وأدرت الرقم الذي ظللت أكرره في سري وأنا طائر من الفرح. قابلني أحد الجيران فتجنبت طريقه كي لا يستوقفني ويسألني عن الأحوال فينسيني الرقم. إنه رجل غتت أعرفه.. وأكرر بصوت منغم تلك الأرقام السحرية!.. أنا الآن في وحدتي ولكن الوحدة الآن مطلوبة. دخلت المطبخ وصنعت لمزاجي فنجان قهوة.. آلو الست مهجة؟...."
هكذا يفلسف السارد حالةً مضادة لحالة رفض الوحدة والشكوى منها بتلك الروح الهاربة من وطأة تعاملها مع الآخرين؛ بحثًا عن نشوة أو فرصة للقاءٍ ونيسٍ يمثّل له معادلًا جديدًا للحياة التي هربت منه، لينشيء هذه العلاقة الجديدة التي تعدّ محطة جديدة ومغايرة مع الحياة لعقد هدنة مع تلك الوحدة والانعزال، لتمثّل "مهجة" ذلك الشعور المخاتل الذي ينتاب السارد في سيرته - وتشغل مساحة كبيرة من مساحات الحكي في النص الروائي - لتتمدد رغبته في معانقة الحياة، فتلك "المهجة" هي المحطّة التالية التي تتوازى مع محطات المكان التي انتقل إليها السارد ليعانق وجوده، ولكنّها محطّة مؤثرة وموجعة، فهي التي تشيع فيه هذه الرغبة في التعلق بالحياة مرةً أخرى، ومحاولة ممارستها والاستمتاع بها عن كثب، برغم الأسباب الطبيعية التي تعوق ذلك.. وفي ظل رفض الأبناء الذين يمثّل عقوقهم حضورًا زائدًا - غير مبرر إلى حدٍّ بعيد - في البناء الروائي، من خلال الجو الدراميّ الذي تثيره تصرفاتهم المرتهنة بحالة أبيهم، وهو الذي يشعل صراعًا متصلًا قد يمثّل جزءًا من خلفية النصّ الروائيّ؛ ليبدو الأثر العميق لانكساره النفسيّ في علاقته بتلك المرأة/ النموذج على المستوى النفسيّ في مرحلة تالية من مراحل تعانق السارد مع نصّه:
"تابعت المكان بدونها فتعجبت لاختفاء أشياء كثيرة ثمينة أخذتها معها!!.. الحميمية والألفة والمودة، والنفس المؤنس الذي يتردد في الصدر دخولًا وخروجًا بانتظام الوجود الآدمي الآخر الذي يجعل المصباح الكهربائي يضيء، لا مصباح يعمل بسلك واحد، لكني طلقتها.. "يا أولادي لو تعلمون ما فعل أبوكم! لم أتحمل أن تقول نصف كلمة عن أختكم ففعلت أبغض الحلال!"
تبدو هذه الحالة من التردد بين الرغبة الذاتيّة للسارد، ومراعاة رغبات الآخرين على خلفية إحساسه بهذه الحالة المستمرة من الفقد والاحتياج النفسي – قبل الجسدي الذي يظل مراوغًا برغم العمر – إلى المؤنس والخليل الذي يأمن على نفسه بجانبه.. تلك الحاجة الغريزيّة التي يفقدها السارد برغم ما يحمله على كاهله من جبال السنين، إلا إنَّ السرد هنا استطاع تضفير هذه العلاقة وبلورتها وفلسفتها على النحو الذي يتردّد بالفعل في داخل السارد، بعمق التأثر بالحالة التي لا تتوقف عن التردد بين تلكما الحالتين الإنسانيتين اللتين تتداخلان في كلّ ما يتعلق برغبة السارد في استمرار الحياة، وهي فلسفة وجودية لا شكّ في أنّها تحرز للنص دائمًا قصب المصداقيّة والحميميّة، برغم بعض التزيدات التي قد يجنح إليها السارد في مواقف عدة.
إلا إنَّ الأثر الانفعالي الفاعل على مستوى بناء النصّ الروائيّ، يبدو مسيطرًا بصورة فنية تبرع في تقديم الداخل النفسي متجاورًا مع المكان الخارجي الذي تتعدد فضاءاته بين البراح الواسع خارج المنزل/ المكان المفتوح، والفراغ الأقل اتساعًا/ داخله، والأثقل ضغطًا ووطأة على النفس:
"هل يتآمر المكان هو الآخر على إنسان ضعيف مثلي؟ قدماي بلا شك جهة الدولاب ورأسي جهة الحائط البحري، وعلى هذا إذا مددت يدي اليسرى سألامس الجدار الشرقي بدلًا من ملامسة الكمودينو..! أحاول أن أقنع نفسي أن المسألة ليست كما أظن وأن الأحوال على ما هي عليه طيلة السنوات العديدة الماضية، لكني لا أستطيع لا اليقين ولا حتى الشك أنا متأكد أن المخدة ليست في مكانها المعتاد، بل في الناحية الأخرى من الفراش، وأن قدمي مكان رأسي، وأن راسي مكان قدمي!! ولماذا أحتار واليقين لن يكلفني سوى أن أفتح جفني؟"
هذا المشهد المتكرر لهذه الحالة من الالتباس الدالّة على انقلاب الأوضاع وعدم استقرارها، التي يثيرها المكان من منظوره النفسيّ المعقد، مع اختلاف صيغه، يؤكّد إلى حدٍّ بعيد مدى ما يعانيه السارد في تلك اللحظات الحميميّة الأكثر قربًا من ذاته، ودلالاتها التي تثبت وتجسد حالة انعدام الوزن والاتجاه التي يعاني منها، ولا شكّ فهي من النقاط الفنيّة المضيئة في ثنايا النصّ الروائي تلك التي لا يذهب فيها السارد إلى عمق الحالة بشكل مباشر، وإنّما بحرفية تقديم القرائن النفسيّة المشبعة بالتلقائيّة الفنيّة، والتي ربما جاءت عفوية في السرد الضمني الحقيقي الذي يتلبسه هذا السارد الذي تحمَّل عبء تقديم الرواية بهذه القدرة من التقمص والالتباس بالواقع.
الإيهام بالوجود
وهو الذي يعكسه تردد الحالة النفسيّة والوجدانيّة لدى السارد حال تحوّل الأمور وعودة الوصال مع تلك المهجة التي صارت في تضاعيف السيرة رمزًا لشهوة الحياة وتفاصيلها المشبوبة بالرغبة في الاستمرار، والتوجّه إلى نيل ثمراتها المراوغة التي ربما لم تعد هناك القدرة على التهامها:
"وزاد التصاقها بي كأنما تخشى أن تفقدني كما فقدتني أول مرة! القطة الأليفة يفوح منها الحنان الجميل الواعد، ويتحول لحمها إلى مجمرة يتقلب عليها قلبي الدافئ المستدفيء الخارج توا من صقيع سيبيريا! وهي تطل مثلي من نافذة السيارة مشدودة الخيال إلى تلك الخيوط الهابطة من السماء إلى الماء في النيل ونحن نجتازه، ثم على المدينة، وسقف العربة يعزف، والبَرد يتساقط في الطرقات كأنّه حصوات الملح. تطل من النافذة التي على يساري، وليس التي على يمينها، كي يظل وجهها الجميل تحت نظري! ما أحلاك يا مهجة!"
حيث تأتي جماليات التقابل بين الحالات الحسّيّة هنا لتعبر عن ذائقة السرد وتقلبه على نار المعاناة التي يعيشها السارد فيما بين النعيم والدفء في عزّ البرد، وبين الشعور المتناقض السابق بالبرد والزمهرير وقسوة الوحدة في المكان الذي ربما كان منبعًا للدفء، وهي الحالات التي يتأرجح فيها السارد في تقديمه لهذه الوجبة من المعاناة الإنسانية، ليفلسف حالته المتّجهة نحو تجسيد أسطورية وجود المرأة في حياته كمعادل موضوعي للحياة في أوج صورها، وهو يشاهد معها ويلمس هذا التحول من الجحيم إلى النعيم أو العكس الذي تفرضه الحقيقة الواقعة المؤلمة.. والتي تأتي به نهاية علاقته المستأنفة - الدراميّة إلى حدّ بعيد - بها، والتي عبّر عنها من خلال تيمة الحلم، ومردوده النفسيّ العميق كترسّباتٍ للواقع وكاستباقاتٍ وتوقعاتٍ لما يحدث فيه من خلال ذهنه الذي لا يتوقف عن التفكير والانشغال بالحالة والتأثر، والتباس الشكّ الذي يتحوّل إلى حقيقة ناصعة تقضي بانتهاء العلاقة مع تلك الزوجة/ المرحلة بسيئاتها واستلاباتها المتعددة له على المستويين المادي والمعنوي، وترسّباتها بداخله، في قوله حالمًا:
"بسمتها تتسع منبهرة بما يدور حولها من احتفال بها كأنها مليكة. يده تتحرك مع الموسيقى، ويزداد توهج الزهرة. لمحتها تهوي كالشهاب وتسقط في الأخدود وصرختها تدوي. كادت تقع من فوق الكرسي وتلطم خديها. وجدتني أحجره بنظراتي ثم أبصق عليه. نهضت فزعا وبصقتي لا بد أنها على المرآة المقابلة لسريري. "تستاهلي".. آه يا أولادي! إنكم تتركونني للوسواس يفترسني!"
ومن خلال هذه المشهديّة التي تستدعي براعة الوصف، يقدم السرد ذلك الدور البالغ الأهمية الذي تلعبه المرأة في حياة هذا الشيخ كمجاور ومؤنس وملطّف، لا ينتهي بانتهاء تلك العلاقة الاستثنائية بمهجة الحياة التي مارست دورها كامرأة لعوب تقتنص ما ترغب فيه دائمًا، وتتخطى مرحلة/ محطة هذا الشيخ بغنيمة كبرى، وتبدأ في نسج شباك وجودها من جديد.. إلا أن الرغبة في الإحساس بالوجود أو الإيهام به تظل موجودة من خلال تحريك النصّ/ الواقع لشخصيّة أنثويّة جديدة تدخل للسارد من أعطاف المكان الذي يفرض وجوده أيضًا:
"عندها شقة في المنصورة، مباشرة أمام محطة القطارات، إيجار قديم، ليست محتاجة لمن ينفق عليها، لكنها محتاجة لمن يؤنس وحدتها.. نفس الكلام بالنسبة لي"
وهو ما يجعل من المكان الجديد/ المستقر- المرتبط بعنوان الرواية، وكتوظيف مهم له - حلًا سحريًّا لتلك الأزمة الإنسانية التي بلورها النص الروائي من خلال سارده لتعبر عن تلك الحالة الوجودية التي أثارت قضيتها عبر محطات وجودها في الحياة، لتعبر عن الرغبة دائمًا في الوجود، وإن كان من خلال استيهاماته والتعلق بها، وتوجيه النظرة الإنسانية إلى تلك المعادلة القيميّة التي تنشد الوصول إلى مرفأ آمن، وربما لميلاد جديد ربما أعاد الحياة من جديد لتلك الرحلة المشبعة بالحكايات وبالألم، وبالسخرية، والفكاهة أحيانًا، ومن خلال علاقة جديدة/ محطة أخيرة مع امرأة أخرى في سلسلة اقترانه بهن:
"وكانت امرأتي، جدة الطفل تتابعني باندهاش دون أن تعترض على فرحتي! رفعت امرأتي حاجبيها ولم تعقب، وكانت الأغاني تنسكب في الدخان المعبق والطفل في المنخل، والشموع تقطر نورًا باهتًا، واسمع كلام أمك، ولا تسمع كلام أبيك، والأولاد والبنات يزيطون وعيونهم تضحك، وفي دائرة يدورون.. أرقبهم واجما ثم أضحك وأضحك، ولا أحد يسمعني"
ليكون التعبير في هذه المشهديّة المعبرة - التي يختم بها السارد نصّه الروائيّ- بلفظ المرأة تعبيرًا عن المطلق، أو التحقق من حيازته لهذا الحق الإنساني الذي كان افتقده في علاقته السابقة، وليكون – في الوقت ذاته - ميلاد الطفل ميلادًا وهميًا لحياة السارد من جديد تتحقق فيه معادلته التي ربما افتقد أطرافها فيما مضى، واستعادة لدورة الحياة من جديد!!