عاطلة عن النسيان

قصة: د. نهلة عبد العزيز الشقران

قاصة أردنية

         أتلفّع وجهك حبيب الأمس وأمضي. كم مر من الزمن الغابر وصرخة الوليد في وجهي لم تكتم بعد..!! 

أرى تقاسيمك كما الشمس، كما الدحنون في بلدي، كما الزيزفون.. أراها ببطء مستفحل في نظراتي لكلّ خاصتك، وأقسم أنّي لست كاذبة، فوجودك له طعم لا يعيه غيري، طعم لفح تراب ممزوج بنكهة المطر...

        تكوّرتُ وارتعشتُ بردًا، ولامس جسدي إزارك المخمليّ، فأسدلته بحنوٍّ وأنت تمرّر أصابعَك فوق خدي المتّشح بياضًا لا حمرةَ فيه، وابتسمت لي عيونك، بصوتٍ دافئ كزيتٍ ومِدفأة...

تبًا لي، ما أقبح ذاكرتي!، لماذا ظننتُ أنّ لونَ سريري أحمر؟؟ ما هذه الملاءة الحمراء التي اشتريتها اليوم من السوق!! كيف سأضعها على سريرٍ بنفسجيّ..؟؟ يبدو أنّني بهرت باللون ونسيت أنّه لا يناسب السرير.

لا ضير سأذهب غدًا للسوق وأغيّر لونها...تذكرتُ أنّها قرأت البارحة مقالًا في موقع ما عن الذاكرة الضعيفة، وطرق تحسينها، فعزمت على استذكار الموقع بهدوء، والتوقف عن الحركة الدائرية التي تحرك بها اللبن في قِدر الطعام، كي تحصر ذاكرتها بتركيزٍ قويّ، ولم تخشَ أن يتكتل، فجارتها "سميحة" أكّدت لها أنَّ حركة دائرية بسيطة تكفي في الدقيقة الواحدة، فالهدف من هذا أن تبقى جزيئات اللبن غير مستقرة...

-نعم، تذكرت إنّه منتدى، وليس موقعًا، رائع عرفت ما اسمه، فقد كنت بصدد البحث عن "ريجيم" سريع هناك، في منتدى " كوني متميزة"، وقادني البحث إلى موضوع الذاكرة...

 

   ذاكرتي مريضة بمرض عصريّ، كما هي البدانة... ضحكت وبريق دمعٍ لاح في مقلتيها، وتابعت طهو الطعام، وهدوء مقيت في منزلها لا يزعجه إلا صوت ملعقة خشبيّة تتمايل جيئةً وذهابًا بين مساحة بيضاء لا لون فيها بعد، وتخيلت لو كانت غرفة نومها بيضاء لناسبها اللون الذي اشترته اليوم، بل لناسبها كل لون، ولكن سامي يحب اللون البنفسجي وإلا لما اختار هذا اللون تحديدًا لغرفةٍ تجمعهما معًا في عرف زواج لا يكون في مجتمعاتنا إلا بسريرٍ واحد لكليهما، وتخيلت لو أنَّ لها سريرًا خاصًا، ثم حرّكت رأسها بحركة قوية شاركتها بها يدها، فبسملت بصوت مفزوع إثر تطاير قطرات اللبن الحارّ على وجهها، ومسحتها بصلابة تمسح بها ما باح به التمني لخاطرها، وتذكرت بسرعة أنّ على الجزيئات ألا تستقر، وحركة واحدة تكفي في الدقيقة.

      

 أرادت أن تقنع نفسها أنّ ذاكرتها بخير....

         

أنهت عملها بهدوء وقتَ صلاة العشاء، ثم ذهبت لتوقظ ولديها اللذين ناما قبيل المغرب بقليل كعادتهما، أمّا " سلوى" الصغيرة، فهي لا تعرف نوم الليل إلّا في هذا الوقت، ويومها يبدأ بعد تناول العشاء، وتبقى مستيقظة إلى صبيحة اليوم التالي. 

 

       عمل سامي طويل ومرهق، فهو من ملائكة الرحمة الذين يسهرون من أجل راحة المرضى، ولا بدَّ من ورديات ليليّة كثيرة طيلة الشهر، تقلب بها البيت رأسًا على عقب، فالغداء يصبح إفطارًا مثلا، والليل يتعرّى من ثوبه المتزن، ويرتدي حلّة جديدة توقظ ما غفا بين أهداب الذاكرة.... 

 

       تبًا لذاكرتي البغيضة! لقد طلب مني سامي أن أطهو" البرغل" بدلًا من الأرز، ما أشدَّ غثيان النسيان هذا الذي ينتابني، يبدو أن ذاكرتي مكبلّة بحق، وتحتاج لمن يحييها من جديد... ابتسمت بسرّها عندما تذكرت أنّها وجدت الحلَّ لمشكلتها في ذاك المنتدى..

 ليتها قرأت الموضوع وما استخفّت به...

 

        أسرابُ الطلبة العائدين من مدارسهم يستوقفونها كلما أخرجت دفتر الواجبات ليحيى، تشمّ في حقيبته رائحة كتاب كان في يديها يومًا، ومقعد خشبٍ قديمٍ حوى جسدها الضئيل، واثنتين معها في ركن بارد...

 

   لم تزل رائحة إزاره المخمليّ تسكنها، وما أبدلتها...

 عيناه في كلِّ ركنٍ من هذا المنزل، تحرسانها، فتقولان لها دوما كما اعتادت:

-اسم الله عليك...

         أعادت كتب يحيى في الحقيبة، وحمدت ربها أن لا واجبات لهذا اليوم، فعليها الذهاب لبيت قريبة لهم، خطبت لابنها عروسًا، وستذهب بمفردها، لن تأخذ معها ثلاثة أطفال بالتأكيد، وعلى يحيى أن يعتني بأخوته، ووالدهم سيخرج كعادته بعد تناول العشاء برفقة أصحابه.

        والده... ما أجمل أن يكون للمرء والد! عندما توفي والدها لم تثُر كباقي أخوتها وتبكي، فلم تكن تعرف ما الحزن بعد! لم تكن ترى إلا دفء نور محيا الحبيب يحيطها بهالة سماويّة تليق للون عينيه المخضرتين، كان بقربها، وما غاب عنها والجثمان يعتلي أمامها إلى بوتقة من ورد وياسمين، تمسك أطرافها الأربع ملائكة لها أجنحة فضيّة، وفوق رؤوسها دائرة فضية معلقة بالهواء، كما شاهدتها في فيلم كرتوني قديم لا تنساه أبدًا.

       قفزت من مكانها، وألقت الحقيبة من يديها مستذكرة، عضّت على شفتيها بشدة، لقد نسيت أن سامر سيتأخر اليوم، فقد أخبرها البارحة أنه سيذهب برفقة زملائه بعد انتهاء دوريتهم إلى القرية المجاورة، حيث يقطن زميلٌ لهم مصاب بمرض خبيث، قال إنّه بين الحياة والموت، وقد لزم بيته.

       لم يكن الموتُ صورةً قريبة لمخيلتها، ابنة السابعة عشرة التي لم تحب المدرسة يومًا، وفرحت بزوجٍ مُحب ما عرفت شيئا غير الفرح...

 ثيابٌ جديدة، بيتٌ خاصٌّ بها، عالم جديد لها وحدها، أمٌّ ثانية وأب يعوض من ذهب، غرفة نوم حمراء...لا بل بنفسجية.

        صوت صراخ سلوى ملأ البيت ضجيجًا، واستيقظ الولدان يتململان بضجر، وصورته قابعة هنا في ذاكرة بغيضة مضللة، تربت يده على ظهر يحيى، وتداعب أصابعه خالد، فيضحك باحتراف كمن اعتاد الضحك بكل مناسباتهم، وسلوى في حجره تغطُّ في سباتٍ طويل، كأنّها تعلم أنَّ النوم سينفد من ليلها....

-هل أنتم جياع...؟؟

أجاب يحيى بحركة رأس دون أن ينطق، قالت لنفسها: سأضع لهما الطعام، فقد يتأخر والدهم، والدهم...نعم إنّه والدهم، هو من قال هذا أنا لا أنسى أبدا، وأمّه كذلك وأمّي وأختي وأخته والـ....

          ابتسم لها ثغره مجددًا، عندما هوت قدمها وهي تقبض بيدها على وعاء الرز، مسح بيده شعرها البنيّ المسترسل كعادته كلما عاد من عمله، وقبل جبينها...

-اسم الله عليك...

         سمعت الحروف ذاتها، إنَّها لا تتخيل، بل تسمع صوته بجرس منمّق كعادته، بهدوء وحب كبير في عينيه، بلطف زوج وأب كما كانت تشعر به دومًا...

       تذكرت أنّ لديها وقتًا كافيًا لقراءة "وسائل تنشيط الذاكرة" .

         تناول الأطفال طعامهم، ولم يأتِ بعد، ربما أن القرية بعيدة، أو أنّ صديقهم قد غادر الحياة، أو أن... يجب عليها ألّا ترهق ذاكرتها كثيرًا بالتأويل، كي لا تصاب بالخمول، هذا ما قالته جارتهم "علياء" عندما شكت لها ضعف الذاكرة لديها، سامي زوجي ولن يخرج مع صديقته الممرضة التي تهاتفه دومًا بحجة مرض صديقه، لو أرادها لتزوجها وما فضلني عليها، ألم تخبرني أمّه بأنّه تركها من أجلي وأجل أولادي، ألم يقل لي بأنّه والدهم وزوجي، لا عمّهم وأخو زوجي الحبيب الذي لم يمت يومّا...!! من قال لهم إنّه مات!

سأرمّم ذاكرتي قبل أن أفقدَها....

       دخلت إلى حجرة نومها، أرادت أن تجلس جواره كما اعتادت أن تفعل وهو يقرأ ليلًا، ويخبرها بقصة أو نادرة أو خبر سياسيّ جديد، ولا يثقل عليها كي لا يرهق ذاكرتها الفتية، يدلّلها كما قطة صغيرة، يمسّد شعرها بدفء أصابعه التي لم ترتعش يومًا، وتغفو على صدره برفقة كتاب، ويداه الدافئة شغلت بوجودها.

 غاب ظلّه بين البرد والعدم منذ سنة، وما غفت بين يديه....

        شعرت برعشة برد قادمة من ذيل أيلول، بحثت عن ثوب دافئ ترتديه، وتذكرت أنّها "عروس" وعليها أن تبدو بأجمل حلة، فلم يمضِ على زواجها من سامر ثلاثة شهور، وسترمقها الأخريات بتمعن لأدقّ تفصيل يبدو على محياها، وستتحسّر البعض على حظّها العاثر، وستحسدها إحداهن على حصولها على زوجٍ بديل، وخروجها من لائحة الأرامل في الحيّ، وربما تغفر لها هذا الظفر عندما تنظر في وجهها جيّدًا، وتكتشف أنّ التي كانت أرملة وأصبحت زوجة الآن لم تتجاوز الخامسة والعشرين بعد...

سمعته يحادثها بقصة لا موت فيها، ولا نهاية، طالما أخبرته أنها لا تحبّ القصص التي يموت أبطالها، فكان يضحك ويقبل جبينها قائلا:

-في الجنة لن يموت الأبطال

فتقول له بعصبية طفلة مدلّلة: 

-ومالنا ومال الجنة، نحن في الدنيا الآن...

        لم تثُر عندما رأت جثته أمامها مضرّجة بدمائه، لم تصرخ كغيرها ممّن التفوا حوله، لم تنطق أبدًا...اتهمها البعض بالغباء، وآخرون باللامبالاة، بينما هي كانت تسمعه يحادثها، وابتسمت عيناه لها، أقسمت فيما بعد أنّه حرّك رمشه الأيمن صوبها، وفاضت عينه حبًا، وهمس لها أنّه لم يمت كما يقولون، هو حيٌّ ولكنّهم لا يرونه، هي وحدها التي تراه، ولها سيروي الحكايا....

ارتدت ملابسها، وتزيّنت كالعروس، أرادت أن تهاتف سامي ثم تذكرت...إنَّها بحق ذاكرة بغيضة، ألم يقل لي ألّا أهاتفه في عمله مهما كانت الأسباب، فيكره أن يبدو بمنظر غير لائق عندما تحادثه زوجته أمام الناس.

 ليتني قرأت المقال... انطلق صوتها كفوهة بركان ليلة إخبارها بموضوع زواجها من سامي، بكت الحبيب وكأنّه مات للتو، ولم يمت من سنة، كانت جثته أمامها بلا ابتسامة ولا رمشة عين لها، كان يرمقها بهدوء دون أن يحادثها، سنة كاملة وهي تعيش معه في غرفة نومها الحمراء، وفي إغفاءة أطفالها تبثّه حصيلة يومها، ويمسح شعرها بدفء عمر ذهب معه، ويروي لها قصة الجنة واللافراق، وتنام ومخدته تعتصر بين يديها...

لم يكن بيدها قرارٌ يومًا، هم زوّجوها في المرة الأولى وسيزوجونها في المرة الثانية، إنّه أخوه، ومن سيعطف على أبنائه غيره..!! 

عمّهم أولى بهم من الغريب... ومن قال لهم إنّي أريد الغريب..؟؟

       تبًا لذاكرتي ما أشنعها، لقد نسيت أن أشتري هدية اليوم، رغم أنّي خرجت من أجلها، كيف سأخرج الآن إلى السوق في هذه الساعة المتأخرة كي أشتري لهم هدية...؟؟ 

إن ذاكرتي هرئة بحق، لم أعد أستذكر شيئًا.

-في الجنة لا يموت الأبطال

      

        قالت لهم إنّه ينتظرها في الجنة، صرخت في وجوههم، ضربتهم بقسوة صمودها طيلة سنة بلا دموع، طردتهم من بيتها، وعندما أغلقت أبوابها وجدته يحتضن سلوى بصمت، ويربت على كتفي يحيى ويداعب خالد...

لم تذكر في أي يوم تزوجت سامر، وكل ما تذكره أن لديها ذاكرة عاطلة عن  التذكر... قبّلت سلوى، وخرجت بأبهى حلة ودمعة خبيئة تلوح في عينها، وتذكرت أنَّ عليها أن تشتري حليبًا لسلوى في طريق عودتها، خشيت أن تنسى كعادتها، فأخرجت هاتفَها الجوّال، ودونت ملاحظة فيه، ووقت تنبيه...

فلن تعوّل على ذاكرتها بعد اليوم، إنّها بحق عاطلة عن التذكر.. بل عاطلة عن النسيان.