ميسّر السرديّة
كاتبة وصحفية أردنية
يصفُ أستاذُ النقد محمّد برادة الرواية "إنّها التوتر والمتعة والوهم والحقيقة والتصدع والتوحد وارتياد عوالم التصوف في رحلة لا تنتهي، تحكيها الرواية الملتصقة بالإنسان وأحلامه" وبذا تكون قيمة الأدب وروعته بمقدار قدرته على خلق واقعٍ خياليّ أحسن من الواقع المعيش حيث العدل والسعادة.
في اللحظة الأولى عند تناول رواية يحيى القيسي "بعد الحياة بخطوة" ترد إلى خاطر القارئ بأنّه سيجد شيئًا من إيحاءات "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، و"الكوميديا الإلهيّة" لدانتي، و"ما بعد الحياة" لكولون ولسون، وقصيدة "الرجال الجوف" ل ت.س إليوت. إلّا أنَّ الرواية تُشكّل حالة من عتبات الفكر الصوفيّ وتجلياته وانثيالاته، وبشكل عام هي أقرب إلى ما ورد عن ابن عربي في "الفتوحات المكيّة".
الاشتمالية البنائيّة والشكليّة
تُعتبر ثيمة الموت وما بعد الحياة البؤرة الرئيسة في بناء الرواية المرتكزة على استلهام الفكر الصوفيّ، والتراث الديني والثقافيّ، وطرق أبواب جديدة بعيدًا عن التبسيطيّة، وتسجيل وقائع وتواريخ واستثمار مادة من عوالم تُعد شبه مجهولة، وتحتمل رؤى متعددة، وانطباعات مختلفة لدى البشر على مختلف دياناتهم وأساليب إيمانهم، وحتى ثقافاتهم شرقاً وغرباً.
في "بعد الحياة بخطوة" التي نستطيع تقسيمها إلى جزأين، الأول: العروج في رحلة مقاربة الموت، والثاني: العودة إلى الحياة، تتجلّى حوارية تستجلي عمق الأشياء عبر حوار موزع على عدة شخوص للغوص في أعماق الوجود والوعي والتصارع مع الذات والغير، بواسطة المتخيل الغيبيّ في لغة تسيطر عليها عدةُ أصواتٍ أرضيّة وعلويّة في فضاءات وعتبات متعددة؛ فنجد الصوت المونولوج بوضوح في حالة الاسترجاع وارتداد الذاكرة، إضافة للصوت الصامت المتمثل بالتخاطر والصورة والإمارة مرةً، ومرةً أخرى عبر المحكي المباشر في العوالم الغيبيّة، والصوت عبر اللغة المتعددة على لسان المحيط الاجتماعي الأرضيّ، وفي كلا الجزأين تكون اللغة الحسّية الشعرية؛ ضرورة اللغة الصوفيّة - غالبة في تصوير المشاهد التأمّلية عبر مختلف فضاءات السرد التي يتلازم في بعض نقلاتها الزمكان "كونتوب" واللازمان - في ذات السياق تشكّل "الباروديا" المحاكاة الساخرة عبر توظيف الأمثال والحكم والشعر واضحة المعالم، وخاصّة في الجزء الثاني حيث معاناة "الشخصية الرئيسة" حاملة رسالة الأمل لأهل الأرض التي ترى أنّ الموت ليس فناءً "من التراب إلى التراب" إنّما رجعة سعيدة إلى رحمة " الحبيب" ورضوانه.
شخصيات رئيسيّة وثانويّة
الشخصيّة الرئيسة حاملة القضية هو معلم مدرسة بعمر الأربعين يتعرّض لجلطة دماغية في الغرفة الصفيّة، ويُنقل على إثرها إلى المستشفى ونتيجة خطأ طبيّ بزيادة جرعة التخدير يدخل في غيبوبة يفقد فيها الإطباء أملهم بعودته إلى الحياة.
هُويته الشخصيّة "معلم" وهنا يقدّم نفسه طيلة الرواية كصاحب رسالة معرفيّة توجيهية تحاول أن تصحّح أفكاراً مغلوطة لدى العامة، ومردُّ معرفته تلك يعود لتعمقه بالفكر العرفانيّ الروحانيّ. يتضح ذلك في لازمة سن الأربعين ومكانته التأويليّة (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)) 15 - الأحقاف.
الشخصيّة البؤرية هو الجدُّ علي الذي توفي قبل ولادة السارد؛ كان مزارًا لأهالي القرى للتداوي على يديه من خلال الطب البديل والرقى والكرامات التي ورثتها ابنته فيما بعد، وقد أطلق الناس على عائلته لقب "الفقرا". وهي درجة صوفية أيضًا، وطابع مركزيّة الشخصيّة هذه يعود لتأثر السارد به حيث أطلق على ابنه البكر اسم جدّه علي، إضافة إلى اعتباره ممن تمكنوا من الوصول الصوفي في الترقي للعتبات العليا، فذكره وأخبار كرامته متوارث في القرية، وهو من يرافق معلمنا من لحظة وصوله إلى العالم الآخر، ويشرح له المكنونات والتجليات الغيبيّة، ويظل الجدّ حاضرًا بدرجات متفاوتة ومتقطعة طيلة السرد، وفي جميع الفضاءات العلوية والأرضية.
الشخصياتُ الثانويّة تنقسم إلى قسمين: فاعل بقوة وفاعل متوسط، بغضّ النظر عن مكان الحركة سواء أكان ملكوتيًا كالأم التي رحلت جراء مرض السرطان، وعادة في العالم الآخر لحالة الشباب أو الأخت مريم التي رحلة طفلة، وأيضًا صارت شابّة في دلالة على عدم توقف نمو الحياة وتواصلها، وإن بصورة أخرى في تلك العوالم.
كذلك "عبدالله" ابن خال الشخصيّة الرئيسة الذي مات بمرض السّكّري، والصديق الصحفي "محمود" الذي راح ضحية العمل الإرهابي في انفجار فنادق عمان 2005، عندما كان يجري حوارًا مع المخرج الكبير "مصطفى العقّاد" إضافة للوكيل تلك الشخصية الغيبيّة الغامضة التي تشكّل همزة الوصل بين سكان عتبات حياة ما بعد الموت، وبرزخ البرازخ حيث "الحبيب"، وتشرف على مختلف تفاصيل المعارف والحيوات.
أمّا شخصيات العالم الأرضي فهي "الأب" السبعيني الذي أصرّ على الزواج بعد وفاة أمّ السارد، وهناك "الزوجة" معلمة المدرسة المتّصفة بالسلبية تجاه تجربة زوجها، وهناك الشاعر الصحفي "فرحان" الحافي الأناني، وثمة مُعدّة البرامج "مايا" وهي أوّل من شكّل حالة إيجابية في قصّة تصديق مشاهدات العالم الآخر، والتي تنهي حياتها بطريقة غامضة، كما هناك شخصيات المجموعة الروحانيّة المهتمة بالاطّلاع على تجربة مابعد الانتقال، ينبع ذاك الاهتمام إمّا عن تجارب شخصيّة أو عن بحث عن شعاع أمل. وأبرز شخوص هذه المجموعة المهندس المعماري الذي لا ييأس من محاولة المساعدة في إيصال رسالة الكشف والأمل عن ما بعد الموت.
الفضاءات الرئيسة والعتبات الفرعيّة
تشكّل القريةُ الفضاء الأوّل من خلال عمليّة ارتداد الذاكرة في مرحلة الغيبوبة الأولى حيث يبدأ السّارد بتذكر أدقّ تفاصيل حياته الخاصّة ومحيطة القروي في مراحل تطوره كافّة، من خلال عدّة عتبات تفصيليّة، ويكون وصفها عن طريق اقتصاد السرد وتكثيفه في كلمات وجملٍ قصيرة، يكون توثيقها أشبه بنبضات القلب، أو حركة نقاط الجلوكوز المتّصل بوريده وهو في غرفة العناية المركزة.
العتبات
عتبة البيت التي تستشعر منه نكهات الطعام من خلال تعداد أصنافه؛ المجدّرة والزلابية والهريسة، سليقة القمح، وروائح الصابون، ومعجون الأسنان بماركاته القديمة. فضلًا عن الحشرات، والتحطيب، ومكوّنات الدّكان في القرية، ومواسم الزراعة، الأفراح، والأغنيات الشعبيّة، شقاوة الأطفال، وارهاصات المراهقة، ومرادفة موس الكباس، ومجلات أجنبية، وصور النساء، وأحاديث الفتيان، وتجارب فترة البلوغ، المذياع والتفزيون ومقالب غوار، طقوس موت الجدّة، وابن الجيران الذي راح ضحية انفجار لغم، وتطور مُبسّط لتاريخ القرية ذات البيوت الطينيّة من خلال تطور أدوات وسبل المعيشة.
عتبة التعليم التي تنقسم إلى قسمين ينزّان في دفقات الاسترجاع أو الانثيالات الحارّة في كلا الغيبوبتين مثل: المدرسة والجامعة في الغيبوبة الأولى حيث يصوّر المدرسة في طفولته والطلاب وفقرهم، ومحيط المدرسة والأساتذة، وحنق التلاميذ والمناهج التلقينيّة، وقلّة الإمكانيات، في حين يتذكر المدرسة في الغيبوبة الثانية بصفته معلمًا مثل: غبار الطباشير، بلادة التلاميذ، مقصف المدرسة، مفتشي وزارة التربية والتقارير الظالمة، الجهد الضائع.
أمّا عتبة الجامعة ففيها تتوسع المدارك وتتميّز بحشد الأفكار الأيديولوجيّة على المستويات كافّة، فتظهر أسماء الشخصيات الجدليّة والمنظمات والأفكار على الساحة العامة: صدّام والخُميني، القذّافي والسّادات، جبهة شعبية.. ديمقراطية.. قوميون.. فتح.. (...) ومظاهرات، كامب ديفيد، الفكر المقاوم من خلال ذكر قصيدة شاعر الرفض أمل دنقل "لا تصالح"، الفكر التكفيري متمثلاً بأبي قتادة زميل الدراسة.
هذه العتبة الأرضيّة تُقابلها عتبة جامعة في العوالم العلوية حيث تختفي كل هذه الأفكار والمصطلحات، فيما تبرز الأبحاث والدراسات التي يجريها من انتقلوا إلى هناك لإفادة سكان الأرض مرةً أخرى عن طريق الإلهام والإرشاد والتنبؤ وإعمال التأمّل والتفكّر.
الفضاء الثقافيّ والإعلاميّ
تستمر الروايةُ بتوصيف الفضاءات العامة من خلال عملية الاسترجاع في التذكّرات وصوت المونولوج والصوت المُباشر لسارد الحكي؛ سواء أثناء الغيبوبات أو الاحتكاك بالآخرين برصد المشاهد المرئيّة، أو المُستلهمة، وتقديم مقارنات مقصودة بين عوالم عليا وأرضيّة ماديّة.
عتبة الثقافة تتشكّل ملامح ثقافة الشخصيّة الرئيسة من القريّة حيث تبدأ مع الاطلاع على المجلات المختلفة ثم تتصاعد فترة المراهقة بقراءة أدب تأسيسي متنوع: العقّاد ومصطفى محمود، المتنبي وإحسان عبد القدوس، وارتياد دور السينما، تتصاعد حالة الثقافة في تذكرات الغيبوبة الثانية بسرد عدد من أسماء الأدباء والشعراء وأمّهات الكتب العالميّة.
وفي المقارنة مع الما وراء يسرد رؤاه؛ فهناك المسارح والموسيقى، وأمّ كلثوم وأحمد شوقي والحلاج وشكسبير ودافنشي، وغيرهم في عالم الجنّة والمحبّة.
لاحقًا؛ وبعد الاستفاقة يؤلّف كتاب "الرؤى والأسرار" حيث يصف فيه ما شاهد من مخفيات، وما أُوكل إليه من رسائل، كما يورد في الكتاب عدّة فصول متنوعة عمّا يرغب الناس معرفته مما خُفي عنهم.
عتبة الإعلام عتبة ناقدة ومحبطة، حيث يزور صديقه الشاعر المثقف "فرحان الكافي" في الصحيفة لإهدائه كتابه؛ علّه يجد طريقه للإشهار من خلال العرض والنقد في الصفحات المختصّة بالأدب، ويتم ذبح الكتاب بالانتقاص من قيمته المعرفيّة والأدبيّة لاحقًا، في إشارة للقراءة السطحيّة والأنانية داخل أجواء شبكة المثقفين الذين كما يتضح تسيطر عليهم المصطلحات الأيديولوجية والاستعراض اللغوي.
في مواجهة ذلك تأتي مقارنة حالة الصحفي "محمود" الذي التقاه السارد في النعيم، ومحمود كان صاحب رسالة صحفيّة إذ يكشف الفساد، ويدافع عن العدل وحقوق الفقراء.
إضافة لنقد حالة طباعة الكتب ودور النشر والتوزيع، ينتقد طريقة إعداد البرامج الحواريّة ومقدميها، وآلية اختيار المشاركين فيها، وتلقي الناس للمادة الإعلامية، ومن خلال تجربته الشخصية حيث يركّز أهله ومعارفه فقط على مشاهدته في التلفزيون ولم يلتفتوا لفحوى البرنامج، وفي هذا السياق يُكثر من "الباروديا" عبر عدة تشبيهات مثل إسقاطه على الحالة قصّة الكاتب تشيخوف "النشوة"، "على من تقرأ مزاميرك يا داوود".
فضاءات العروج إلى المواطن الأصليّة
يُقسّم "ابن عربي" مراتب الوجود إلى ثمان وعشرين مرتبة تبدأ تصاعديًّا من مرتبة المراتب وحتى النهاية حيث العقل الأول "القلم"، ويحتاج التّسامي النفسي للمريد إلى تشرب وتيقّن هذه المراتب وما يقابلها من الأسماء الإلهيّة، والحروف الرمزيّة، حتى يصل إلى مرحلة الكشف والترقّي والوصول.
ويستندُ العروجُ والكشفُ في الرواية على شحصية الجدّ العارف الذي وصل لأعلى المراتب، وصار ملهمًا ودليلًا للحفيد الذي دخل في غيبوبة، وظلّ معلقًا ما بين الموت واللاموت، والزمان واللازمان، مرتبطًا جسده الأثيري بالمادي بواسطة "الخيط الفضّي" حيث يعود لوعيه الفائق أحيانًا ليستمع ويرى ما يدور في المستشفى بين الأطباء وبين ذويه، دون مقدرته على التحدث معهم، ثم يعود مراتٍ أخرى للكشف عن عوالم ما بعد الموت بمرافقة أخته وأمّه وجدّه وآخرين، ومن خلال هذا التناوب يصوّر لنا العوالم التي تنتظر المنتقلين إلى دار البقاء في فضاءات الممر والمُستقر والحضيض، في صورة تقريبيّة تأويليّة عامّة، أقرب ما تكون لما ورد في القرآن الكريم، وخاصة في سورتي الأعراف والواقعة.
فضاء الممر
يُشكّلُ هذا الفضاءُ مرحلة انتقالية ما قبل الولوج إلى الحياة النهائيّة، وفي هذه المرحلة يمرّ المرء بحالة من الاسترخاء والراحة، "مرحلة التقديس في المخيال الشعبي الأردني في القرى لمن يمرون في حالات الغيبوبة" يصف فيها مكونات البيئة، التراب والعربات والحيوانات والناس، حيث يلتقي بأهلة وجدّه الذي يتولى دور المُجيب على التساؤلات، ويروي شغف المعرفة للسارد من خلال لغة تخاطر الأفكار والصور واللغة المباشرة أحيانًا، وفي هذه المرحلة تُجرى التّجارب كما عرف من "عبدالله" ابن خاله، تُجرى على الأدوية وتطبيقها على أجساد من هم في الممر، كما حالته في المستشفى ومحاولات الأطباء لإفاقته، وذلك كله عن طريق الإلهام والإرشاد.
فضاء المستقر
ينتقلُ إلى المستقر بمعيّة جدّه وعائلته ويرى بيتهم حيث اللازمان، لا ليل ولا نهار ولا حرّ ولا برد، وفي هذه المرحلة يطّلع على كثير من الأسرار والمعارف عن طريق مشاهداته وإجابات جدّه الذي يسكن الطابق الأخير في العمارة إشارة لمكانته، فالبيوت من الأحجار الكريمة التي يسهب في تعداد أصنافها وأنهارها ومشاربها ومأكلها وطبيعة ترابها الذي تنبعث منه الروائح العطريّة والفواكة والزهور، حيث يضيق المكان عن وصف أشكالها. وكما قال النفري: "كلما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة"
أمّا الناسُ فهم أكثر إشراقاً من أهل الممر، تعرف مراتبهم من خلال هيئاتهم وثيابهم والنّور الفائض من بشراتهم "نورهم يسعى بين أيدهم" كما يعرف هؤلاء موعد انتقال أقاربهم من الأرض الماديّة إلى عالمهم، وذلك ما قد تفسره الرؤيا للشخص ما قبل الموت، وما قد ينطبق على من هم في العوالم الأخرى بتأويل "فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" 22 ق.
كما يخبره الجدُّ بأنّ هناك مرشدين وحفظة لمن هم على الأرض، يرافقونهم ويوجهونهم عن طريق الإلهام( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)61 الأنعام.
أمّا أهم ما يميّز سكان المستقر فهو تخلصهم من الأحقاد والحسد والخبث، ولديهم حقيقة الإيمان الصادق من الداخل وليس الظاهريّ فقط، وهو ما يحيل إلى مفهوم" الطهارة الثمانيّة" في الفكر الصوفي " طهارة الجوارح " "اللسان والقلب والفرج واليد والرجل والبطن والعين والأذن".
رأى في المستقر أُممًا شتّى من أهل الديانات المنزّلة، ومن غيرهم، وأُناسًا توقّع أنّهم يتلظّون بنار جهنم، كما كان يسمع في الأقوال والمواعظ التخويفيّة الأرضية التي تصادر مفاتيح رحمة من بيده وله يُرجع الأمر كله. قد يكون ذلك إشارة إلى مفهوم حقيقة النسبيّة في طبيعة الإيمان كما رأها بعض رواد الصوفيّة.
فضاء الحضيض
يظلُّ شغف الأسئلة مهيمنًا على الجوّ العام، فنجد السّارد يرغب بالاطّلاع على المكان الذي تُعاقب فيه الفئة المحرومة من الخلود في المستقر، يوافق جدّه بعد موافقة "الوكيل" بالطبع، وضمن شروط؛ منها عدم البوح بما سيرى هناك بعد عودته إلى حياة الأرض. يدخلون الحضيض بصورة تنكريّة، يصف مشهديّة مخيفة، حيث الأرض بركانيّة صخريّة كبريتيّة تفوح منها روائح كريهة. تتناثر على سطحها أكواخ بائسة وأناس بأسمال بالية وشعور شعثاء، يتشاتمون ويتلاومون. يُخيّل إليهم وحوش تأكلهم ونيران تصليهم. رأى من بينهم الحكام وحاشيتهم، والقتلى والمفسدين في الأرض واللصوص والمغتصبين، وبعض من التكفيريين الذين فرّقوا بين الناس وأدّوا بهم إلى الاقتتال.
الخروج من الحضيض ليس مستحيلًا، ولكنّه مشروط بإصلاح النفس إصلاحًا ليس خطّيًا إجباريا من الأعلى، وإنّما ينبغي أن يكون نابعًا من الرغبة في التغير، فهناك ضوء في آخر النفق، بعيداً عن التجبّر والتكبّر والحقد والشّرور مع ضرورة الإقرار الإيماني، والإشارة هنا إلى الحديث الشريف الصحيح الذي ترتكز عليه الصوفيّة في عدم تكفير الناس "من مات وهو يعلم أنّه لا إله إلا الله دخل الجنة".
خاتمة الأمل
رغم كلّ محاولات السارد، ورغبته بقطع الخيط الأثيري الذي يربطه بجسده المسجّى في غرفة العناية الحثيثة لمواصلة الحياة الهانئة اللذيذة في العوالم الأخرى، إلا إنّ جدّه والوكيل يخبرانه بأنّ وقت وصوله إلى مرحلة النفس المطمئة لم يحن بعد، وأن عليه العودة ومواصلة رسالته في بثّ الأمل في النفوس اليائسة والخائفة والمكتئبة، التي يكابد بعضها متلازمة حزن ما بعد وفاة أحبائهم. في الوقت ذاته لا يستطيع السارد رغم كلّ محاولاته بطرح الأسئلة الحصول على الجواب الشافي بمعرفة المزيد عن "الحبيب"، فهذه من الأسرار التي يخبره صديقه "عبدالله" أنّها موقوفة فقط على العارفين الواصلين لنهايات مراتب المعرفة والتجلي.
يعود معلم المدرسة إلى الحياة من جديد، بصورة أقرب إلى المعجزة في نظر الأهل والأطباء الذين فكروا في لحظة بنزع الأجهزة عنه لعدم وجود فائدة تُرجى، وتوفير في الفواتير على أهله من جهة، وعلى موازنة المستشفى من جهة أخرى.
بعد أيام الاستشفاء يحاول بثّ وصية جدّه ومن التقى بهم في الملكوتات العلوية، إلّا إنه يواجه أول الإحباطات من والده ثم من سخرية زوجه ومحيطة. الجميع يقنعونه بضرورة مراجعة طبيب نفسي، وأنّ كلّ ما يراه ليس أكثر من إيهامات جراء الغيبوبة والمحاليل الطبية وضرب من أحلام وكوابيس.
يستمر في إصراره على نشر رسالته عن طريق مجموعة من المهتمين والمؤمنين في وجود حياة أخرى أجمل من حياتنا على الأرض. يبدأ بالتعاون مع صديقه الجديد المهندس المعماري المؤمن بتجربته، بعقد النشاطات والمحاضرات للتحدث عما رأى من حقيقة لا يصدقها بعضُ الناس الذين يرون الموتَ نهايةَ الرحلة وخاتمةَ الوجود.
كثيرةٌ المواعظ والجمل التي تستحق التوثيق في هذه القراءة ولكن سأختمها: " تخفّف من أحمالك حتى تسطيع الصعود دون صعوبة، واجعل همّتك نحو الأعالي".
- - - - - - - - - - - -
•بعد الحياة بخطوة – رواية – المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2018.