مقدمة في بعض إشكاليات الترجمة في الوطن العربيّ
د. فؤاد عبد المطلب
جامعة جرش – الأردن
ليست الترجمةُ جسراً للعبور إلى ثقافاتٍ متجانسة، بل وسيلةً للوصول إلى الثقافات المختلفة الأخرى وفهمِ تنوعِها، والتنوع الخاصِّ بثقافاتنا العربية. فنعرف أنفسنا من معرفتنا للآخر. والسبيل الذي نخوضه في معرفته له أثرٌ كبيرٌ في إدراكِ الذات بصورة أعمق لإعادة تشكيلها وفق الرؤى الجديدة التي لا تتحقق بيسرٍ وسهولة من دون صعوبات وإشكاليات تعترض سبيل المترجمين عند النقل والإنجاز في مختلف حقول المعرفة. ويتصدى هذا الملفُ لبعض تلك الصعوبات والتحديات والإشكاليات بمناقشته أربعةَ موضوعاتٍ رئيسة وما يتّصل بها من نقاطٍ فرعيّة؛ وهي: تقنين الترجمة أكاديميًّا ومهنيًّا، وترجمة المصطلحات العلمية والتقنيّة، وتدريب المترجمين لتحصيل الكفاءة، وترجمة الشعر. وتناول هذه الموضوعات أساتذةٌ درَّسوا الترجمة جميعًا في جامعات ومؤسسات عربيّة وأردنيّة سنوات طويلة في سائر المراحل الدراسيّة. وعرضوا بعضها وقدموا آراءهم فيها واقترحوا حلولًا لها على نحوٍ بحثيٍّ قابلٍ للنقاش والأخذ والعطاء في سبيل الوصول إلى صيغٍ مفيدة ومقبولة تخاطب تلك التحديات لتجاوزها والمضي قدمًا في هذا المجال.
وتكمن مشكلةُ دراسةِ الترجمة في أنَّها تتردد حائرةً، تتنقل بين النظريات التي يدرِّسها الأساتذة والتطبيقِ الذي يمارسه المترجمون، والذي يستند أساسًا إلى الفن عند النقل واستعمال اللغة. فالترجمةُ في دراستها أفكارٌ وقواعدُ ونظرياتٌ، وفي تطبيقها أساليبُ ومهاراتٌ وتقنيات، وثمة بون شاسع يفصل بين الجانبين. فكثيرًا ما نلاحظ أنَّ الكثير من مدرِّسي قواعدها ونظرياتها لا يترجمون، وأنَّ الكثير من ممارسي فنّها لا يحفلون بالجوانب النظرية، وهذا الموضوع بذاته إشكالية تحتاج إلى المزيد من التقصي والنقاش. وهذا ما فعله د. سليمان العباس لما كتب مداخلة عنوانها "عدم كفاية آليات تقنين وضعِ الترجمة في وطننا العربي أكاديميًّا ومهنيًّا"، أشار فيها إلى إشكالية الترجمة وأسبابها محليًّا وعربيًّا محاولاً تلمس بعض الحلول لها. والتقنينُ بحسب د. العباس مصطلحٌ يفيد بضرورة وضعِ قوانينَ وأحكامٍ وضوابطَ دقيقةٍ للترجمة على الصعيدين الأكاديميّ والمهنيّ. وتناول فيها الباحثُ مشكلاتها في جامعاتنا ومؤسساتنا العربيّة، مستندًا إلى خبرته النظريّة والعمليّة المديدة في تعليمها وممارستها، وهي تجربةٌ مميّزةٌ لا يُستهان بها من أستاذ أمضى عقودًا في مؤسساتٍ وجامعاتٍ عربيّة مختلفة، عمل فيها مختصًّا بهذا الحقل الدراسيّ والعمليّ. وتكاد هذه المشكلاتُ تتماثلُ في طبيعتها وحجمها وتأثيراتها، هذا بالإضافة إلى سبل التغلب عليها. وتطرق فيها إلى المشكلات التي تظهر أولاً لدى قبول طلبة الترجمة، والمواد التي يدرسونها، والامتحاناتِ التي يؤدونها، وتدريبِهم وإعدادهم لممارستها في الحياة العملية. وتناول العشوائيّةَ التي تحكم ممارستها في المكاتب والمراكز المهنيّة وعدم كفاية المترجمين العاملين فيها. إنَّ منحَ التراخيصِ لتلك المكاتب والمراكز بممارسة مهنة الترجمة لا يعني أهلية من يقوم بها فيها؛ وذلك لعدم وجودِ ضوابطَ تنظيميّة تحكم ممارستهم لها. فالمترجم المعتمد أو المحلف يعمل من دون أن تجيزه هيئةٌ أو مرجعيّةٌ مختصّة في بعض البلدان العربيّة، لعدم وجود هيئة أو رابطة أو جهة رسمية تمتحنهم وتخولهم ممارسة المهنة. وغالبًا ما يقوم بذلك جمعياتٌ أو روابطُ بمبادرات ذاتيّة من دون وجود تراخيصَ رسمية بذلك. وغيابُ التنسيق بين اتحاد المترجمين العرب ومكتب التعريب بالرباط ما زال يحتاج إلى المزيد من التنشيط والتفعيل. ومن الواضح أنَّ وضع الترجمة في عالمنا العربي- عمومًا- ليس بالمستوى الذي نتمناه ونتوقعه. وهذا من دون شكٍّ يرجع إلى أسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها فقدانُ آلياتٍ وضوابطَ ينبغي تطبيقها للوصول إلى وضعٍ أفضل يتطلع إليه المعنيون بالترجمة على مستوى المؤسسات العربية إفراديًّا، وعلى المستوى العربي عمومًا. وهذا يجعل من الضروري أن تتضافر الجهود وطنيًّا وعربيًّا للوصول إلى واقعٍ أفضل نتطلع إليه أكاديميًّا ومهنيًّا.