د. هدى الميموني
باحثة وكاتبة مغربية
مهمةُ الحفاظ على التراث قضيةٌ إنسانيّةٌ تهمُّ كلَّ البشر وليس شعبًا
أو حكومةً أو فردًا بعينه، فالتراثُ ملكٌ للإنسانية جمعاء، ومن يقلِّب
ناظريه ويبحر في عجائب التراث العالميّة يجد ما يدفعه كي ينطوي
تحت لواء حماية هذا التراث، ولا شكَّ أنَّ التراثَ الأثريّ أولُ من يدفع
فاتورة الحروب والإرهاب في العالم، فدائمًا كان من الآثـــار السيئــة
للحروب التي عانت منها الإنسانية - إلى جانب الآثـــــــار الاقتصاديّة
والاجتماعيّة والنفسيّة – ذلك التخريبُ الذي حدث للآثار باعتبارها
تراثًا إنسانيًّا عالميًّا.. والنماذجُ على هذا عديدةٌ ومتنوعة.
اختارت اللجنةُ الدوليّةُ للفنون في منظمة الثقافة والعلوم والتربية " اليونسكو “، وهي منظّمةٌ عالميّةٌ مقرّها باريس "برنامج ديجراسي/ الكتابة الإبداعية " ليكون موضوع جائزته هذا العام حول الإبداعات الكتابيّة لحماية التراث، وقد تأسّس هذا البرنامج في سانتا كروز شمال كاليفورنيا على بعد 45 ميلًا جنوبي سان فرانسيسكو، وقد أسّسه الدكتور كارل ديجراسي في ذكرى ابنته "باميلا"، وهي نحّاتةٌ وشاعرة، وذلك كمقرٍ لإقامة المبدعين، ومنذ ذلك التاريخ قدّم البرنامج " هدية الوقت The Gift of Time “ لثمانمائة مبدع. ومن يحصل على فرصة الاشتراك في هذا البرنامج هم المبدعون ذوو السمعة الرفيعة والمكانة المحليّة والدوليّة، ويهدف إلى دعمهم من خلال توفير التسهيلات كافة، وفرص التحاور وتبادل الأفكار، وتطوّر المفاهيم.
ويقع مقرُّ البرنامج على المحيط الهادئ، في مزرعةٍ ضخمة، وغابة تحوي طرقاتٍ مجهّزة. وفوق هذه الأرض؛ وعلى مدى خمسة آلاف عام عاشت قبائل " أوهلون " من الهنود الحمر في قرى صغيرة يمارسون حياتهم اليوميّة. واليوم قام البرنامج بالحفاظ على الأرض بصورتها الطبيعيّة وتوفيرها –كاملة- للمبدعين كي يقيموا فيها.
إلَّا إنَّ المأزق الذي تواجهه بلاد العالم كلها بدرجات متفاوتة هو الحاجة الي حماية الماضي؛ ولذلك عَمِلت منظمةُ الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) على تشجيع إحياءِ التراث الثقافيّ والطبيعيّ وحمايته في أنحاء العالم، باعتباره قيمةً بارزةً للجنس البشريّ، ثم اتّسع مفهومُ "التراث" ليصبح دليلًا للماضي وميراثاً للمجتمع الحاضر، يتناقله الأبناء عن الآباء، فكانت "فرنسا" أوّلَ من استثمرت التراث سيكولوجيًّا وماليًّا في الاقتصاد والسياحة، بعد ثورتها حينما أطلقت عليه "متاحف المجتمع" حيث استهدفت الحفاظ على الحرف اليدويّة التي تمثّل الهُوية التراثيّة (الفلكلور) لقطاعات المجتمع، والكلمةُ مكوّنةٌ من مقطعين الأول "فولك" بمعنى " مجتمع"، والثاني " لور" بمعنى "حكمة ".
كان هدف فرنسا إرساء ودعم الديموقراطيّة كمرحلة مهمّة في تاريخها بعد (التراث الدينيّ وكنوز الكنيسة تليها انتهاء مرحلة القصور الفاخرة وتراث الملوك..). وصودر التراثُ الدينيّ بعد الثورة الفرنسيّة، وأصبح التراثُ وفنونُ الفلكلور هما الفكرة البديلة للاتصال بكل طبقات المجتمع، كهدف قوميّ، ومنه ظهرت مبادئ المدنيّة.
في أعقاب هذه الأحداث استثمرت "منظمة اليونسكو" مضمون الحفاظ وحماية التراث بكلِّ أشكاله ومعانيه؛ وذلك في مؤتمرٍ عُقد في الولايات المتحدة في عام 1965 بواشنطن، وقد خرج بالعديد من التوصيات أهمها إنشاء "صندوق التراث العالميّ" من أجل حماية "مناطق العالم الطبيعيّة". وفي عام 1972 بستوكهولم (السويد) اتفقت كلُّ الأطراف على نصِّ "الاتفاقيّة الخاصة بحماية التراث الثقافيّ والطبيعيّ العالميّ" وأقرّها المؤتمرُ العام لليونسكو، بحيث يصبح أيُّ موقعٍ ذي قيمة تاريخيّة، وجماليّة، وأثريّة، وعلميّة، واثنولوجيّة وأنثروبولوجيّة، تراثًا عالميًّا.
وعن كيفية عمل هذه الاتفاقية، فإنَّ "اليونسكو" لا تجري أية توصيات للقيد، إلا إنَّه يجب أن يتضمن الطلب خريطة توضح بالتفصيل كيف يُدار الموقع، وكيف تتم حمايته. وتفحص لجنة التراث العالميّ كلَّ الترشيحات على أساس تقديرات تقنيّة عن طريق مجالس متخصّصة؛ وذلك طبقًا لمعايير الاختيار، بدلائل علميّة، بمعنى أنَّ الموقع إمَّا أنَّ يمثّل تحفةً من روائع العبقريّة الإنسانيّة المبدعة، أو قيمةً إنسانيّةً في حقبة زمنية، أو مثالًا بارزًا لمستوطَنٍ بشريٍّ تقليديّ، أو مرتبط بتقاليد حيّة، ومعتقدات، وله أصالة.
إهمالٌ فاضحٌ وخسرانٌ فادحٌ
لا شكَّ أنَّ التراثَ الأثريّ أوّلُ من يدفع فاتورة الحروب والاحتلال في العالم، فدائمًا كان من الآثار السيئة للحروب التي عانت منها الإنسانيَّة - إلى جانب الآثار الاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة – ذلك التخريب الذي حدث للآثار باعتبارها تراثًا إنسانيًّا عالميًّا.. والنماذجُ على هذا عديدةٌ ومتنوعة.
فعندما قامت إسرائيل باحتلال فلسطين عام 1948 قامت القوات الاسرائيليّة بطمس المعالم التاريخيّة للمسلمين، وكذلك للمسيحيين.. إسرائيل لم تُفرّق في التدمير والنهب بين التراث الإسلاميّ أو المسيحيّ، أو حتى الفرعونيّ، وتفوّقت على طالبان في أفغانستان، وقامت بحرق وتدمير الآثار التالية:
- دير القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس.
- دير راهبات القربان المقدس المعروف بدير الأخوات المصلحات.
- دير القديس يوحنا التابع للروم الأرثوذكس.
- كنيسة القديسين قسطنطين وهيلانة الملاصقة لكنيسة القبر المقدس.
- دير الملاك الرئيس التابع لبطريركية الأقباط الأرثوذكس الواقع فوق مغارة الصليب المقدس.
ولقد جاء في كتابٍ بعنوان " اليهود يعملون على محو المسيحيّة في البلاد المقدسة " تأليف عيسى نخلة ممثل الهيئة العليا لفلسطين؛ ما يلي:
"في يوم عيد الميلاد عام 1952 دمّر اليهود بالمتفجرات قريةَ (أقرط) المسيحيّة في فلسطين، ونسفوا كنيستها الجميلة، وفي أكتوبر 1953 دمّرت القوات اليهوديّة القرية المسيحية (كفر برعم ) في الجليل، وهدموا كنائسها ومدارسها، وفي 16 أبريل 1954 شنّت إحدى الطوائف اليهوديّة المتعصبة هجومًا على مقبرة الروم الكاثوليك في حيفا وكسروا 73 صليبًا، وحطّموا 50 تمثالًا للملائكة. ثم يمضي مؤلف الكتاب ويذكر أنَّه خلال عدوان 1967 قصفت القوات الإسرائيلية بيت لحم.
وقد ذكرت شاهدةُ عيان أمريكيّة تُدعى (نانسي نولان ) وهي زوجة الدكتور نجيب أبو حيدر الطبيب في مستشفى الجامعة الأمريكيّة في بيروت، في رسالةٍ مفتوحةٍ وجّهتها إلى المسيحيين في العالم الغربي عمّا شاهدته أثناء العدوان الاسرائيلي على القدس؛ فقالت: " بينما تعلن السلطات الإسرائيليّة للعالم أنَّ جميع الأديان ستكون موضع الاحترام والحماية؛ فإنَّ الجنودَ والشبّانَ الإسرائيليين يلقون بقنابل ذات رائحة كريهة في كنيسة القيامة، وأنَّ صوت الآذان الذي يدعو المسلمين إلى الصلاة الذي كان في السابق يُسمع خمسَ مراتٍ يوميًّا، لم يعد يُسمع في القدس، وهي ثالثةُ المدن المقدسة لدى مئات الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم".
وفي دراسةٍ صدرت عن معهد الدراسات الفلسطينيّة بعنوان " تدنيس الجبّانات المسيحيّة والممتلكات الكنسيّة في إسرائيل" جاء فيها أنَّ القوات الإسرائيليّة دمّرت الكنيسة الأرمنية، والمعروفة في التقليد أنَّها بُنيت فوق بيت "قيافا" رئيس كهنة اليهود في زمان السيد المسيح، وهي كنيسةٌ أثريّةٌ ترجع إلى القرن الخامس عشر.
وفي يوم 21 أغسطس 1969 قامت سلطاتُ الاحتلال الإسرائيليّ بحرق وتدمير المسجد الأقصى؛ الأمر الذي أثار استنكار العالم كله. وفي هذا المجال أصدر البابا الراحل "كيرلس السادس" (1959- 1971) بيانًا قال فيه: ( هزّتنا من الأعماق الجريمةُ النكراءُ التي وقعت على المسجد الأقصى الذي هو من أهم المقدسات العربية، والذي يقع في أقدس بقعة تتوجّه إليها قلوبنا جميعًا بالتكريم والتقديس، ويُعتبر الاعتداءُ عليها اعتداءًا على كلِّ الشعوب المؤمنة بالله وبالمحبة للسلام في العالم).
وللمرء أن يتساءل: "كيف نشب هذا الحريقُ في هذا الوقت بالذات الذي وقع فيه هذا الجرمُ الكبير تحت الاحتلال الإسرائيلي، مع أنَّه قد مضت مئات السنين ولم يحدث مثل هذا الحادث البشع الذي نعتبره جريمةً شنعاء في حقِّ مقدسات العرب مسلمين ومسيحيين؟!.
إنَّ الذي يحدث اليوم في القدس بعد هذا الحادث الخطير لا يجوز التهوين في أمره، فهو في ذاته كارثةٌ دهماء وإثارةٌ مغيظة للشعور الدينيّ الذي لا بد أن يلتهب في حرارة النار وقوتها، ولا يمكن بعد ذلك أن يتنبأ بالنتائج الوخيمة التي تترتب على هذا العمل المؤلم الذي يتحدّى مشاعر الجماهير في مقدساتها ومحرماتها. إنَّنا نعلن غضبنا على كلِّ من تسبّب في هذا الخسران الفادح، ونستنكر بشدّة هذا الإهمال الفاضح للمقدسات، ونحمِّلُ إسرائيلَ تبعةَ هذا العمل الاستفزازيّ والنتائج المؤسفة التي تنجم عنه ......الخ)
كما قامت السلطاتُ الإسرائيليّةُ بنزع "دير السلطان" من ملكية الأقباط في القدس، وهو الديرُ الأثريُّ الذي أهداه السلطان صلاح الدين الأيوبيّ للأقباط مكافأةً لهم على موقفهم من الحملة الصليبيّة، وأعطوه للأحباش؛ وذلك عقابًا للكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة على موقفها المعادي للعدوان الإسرائيليّ على مدينة القدس. فأثناء انشغال الأقباط بصلاة قداس عيد القيامة المجيد في عام 1970، قامت السلطات الإسرائيليّة بطرد الرهبان الأقباط من الدير، وتسليمه للرهبان الأحباش رغم المحاولات المضنيّة التي بذلتها الدبلوماسيّة المصريّة بالتعاون مع الكنيسة القبطيّة من أجل استعادة ملكية الدير للأقباط .
تدميرٌ مبرمجٌ
أمَّا عن سيناء المصريّة فلقد قامت سلطاتُ الاحتلال الإسرائيلي بحرق جزءٍ من "دير سانت كاترين" في سيناء، وجاء ذلك خلال عام 1971، وهو من أقدم وأعرق الأديرة في العالم، إذ يرجع تاريخُه إلى القرن السادس الميلادي، وقد امتدّ الحريقُ إلى جانبٍ من مكتبة الدير الثمينة، كما دُمّرت بيوت الرهبان.
ومن المعروف أنَّ في الدير كنوزًا أثريّةً لا تُقدّر بمال، إذ تحتوي مكتبة الدير على ما يقرب من حوالي( 4245 ) مخطوطةً بمختلف اللغات، وأيقونات يرجع تاريخُها إلى القرن الخامس الميلادي. وتؤكِّد المصادرُ العلميَّة أنَّ إسرائيل أرادت سرقة كنوز الدير؛ فعمدت إلى إشعال النار في الدير حتى تخفي معالم جريمتها. ولقد أصدرت منظمة اليونسكو بيانًا يدين إسرائيل ويحمّلها مسؤولية هذا الحادث.
وأثناء الاحتلال الإسرائيلي لسيناء –أيضًا- قام العدو الإسرائيليّ بسرقة العديد من الآثار المصريّة الموجودة بالمنطقة. ولقد أشار الرئيسُ السابقُ لهيئة الآثار المصريّة المرحوم الدكتور أحمد قدري أنَّه كشف أعمالَ نهبٍ قامت بها إسرائيل للآثار المصريّة في سيناء؛ وأكَّد في الندوة التي نظّمتها له نقابة الصحفيين في مارس 1988 أنَّ إسرائيل هي العدوُّ الأساسيّ لمصر، وهي تعمل جاهدةً على تفريغ فكر التراث المصري من هُويته الثقافيّة والتراثيّة.
ومن أشهر حوادث التدمير التي حدثت للآثار العراقيّة، هو نهبُ المتحف العراقيّ في بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، إذ تعرّض المتحفُ لعمليات نهبٍ وسلبٍ منظمة استمرت يومين على التوالي، وتمت عملية النهب بالتنسيق مع ثلاث مجموعات:
1- المجموعة الأولى: قام بها أفرادٌ عاديون ليس لهم علاقة بالآثار، وإنَّما اقتصرت سرقاتُهم على خزانة المتحف ومرتبات الموظفين العاملين فيه.
2 - المجموعة الثانية: نهب أفرادُها قاعات المتحف وسرقة التحف المعروضة.
3 المجموعة الثالثة: سرقت التحف والمقتنيات الموجودة بالمخازن.
ولقد قدرت هيئةُ "اليونسكو" مجموعةَ التحف التي فُقدت بحوالي 170000 قطعة أثريّة من أندر التحف التي تحوي كنوز الحضارة السومريّة والبابليّة والآشوريّة والعربيّة الإسلاميّة. وظلَّ المتحف مغلقًا بعد عمليات النهب والسلب( 6 ) سنوات حتى أُعيد افتتاحه مرةً أخرى في يوم 22 فبراير 2009. ولم تقتصر عملياتُ النهب والسرقة على المتحف الوطنيّ العراقيّ فقط؛ بل امتدت –أيضًا- إلى الآثار الخارجيّة. وتذكر الدكتورة زينب بحراني أستاذة الآثار الشرقيّة في جامعة كولومبيا أنَّ الطائراتِ الأمريكيّة حينما حلّقت فوق مدينة بابل الأثريّة أزالت طبقاتٍ من التربة الأثرية، كما تهدّم سقفُ معبدِ "نابو" إله الحكمة والكتابة عند البابليين و"نيمار" اللذين يرجعان إلى 6000 سنة قبل الميلاد. كما حدث تخريبٌ في بوابة عشتار، وهي البوابة الثامنة لمدينة بابل الأثريّة بناها نبوخذ نصر عام 575 ق.م.
وفي أفغانستان وبناءً على فتوى من "الملا عمر" أمير جماعة طالبان، طُلب هدمُ تمثالِ "بوذا" الأثريّ الموجود هناك بدعوى أنَّها أصنام. وعندما علم مدير "اليونسكو" بهذه الأمر دعا أعضاء المؤتمر الإسلامي الـ45، والتمس منهم التدخل لدى الملا عمر لمنع هذه الهجمة ضد تراثٍ إنسانيٍّ خالد؛ وبالفعل أصدر أعضاء المؤتمر الإسلامي التماسًا رفعوه إلى الملا عمر لوقف عملية التدمير، إلا إنَّه ردَّ عليهم بقوله:"يجب على المسلمين أن يكونوا فخورين بتحطيم الأصنام، ونحن نحمد الله أنَّنا قمنا بتحطيمها". وبالفعل وفي يوم 2 مارس 2001 بدأت حركة طالبان في ضرب التمثال الأثريّ بالديناميت، ولم يستجب أعضاءُ "حركة طالبان" لالتماس أعضاء المؤتمر الإسلامي ولا لدعوة "اليونسكو" لوقف عملية الهدم. تلك هي ثقافة الإرهاب..
المراجع:
1- د. زاهي حواس -الحروب ونهب التراث ،علاقة متبادلة - مركز المحروسة للنشر. القاهرة.2019 م.
2-Artwork reproduced courtesy of Abroiginal Artists Agency , by Australin Consolidated Press, Sydney . Condensed from the Observer – London2017.
3--UNESCO World Heritage Centre - World Heritage in Dange