د. محمود سعيد
ناقد مسرحي مصري
العنوانُ هو الاسمُ الذى يمثّل العملَ ويعبر عنه، وهو العلامة البصريّة الأكبر التى تتصدر العمل وتمثّله، فهو لحظة الاتصال الأولى بين القارىء والنصِّ، باعتباره مفتاحًا أساسيًّا يتسلّح به القارىء للوصول إلى أعماق النصِّ والحافز إلى اقتنائه.
وقد حظي العنوانُ بأهميّةٍ كبيرة فى مسرح "بلال المصري"، وفي نصِّه المسرحيّ الذي نحن بصدده " تواريتُ كي لا أختفي" حيث لا مدخل للنصِّ إلا من عنوانه، ولا فهم للعنوان إلا من خلال النصِّ الذى ينتمى إليه، فالعلاقة بينهما حميميّةٌ ومتداخلةٌ، وإذا تحقّق لنا ذلك، يمكن أن نعرف عمقه الدلاليّ ونلامس حقيقته الجماليّة، فهو بمثابة القمة من القاعدة أو الرأس من الجسد، فلا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر، وإذا حدث وافتقدنا واحدًا منهما صار العمل ناقصَ الهُويّة.
والمؤلفُ يمتلك قدرةً شديدةً على استنطاق العناوين المميزة، فالعنوان فى مسرحه يرسم بلغته المكثفة تصوّرًا في ذهن القارئ، لما بصدد قراءته في النص المعنون، أو يثير أسئلةً فى ذهن القارىء تبحث عن إجاباتها فى ذلك النصِّ، ومن هنا يبرز مدى ارتباط العنوان بالنصِّ، فيغدو العنوانُ عتبةً مهمّةً ترشد القارئ في قراءته للنص ما بين القرار (تواريتُ) والهدف ( كي لا أختفي).
ويظلُّ العنوانُ علامةً فارقةً لدى المؤلف، وكما يقولون إنَّ العنوان يفضي إلى النصِّ.. كما أنَّ النصَّ يفضي إلى العنوان؛ بمعنى أنَّ غرائبيّة العنوان لا تبدو فى المنطوق فقط، بل فى التوظيف الدلاليّ عبر اللغة والشخوص والمواقف والحوار؛ ولذلك نجد الكاتب يحاول- قدر المستطاع- أن يجعل العنوان مدخلًا لفهم النصّ.
فالعنوانُ إشارةٌ إلى ما تحتويه المسرحيّةُ وفق رؤية الكاتب وأهدافه، فمفتاح النصِّ يلتصق بالعنوان، إذ العنوانُ قوّةٌ تثير في المتلقي فضوله، ويطالب المتلقي إعمال عقله. فالعنوان عبارة عن رسالة، وهذه الرسالة يتبادلها المرسل والمرسل إليه، فيساهمان في التواصل المعرفيّ والجماليّ، هذه الرسالة مسنّنة بشيفرة لغويّة، يفكّكها المستقبل عبر أحداث المسرحيّة وشخوصها.
وكما قلنا العنوان يفضي إلى النصِّ، كما أنَّ النصَّ يفضي إلى العنوان، نحن أمام عنوان مربك حقًا، يحمل في طيّاته السؤال والإجابة، القرار والنتيجة، المقدمات والخواتيم، في طرحٍ دراميٍّ مراوغ، كاشفٍ لحيرة الإنسان عندما تتقاذفه الأقدار الأكثر تعقيدًا، لدرجة أنَّه لا يعي دوره ولا كينونته، بل لا يرى ذاته نفسها داخل إطارٍ محدّد، هو كالريشة تتقاذفها الرياح، يعشق الحياة، إلا إنَّه يحيا في قلب الموت، السكون في خضم الجحيم، كما تقول كلمات المسرحيّة: "الوفاءُ ذئبٌ أكل نفسه ثم اختنق بأنيابه" المسرحيّة ص)4(؛ لتقرّر كلمات المسرحيّة أنَّ الصراعَ شديدُ التعقيد ما بين الداخل والخارج، الحياة والموت، الوفاء والخيانة، هي مجموع من المتناقضات تؤطر الحدث والشخصيّة في آنٍ واحد.
حضورُ الموت أم استدعاؤه؟
عندما يتحوّل الموتُ إلى سلاح الذاكرة الحيّة التي تختزن قدرًا وفيرًا من الأحداث والرموز الثقافيّة، فإنّه يقوم –عبرها- على إشهار الكتابة بكل ما تختزنه من حدود معرفيّة وحدود خياليّة في وجه الموت الذي يتربص بالجسد، وهو بعبارة أخرى "يفضح عريَّ الموت بالإشارة إلى كونه لا يستطيع أن ينال من ضحيته سوى الأعضاء الهشّة، لكنّه في المقابل لا يقوى على ابتزاز حمولته الرمزيّة تلك التي ستمكّنه من المكوث خالدًا في ملكوت الأفكار والتوهج الرمزيّ والجماليّ". ولكن خلف هذا الوعي تكمن فكرة أنَّ هذا الميت حيٌّ بطريقة ما، في مكانٍ ما، بمعنى أنَّه سيستمر في مزاولة ما كان يفعله من قبل، حتى بعد موته ويقول الصوتُ:" حقًا تركتُ كلَّ أسباب الموت بالخارج" المسرحيّة ص)٧(. غريبةٌ هي لعبةُ الموت وحضورها في النصِّ المسرحيّ، هي لعبةٌ شديدةُ الصعوبة، تحتاج إلى أكثر من مكوّن في يد المبدع منها..
(ازدواج المعنى – تنافر الإدراك - حيّز الضحية – الروح والذات المفارقة) ليبدو الموت وكأنَّه مفارقة شديدة التكثيف في يد الكاتب، إذ يتشكّل معجم الموت في النصِّ المسرحيّ إفرادًا وتركيبًا بنسب عاليّة، وهذا ما يجعل عينة الدراسة مكرّسة لتجربة الموت بكاملها؛ فألفاظ الموت وتراكيبه تخترق الفقرات والحوادث من البداية إلى النهاية، ويتنوّع هذا المعجم تبعًا للدلالات التي تراهن عليها الرؤية الإبداعيّة إلى الموت، وهي دلالاتٌ تحيل على حقول متنوعة تكتسب أبعادها من التقاطعات المعرفيّة والثقافيّة التي تحبل بها المسرحيّة، حيث الخلفيّة الثقافيّة التي يصدر عنها الكاتب المسرحيّ، وهو يرفع مسرحيته في وجه الموت، تنسجم تمامًا مع المقصديّة المراهنة على ملامسة الحقيقة الوجوديّة؛ لدرجة أن يقع الإنسان في منطقة وسطى، لا هي الحياة ولا هي الموت الكامل، هي اللاحياة واللاموت؛ حيث تقول كلماتُ المسرحيّة: "إذن لماذا تركتني في هذا الشتات دون أن أحيا ودون أن أموت، المسرحية ص)٩(.
ولأنَّ المسرحَ لعبةُ الخيال والافتراض؛ فإنَّه قادرٌ على إعادة النظر في أكبر القضايا، ومناقشة أكثر المفاهيم والتصوّرات رسوخًا، والعبث – نعم العبث – بأعرق التقاليد؛ فالمسرحُ الحقيقيُّ تقويضٌ للأفكار المهزومة التي تحدُّ من خيال الأفراد والمجتمعات، وتئدُ التطلعات نحو عالم أجمل وأرقى. ورؤية الموت على هذا النحو هي دعوة ضمنيّة للتخلي عن النظر إليه بوصفه غيابًا وانسحاباً من عالم الأحياء، إلى رؤية أكثر رحابة عندما يتحوّل إلى حضور، ولكن بطريقة مخالفة للحضور الجسديّ الحيويّ الملموس، وعلى هذا النحو يضيء النصُّ جانبًا مغيّبًا في التجربة الأهم على مدار حياة الإنسان، ويدعو – في الوقت نفسه – إلى قبولها وتأملها دون التشبث بظاهرها القريب، والاكتفاء بالحداد والتهالك على إشهار تجليّاته!!.
ليتحوَّل الفعلُ الدراميُّ لديه كالتجربة الإنسانيّة التي يراها المتلقي بالعين المجردة، ويحياها بالفكر والإحساس، ويسهم فيها بالقبول والرفض.
"المسرحُ حدثٌ فنيٌّ ملمحه الأساسيّ (والمختلف) هو العلاقةُ الخاصّة التي يقيمها بين الحقيقة والخيال. في المسرح يصبح الخيال حقيقة وتتحول الحقيقة إلى خيال حقيقي، وحقيقة متخيّلة يجبرنا المسرح- بسبب طبيعته الخاصة- على التفكير في معنى الحقيقة والواقعيّة في الفن". كما يجبرنا الكاتب على إعادة قراءة الموت، الحكاية، أم حكاية الموت؟ هذا هو السؤال، أو هو الفعل واللافعل، "إنَّنا لا نتواصل أبدًا مع الأشياء كما هي، بل كما نبنيها، لذلك، لا توجد حقيقة فريدة من نوعها وموحّدة، مسبقة وخارجيّة، حيث إنَّ حقيقة كتلك هي بناء معرفيّ موضوعيّ، اعتبارًا من اللغة والثقافة. هذا الفعل هو ما يمنح مخططنا معنى، حيث يحاول تفسير كيف نبني تلك الحقيقة ودرجة الاتساق والثقة التي نمنحها لكل مستوى من الحقيقة المبنيّة".
ويبدأ المؤلف على مدار المسرحيّة رصد اللعبة ما بين الحقيقيّ والمتخيل، الممكن والمستحيل، الواقعيّ والمحتمل، القوّة والضعف، ببساطة، نحن أمام الموت عندما يحضر.. لكن السؤال هل يحضر الموت؟!، هل يأتي أم نذهب إليه نحن؟!، قبل الإجابة لزم علينا أن نشير إلى أنَّه يحتاج إلى المسرح، لمنظوراتٍ مسرحيّة تُقدم في مكان وزمان ما، لتحقيق وجوده، "إنَّ الموقف التوصيليّ الخاصّ بالمسرح هو جوهرُ العلاقة – الجدليّة أحيانًا – التي من المعتاد تأسيسها بين المسرح والزمن الحاضر، ويجدر –بالفعل- أن نقدم الحاضر كزمنٍ للأداء التمثيليّ وللطابع الدراميّ (ذي التمثيل المباشر) أمام الماضي كزمن للمؤلفات وللطابع السرديّ (ذي التمثيل غير المباشر)".
لتبدو المسرحيّة وكأنَّها حلمُ يقظةٍ تارةً، وكابوسٌ تارةً أخرى، وحقيقة يجب التقصّي حولها معظم الوقت خاصّة: "تركتُ أحلامي وقلبي وكلَّ شيء بالخارج، كي لا أخاف…" المسرحيّة ص(11). عندما يتحوّل الموت إلى سلاح الذاكرة الحيّة التي تختزن قدرًا وفيرًا من الأحداث والرموز الثقافيّة، وهو بعبارة أخرى "يفضح عريَّ الموت ويتهمه بالإشارة إلى كونه لا يستطيع أن ينال من ضحيته سوى الأعضاء الهشّة، لكنَّه في المقابل لا يقوى على ابتزاز حمولته الرمزيّة تلك التي ستمكّنه من المكوث خالدًا في ملكوت الأفكار والتوهّج الرمزيّ والجماليّ". خاصّة في تأكيده على لعبة الذات، والذات هي "نمطٌ أوليٌّ، أو نموذجٌ بدائيٌّ من بين أنماط كثيرة، كالحياة والموت، والليل والنهار، والرجل والمرأة، والجنة والجحيم". الصوت: "ارسم على النافذة شجرتين بينهما أرجوحة وسأدفعك بكل الاتجاهات…" المسرحيّة ص(11).
في الفعل المسرحيّ إدراكٌ متميّز للذات عبر الآخر، ومن خلال هذا الإدراك المتميّز ينشأ الوعيُّ الخاصُّ بالشخصيّة، وعبرها تظهر – بشكل خاص – فكرة الأنا المنقسمة على ذاتها إلى داخل وخارج يتصارعان، هناك تصبح الأنا، حالةً أخرى، حالةً من التأكيد للذات والنفي لها في الوقت نفسه، حالة سلبية وإيجابية في الوقت نفسه، عقلانيّة منضبطة ولا عقلانية، مضطربة في آن معاً.
وهنا تبدو الأسئلة في ثوب البطولة لا الإجابات:
- كيف تقوم الشخصيّة المسرحيّة بالفصل بين الواقع والخيال والوصل بينهما أيضًا؟
- ما أصول لعب الازدواج المتأصل الملائم لطبيعة الشخصيّة المسرحيّة وطبيعة عمله؟ هل هو تلبّسٌ أم التباس؟ صدقٌ كاذب؟ أم كذبٌ صادق؟
- ما علاقة المسرح بالبحث عن الهُوية وبالعلاقة بين الأنا والآخر؟
- ما طبيعة تلك الثنائيّة التقابليّة بين الذات والآخر؟ هل هذه المفاهيم مفاهيم طبيعيّة عالميّة، أم هي مفاهيم ثقافيّة خطابيّة؟
- ما الذي أدّى إلى أن تأخذ هذه العلاقة شكلًا تراتبيًّا، تأتي فيه هُوية الذات/الأنا –دائماً- قبل هُوية الآخر/الموضوع فتحيله إلى موضوع تمارس عليه كل سلطاتها؟
أسئلة شائكة معقّدة يدشّنها النصُّ.
ثنائيّةُ القاعدة والاستثناء (ثقافةُ العبث المسكوت عنه)
يلعب المؤلفُ هنا على لعبة العبث في ظلِّ المسكوت عنه، عبث الحياة، والموت عبر مجموعة من الأسئلة تنطلق كالطلقات المدويّة، وعلى الرغم من أنَّ المؤلف يكتب لها الإجابات، إلا إنَّها إجاباتٌ أكثر غموضًا ومراوغة من السؤال.
ليكون هذا الاختيارُ أداةً لمساءلة الفرد عن كل تصرفاته، لكن الاتّساق الذي يحكم مفردات الثقافة عمومًا، يصيبه نوعٌ من الخلل والتمزّق الذي يضيق أو يتسع، وقد يتحوّل التمزّق إلى نوعٍ من (التنافر) الحاد الذي يهزُّ الثقافة هزًّا عنيفًا، ومن ثم يتحوّل الاختيار الذي يمتلكه الإنسان لينظم مسلكه الحياتيّ إلى عمليّة عشوائيّة تهدّد صاحبها بالضياع، وتهدّد واقعها بالفساد والعبث، لدرجة أنَّ الموت أصبح هو الحل، وكأنَّه البديلُ عن حياة مترهلة عشوائيّة، "وتزداد هذه العشوائية العبثيّة مع وقائع الحروب وتوابعها التدميريّة، إذ تتحول الثقافة إلى طبيعة (سوقيّة) تحكمها قوانين البيع والشراء، ومن ثم تتغير قائمة القيم، ويكون في أعلاها البحث عن المال بكل الوسائل المشروعة، والبحث عن المتعة الحلال والحرام على حدٍّ سواء، بل ينكسر الحاجز بين الحلال والحرام"، والموت والحياة.
والحقيقة أنَّ ذلك كله يندرج في سياق إطارٍ عام يعيشه العالم اليوم، إذ إنَّ العالم بقدر ما فيه من انتظام تتخلله الفوضى التي لا تحتكم إلى قانونٍ بعينه ينظم مكوّناتها، وقد امتدت هذه الفوضى من العالم الخارجيّ إلى العالم الداخليّ للإنسان، فبات يعيش حالاتٍ نفسيّةً تنتظمها فوضى من نوع خاص، كان لها ناتجها السلوكيّ الذي يشوبه الاختلاط والعبث، ومن ثم اتّجه هذا الإنسان المعذب بتناقضات الداخل والخارج، إلى الخلاص من هيمنة النظام الذي يقيّده، وإلى العبث بما يحيط به من منظومة ثقافيّة ومجتمعيّة بكل ما فيها من عادات وتقاليد تتسلط على الأفراد وتحدُّ من حريتهم، وهنا لا يكون للعبث هدف إلا مجرد وجوده، أي أن العبث يكون هدفًا في ذاته.
لقد كان للعبث حضوره المركزي في تشكيل كثير من السرديات الحديثة، فجاءت في جانب كبير منها فوضويّة الطابع تدميريّة لكل انتظام، وقد كانت هذه التدميريّة خطوة ضروريّة لتكوين واقع آخر بديل لا يعرف الحدود أو القيود.
وهنا يحلُّ الاستثناء محلَّ القاعدة، ويتحوّل المجتمع إلى منظومةٍ قابلةٍ للتمزّق تتحرك- كيفما اتفق- دون وجهة محدّدة، وقد انعكس ذلك على الواقع النفسيّ للإنسان الذي باتت تستنزفه أحزانُه ومخاوفُه، فانصرف إلى الصمت تارةً، وانطوى داخل صدفته النفسيّة المعتمة تارةً أخرى، يعيش موته التقديريّ تمهيدًا لموته الفعليّ؛ بدرجةٍ جعلت من هذه النصوص تجسيدًا لعبثيّة الواقع، وما نتج عنها من قلق على المصير الذي ينتظر الإنسان في مواجهة هذا الكم الهائل من الحماقة.
دلالاتُ الأنا والآخر
الكتابةُ المسرحيّةُ زمنٌ جماليٌّ في زمن الإبداع الساحر، هي حفرٌ ذكيٌّ في الشعور واللاشعور، في الظاهر والخفي من حياتنا، إظهار ما اختبأ واستتر في خبايا الحياة، وفي قلق الإنسان الوجوديّ، وفي التاريخ والمعيش. بالكتابة وبالاختلاف تتحدّد الحياة بمعاني الجديد، في بيان المتخيّل الدراميّ، وهو يسافر في هذا الزمن ليدرس نبضه، ويستمد منه إشعاع التعبير المفضح عن الكلام غير المباح، في حوارات شخوص النصِّ المسرحيّ، كل ذلك في أجواء لعبة الأنا والآخر.
"عندما تتدخل هذه الكتابة جنسها الأدبي بهذا الاختلاف، وتأخذ هُويتها من طبيعة انتمائها للنوع الذى تؤسّسه، فهذا يعني أن الدخول في زمن التجنيس وهو تأسيسٌ للحظة الدخول، إلى بهاء الامتداد بالكتابة في هذا الزمن، وتلوين دلالات الصامت والناطق فيها بجمالية المحتمل، وإضفاء شرعيّة انتمائها إلى العالم الأدبيّ والفنيّ العربيين.. بممكن يمكن تحقيقه في مستويات البنية الأدبية والفنية الدرامية، ومعناه -أيضًا- أنَّ هُوية الكتابة، وهي ترسم خصوصيات نوعيها الأدبيّ والفنيّ، تكون قد حوّلت لحظة البداية إلى لحظات الإنجاز في امتداد لحظات دفق الكلام وقصيدته المنفتحة على قضايا الذات والموضوع والعالم"، كهدف أسمى للمؤلف. حيث يسأل المؤلف:" وماذا بعد كل هذا القتل والموت بالخارج". المسرحيّة ص(22(.
تتجلى الأنا في هذه الآلية وقد تماهت مع المخاطب الآخر، تتجسد فيه فتصبح بديلًا عنه؛ بل إنَّها في أكثر الحالات لا تكاد تعطي للآخر مساحةً للصوت أو الحركة، كما حاول النصُّ أن يؤكّدها كثيرًا، حيث لعبة تبادل المراكز، لدرجة أنَّه لا ينبغي أن نعتقد أن صمت الآخر يُعدُّ عاملًا سالبًا في الخطاب المسرحيّ، حيث فجّر الآخر بصمته الذات المتكلمة، فكانت هذه الآليات التعبيريّة قد جعلت من أنا المبدع واحدةً من مفاتيح عوالم الإبداع.
"هذا الآخر، هو نقيضي، وشرط وجودي أو العكس... وهذا الآخر في حالتنا قد يكون شريكًا أو غريبًا.. وقد يكون صديقًا وقد يكون عدوًا"... وهذه الثنائيّة قد تخفت حدّتها أو تزداد، وقد تبدو ظاهرةً واضحةً للعيان، أو تكمنُ، فتبدو خافيةً غير مرئيّة أو محسوسة، تبعًا لعوامل كثيرة داخليّة وخارجيّة، وتبعًا لشروط اجتماعيّة وتاريخيّة متعددة.
من الواضح أنَّها ثنائيّة موجودة تحتاج إلى تأملٍ وتدبّر، ذلك أنَّ فهم الآخر يستلزم توفّر رؤيّة عقلانيّة عميقة عن الذات أولًا. وهذه الرؤيّة العقلانيّة المتعمقة، هي في جوهرها، رؤيةٌ نقديّة بالضرورة، للتاريخ ماضيًا وحاضرًا، ومستقبلًا.. هي رؤيّةٌ تعتمد نظرةً واقعيّة، لا تفرط في تمجيد الذات أو التحقير من شأنها، ولا تبالغ في الإعلاء، من شأن الآخر، أو التهوين من أمره؛ من هنا تأتى أهميّة صوت "الأنا" في مواجهة صوت "الآخر" في المسرح، وكي تتضح هذه في محاولة لفهم الآخر
(الأنا/الآخر) والبطل المهزوم.
تبرز هذه الثنائيّة في ضوء مشروع بطلٍ ناقصٍ مهزومٍ، حيث تنقسم الذات لديه إلى ذاتٍ واقعيّة تجسّدها الأنا الغافلة، وذاتٍ مثاليّة تمثّلها الأنا التي تحلم أن يكون عليها حيث تنقسم صورة الذات إلى صورة واقعيّة.. وهي ما يرى الشخص نفسه عليه في الواقع، ثم إلى صورة مثاليّة وهي ما يطمع الشخص أن يكونه، كما يمكن النظر إلى صورة الذات- أيضًا - من خلال منظور خارجيّ، أي الطريقة التي نعرض بها أنفسنا على الآخر، فنحن نعرض أو نُظهر أنفسنا في حالة الذات الاجتماعيّة وفقاً للطريقة التي يرانا بها الآخرون، والتي نرغب في ترسيخها في أذهانهم عنّا، أمَّا الذات الخاصة الداخليّة فهي ما نرى أنفسنا عليه دونما حاجة لارتداء الأقنعة، وكل التي تكون أقرب إلى عالم الخارج الاجتماعي منها إلى عالم الداخل الحقيقيّ.
وقد ألحَّ المؤلف على لعبة البطل المهزوم، وباتت الهزيمةُ هي إحدى علامات النصر الحقيقيّ، حتى لو كان الموتُ هو السبيلُ، وهو الناتجُ، إذ تحوّل الموتُ إلى رمزٍ للحياة. في غيبة الفعل الحيّ تتحوّل حواراتُ الشخصيات إلى مواجهات قاسيّة، تتحوّل الشخصيات إلى محقّقين تارةً، وإلى متّهمين تارةً أخرى، ويتحوّل الضحك إلى مرارة (ينخرطان في موجةٍ من الضحك.. لكنَّه ضحك عبثيٌّ، نشعر من خلاله بأنَّهما لا يضحكان وإنَّما يبكيان من الخيبة والهزيمة).. في غيبة الفعل تحاول الشخصيات ستر أنفسها بالأقنعة، وهي –بالفعل- لعبةُ أقنعةٍ متبادلة بين الإنسان والآخر.. نوعٌ آخر من الشعور بالانقسام النفسيّ بين عالم الإنسان وعالم الآخر، بين دنيا الفاني ودنيا الثاني ومعطياته الساحرة. لتبدو هنا مفردات لعبة الموت في أكثر من صورة.
نلتقي حول مفارقة مميزة هي سؤال الموت، وربما موت السؤال، هي منطقةٌ مربكةٌ وفخٌّ وضعنا فيه المؤلف، وأحكم إغلاقه بدرجة تجعل كلًا منا لديه فرص متساوية في البقاء والهروب، في الإقدام والإحجام.
هي لعبة الاختيار ما بين اللاحياة واللاموت، هي لعبة الفقد ذاتها، فقد الاختيارات، بالرغم من أنَّ المؤلف جعلها متاحة.